علم نفس الجنين علي وطفه

علم نفس الجنين

الحمل تجربة بيولوجية تتميز بدرجة عليا من الأهمية والخطورة في حياة المرأة الحامل، وهي تجربة تتأرجح بين ثنائيات نفسية متعددة ومتناقضة في آن واحد، وتتجسد هذه الثنائيات في جدل العلاقة بين الخوف من هذه التجربة والشجاعة في الإقدام على معايشتها، في ثنائية السعادة والألم، وثنائية الخوف من الموت والرغبة في إنجاب الحياة.

إذا كانت المرأة في مرحلة الحمل هي أحوج ما تكون إلى الرعاية والحنان والحب والمساندة في تكليل تجربتها بالنجاح، فإن الجنين الذي ينمو في أحشائها لأشد حاجة منها إلى مثل هذه الرعاية والحماية والحنان على المستويين النفسي والبيولوجي، ويتجلى ذلك بوضوح حين ندرك أن صعوبات الحمل وآلامه ما هي إلا صعوبات عارضة ومرحلية بالنسبة للأم الحامل، ولكن هذه الصعوبات قد تترك بصماتها آثارها السلبية على مستقبل الجنين في مرحلة لاحقة من حياته، أي بعد ولادته بسنوات تقل أو تكثر.

وفي هذا الصدد يقول سامويل توليردج: (إن الأشهر التسعة لحياة الإنسان في رحم الأم تفوق من حيث أهميتها وخطورتها حياة الكائن الإنساني برمتها".

الجنين والمحيط الخارجي

يعتقد الكثير من الناس أن الجنين يعيش في عزلة عن المحيط الخارجي وتأثيراته المتنوعة، وذلك لما أحيط به من رعاية وحماية طبيعية في رحم الأم، ولكن هذه الفكرة قد شهدت تطورا ملموسا في العقود الأخيرة من ذلك القرن، وبدا رأي ساميول السابق الذكر يحتل مكانا بالغ الأهمية في الدراسات النفسية والسلوكية، فالطفل يتفاعل ويستجيب لمثيرات الوسط الخارجي ويتأثر بها إلى حد كبير.

ومن الجدير بالذكر أن الحكمة النسائية القديمة قد أشارت الى الأهمية والخطورة اللتين تتربان على أشهر الحمل في تأثيرها على صحة الجنين وبنيته، ومن المدهش أن هذه الحكمة لم تقتصر على الاهتمام بالجوانب البيولوجية والصحية للحامل وإنما تعدت ذلك إلى الاهتمام والتركيز على الجوانب النفسية في حياة الحامل.

كانت حكيمات النساء يدعون الحوامل إلى تجنب جميع أشكال القلق والتوتر الانفعال لما في ذلك من تأثير سلبي على صحتهن وعلى أجنتهن في آن واحد، ولم تقتصر هذه النصائح على دعوة الحوامل إلى الابتعاد عن هذه المثيرات السلبية وإنما كانت تدعو إلى التفكير في الأشياء الجميلة وقراءة الشعر والاستماع إلى الموسيقى الهادئة والجميلة.

وإذا كانت الهوة قد أصبحت اليوم على درجة عليا من العمق والاتساع بين معطيات العلوم الحديثة ومعطيات الحكمة القديمة فإن هذه الهوة لم تمنع العلماء من الاعتراف بالجوانب الموضوعية للحكمة القديمة والتي تؤكدها التجربة العلمية وذلك هو حال المعطيات النفسية التي تتصل بحياة الحامل النفسية وتأثير اضطراباتها على حياة الحامل والجنين في آن واحد.

تؤكد العلوم السلوكية اليوم أن الجنين لا يعيش في عزلة عن المحيط الخارجي الذي يعيش فيه، كما تؤكد أهمية البيئة الخارجية في التأثير على نمو الجنين ومسار تطوره وحياته المستقبلية، ومن البديهي اليوم على المستوى الفيزيائي أن نقول أن البنية البيولوجية للجنين خلال مرحلة الحمل مرهونة بالشروط البيولوجية للأم الحامل وأن الجينات الوراثية تتحدد بطبيعة البيئة الفيزيائية للأم، وبعبارة أخرى يمكن القول إن صحة الجنين مسار نموه مرهونان بمدى ما تتمتع به الأم الحامل على المستوى البيوفيزيائي والعصبي، وتلك حقيقة هي اليوم من عداد الحقائق الراسخة التي لا تقبل الشك.

الحالة النفسية للحامل والجنين

ما زالت العلاقة بين الحالة النفسية للأم الحامل وتأثير ذلك على طبيعة النمو عند الجنين مسألة حيوية يباشرها الباحثون ويستنفدون طاقاتهم لتحديد طبيعة هذه العلاقة ومعرفة قانونيتها.

تشير الدراسات النفسية إلى أن سلوك الجنين في داخل الرحم مرهون الى حد كبير بالشروط التي تحيط بالأم الحامل، وتؤكد التجارب أن الجنين في الأشهر الأخيرة من الحمل، يستجيب انفعاليا للضجة العالية التي تحدث قرب الأم الحامل، وهو بالتالي يتحرك بسرعة عالية حين حدوث أصوات قوية ومباغتة قريبة منه وهذا يعني أن الجنين لا يعيش في عزلة عن الوسط الخارجي ومثيراته بل يتفاعل معه ويستجيب لمثيراته المختلفة، وهذا يعني أنه من الممكن تشريط الجنين في المرحلة الأخيرة من الحمل أي أننا نستطيع أن نثير لديه ردود أفعال محددة في داخل رحم الأم عن طريق المثيرات الخارجية، ويمكن لنا بالتالي أن نحدد الشروط المناسبة لنمو أفضل وحماية الجنين عن الشروط التي تنعكس سلبا على بنيته النفسية.

وتكمن المسألة الأساسية على المستوى العلمي في تحديد الأثر الذي تتركه الشروط الخارجية على حياة الجنين ونموه المستقبلي وتتفرع هذه المسالة إلى عدد من التساؤلات المحورية وأبرزها يكمن في الأسئلة التالية:

ما الآثار التي يمكن أن تترتب على حياة الجنين حينما توجد الأم في وسط تعلو فيه الضوضاء ويشتد الصخب؟ وبالتالي ما الآثار التي تتركها الانفعالات والتشنجات العاطفية والعصبية للأم الحامل على الجنين؟ وهل يمكن للقلق والتوتر النفسي والخوف والاضطراب الذي تعانيه الحامل أن يترك آثاراً سلبية بالغة على حياة الجنين ومستقبله؟ وبالتالي ما الآثار التي تتركها حياة مليئة بالتوازن والاستقرار النفسيين على بنية الجنين النفسية؟.

الحالة النفسية للحامل ومستقبل الجنين

تشكل انفعالات الحامل وحالاتها النفسية البيئة النفسية التي تحيط بالجنين وهي بيئة بالغة التأثير على بنيته الذهنية والنفسية في المراحل الأخيرة من الحمل وفيما بعد الولادة.

وفي هذا الخصوص تشير أبحاث "فيلس" أن من شأن التشنجات العاطفية للمرأة الحامل أن تؤثر على نشاط الجنين ومسار نموه تأثيراً بالغ الأهمية والوضوح، ويذهب ذلك الباحث إلى القول: إن المهانات النفسية الحادة للحامل تؤدي إلى ولادة طفل شديد الإثارة، ويذهب بعض العلماء إلى الاعتقاد بأن الجنين الذي ينمو في رحم أم تعاني أزمة نفسية وعصبية حادة سيولد طفلا عصبيا منذ اللحظة الأولى لولادته، وهذا يشير إلى أهمية المحيط الحيوي النفس للأم في تأثيره على نمو الجنين وعلى حياته النفسية بعد مرحلة الولادة، والأطفال العصابيون هم هؤلاء الأجنة الذين لم يكن محيطهم الحيوي الجنيني كافيا لتلبية احتياجاتهم العاطفية والنفسية، وهذا يعني في نهاية المطاف أن الطفل العصبي ليس نتاجا لمرحلة الطفولة الأولى وإنما نتاج لمرحلة حمل تفتقر إلى الشروط النفسية الملائمة لنموه، وهذا يعني. أيضا أن هناك أطفالا قد أصابهم الضرر قبل رؤيتهم النور.

ولا يقف المحللون النفسيون عند هذا الحد من التحليل بل يذهبون إلى أبعد من ذلك بكثير وذلك عندما يعتقدون ويقترحون أن مرض الكآبة المزمن الذي يعاني منه الراشدون حالة تعود بأسبابها إلى مرحلة ما قبل الميلاد، أي عندما كانوا أجنة حيث كانت الأم تعاني من توترات عاطفية وانفعالية، ويرجع بعض العلماء الصعوبات الغذائية التي يعانيها بعض الأطفال إلى الظروف التي كان يعانيها هؤلاء الأطفال في مرحلة الحمل، أي أن هناك علاقة واضحة بين المثيرات الانفعالية للأم الحامل والصعوبات الغذائية التي يعانيها الأطفال بعد الولادة. إن الأهمية المتناهية لنتائج هذه الأبحاث تكمن في الإشارة إلى أهمية الظروف النفسية والصحية التي تحيط بالأم الحامل وتأثير ذلك في نمو الجنين وفي حياته المستقبلية أي ما بعد الولادة؟ وبعبارة أخرى يذهب هؤلاء الباحثون إلى القول بأن الشروط الفيزيائية من أدوية وغذاء وعقاقير والشروط النفسية من اضطراب وحزن وقلق وتوتر وسعادة ورضى، كل ذلك يساهم في تحديد نمو الجنين على المستويين النفسي والصحي في مرحلة الطفولة الأولى أي بعد الولادة، لذلك فإن الكثير من الاضطرابات النفسية والصحية للوليد قد تعود إلى اضطرابات صحية ونفسية عند الأم في مرحلة الحمل.

وفي مجال تحقيق الرعاية الصحية للحامل وجنينها يؤكد الأطباء منذ عهد بعيد أهمية اتباع نظام غذائي وهم يشددون على أهمية مراقبة الوزن الخاص بالأم والجنين على السواء، وما يذهب إليه الأطباء يجد له تعزيزا في الدراسات الحديثة التي تشير أيضا إلى أهمية النظام الغذائي ودوره في حمل سليم ومتكامل.

الأطباء وإهمال الجوانب النفسية عند الحامل

يوجه بعض علماء النفس كثيراً من الانتقادات إلى الاختصاصيين في توليد النساء لأنهم لا يستطيعون أن يأخذوا بعين الاعتبار أهمية العادات والمواقف النفسية للأمهات، ولأن الطريقة التي يعتمدونها تتميز بمبالغة في الحرص بما عن شأنه أن يولد القلق والخوف عند الحامل.

يملك الأطباء - كما تقول جوسلين في كتابها "التطور النفسي للأطفال" - درجة عالية من السلطة والتأثير على مرضاهم، وتؤدي هذه السلطة المعنوية إلى وضع الأم الحامل في موقع حرج يتسم بدرجة كبيرة من التوتر والقلق والخوف في أثناء مرحلة الحمل، وبالتالي فإن مصدر ذلك يعود إلى المبالغة في النصائح الخاصة بالحمل، حيث تلعب مثل هذه التفاصيل الصغيرة دوراً كبيرا عند الحامل على المستوى النفسي، وتذهب الباحثة إلى الشك بقيمة الأهمية التي يوليها الأطباء لذوات الحمل الطبيعي، هذا وتشير الملاحظة إلى أن بعض الحوامل يعتريهن الخوف من طبيعة الحمل، وبالتالي فان المراقبة الغذائية الصحية تضاعف مشاعر الخوف لديهن.

وتشعر الحامل بوضعية مأزقية على المستوى النفسي، فهي تشعر بعدم الارتياح لخضوعها المطلق إلى تعليمات الطبيب، وخلال ذلك فإن مخالفة التعليمات قد تؤدي إلى حالة من التوتر والاضطرابات النفسية وإلى عقدة الإحساس بالذنب والمسئولية، وتشير جوسلين الى أن النصائح الطبية كالتي تدعو إلى إقلاع بعض الحوامل عن الرياضة ودعوة بعضهن إلى ممارستها، ودعوة المدخنات منهن إلى التوقف نهائياً، ودعوة النساء العاملات إلى التوقف عن العمل، كل ذلك من شأنه الإيحاء إلى المرأة الحامل بأنها تعيش حالة بيولوجية غير طبيعية وأنه يتوجب عليها أن تحقق نوعاً من التكيف الصعب والمعقد الذي يحقق لها السلامة.

إن ما نشير إليه جوسلين لا يتعارض بالتأكيد مع النصائح الطبية ولكنه يولي الطريقة والأسلوب درجة كبيرة من الأهمية في التأثير على الأم الحامل، ويمكن للنتائج النفسية لمثل هذه النصائح والإرشادات التي توجه إلى حامل تتميز بالنضج والإحساس الكبير بالمسئولية والتفهم أن تكون مناسبة ولا ضير في ذلك، ولكنها قد تشعر بعض الحوامل اللواتي لم يبلغن هذه الدرجة من النضج أن الحمل يمثل عقوبة لهن، ومثل ذلك الإحساس قد يؤدي إلى نتائج ضارة وسلبية وغير مناسبة لنمو الطفل نفسيا وجسدياً.

تجربة الحمل النفسية وقبول الوليد

تحدد طبيعة العلاقة بين الحامل وجنينها في المستقبل درجة قبولها للوليد، وفي الوقت الذي تعاني فيه الحامل من خبرات مؤلمة وغير سارة في مرحلة الحمل فإن ذلك سينعكس على الطفل بعد الولادة وعلى درجة قبولها ورفضها له فيما بعد مرحلة الولادة وهي المرحلة التي يصبح فيها حنان الأم أكسير الحياة بالنسبة للوليد، ويمثل هذا الحنان ضرورة حيوية للنمو الصحي والهرموني عند الطفل، فالطفل الوليد يحتاج إلى أم ناضجة نفسيا تقبله دون نفور أو مشاعر عدوانية، إلى أم تستقبل ميلاده بدرجة عالية من الحرارة والتلهف والسعادة.

وتشكل مرحلة الحمل كما تحدد بعض الدراسات والأبحاث مصدراً للتوتر والقلق بحد ذاته، وتلك هي النتائج التي وصل إليها فريق من الباحثين الذين يستدلون على ذلك من خلال المقارنة بين الحالة النفسية للحوامل وغير الحوامل من النساء، وفي هذا الخصوص يقول كريت بيبرنك: إذا كان من المتفق على أن المرحلة المراهقة مصدر للقلق والتوتر فإننا نفترض بالقياس إلى ذلك وجود التوتر والقلق الخاص بالحمل كمرحلة خاصة، وبالتالي فإن ذلك الاضطراب والتوتر النفسي الذي تعانيه الحامل يعود إلى طبيعة الحمل ذاته، وإذا كانت الفرضية صحيحة يمكن لنا أن نتساءل عن النتائج التي يمكن أن تؤثر على مواقف الحوامل من أطفالهن في المستقبل، حيث تؤدي الاضطرابات النفسية العنيفة إلى تكوين مواقف سلبية للأم من الطفل بعد الولادة ويتحدد ذلك في مدى قبول الأم أو رفضها لمولودها الجديد.

لقد أدى التطور العلمي ونمو الأبحاث والدراسات العلمية في شتى المجالات إلى تضييق الحصار على المكان الذي تحتله التصورات الشائعة غير العلمية، ولكن من الملاحظ أن ذلك التطور، على المستوى الطبي والذي ساهم إلى حد كبير في الحد من المخاطر الصحية والفيزيائية، قد أدى إلى تراجع الاهتمام بأهمية التحولات النفسية المرافقة، أو إلى تراجع الاهتمام بضرورة المساندة النفسية التي تحتاج إليها الأم الحامل، وفي ذلك السياق تبرز الأهمية الخاصة للاهتمامات والنصائح والإرشادات التي كانت حكيمات النساء تسعى إلي تكريسها، وهي نصائح وإرشادات تؤكدها اليوم الأبحاث والدراسات العلمية على المستوى النفسي والسلوكي.

وفي هذا الصدد يشير فرانك دونوفان إلى الخطورة الكبيرة التي تعود إلى نقص الاهتمامات بالجوانب النفسية للأم الحامل، ففي المجتمعات التقليدية كانت المرأة الحامل تجد دائماً نوعاً من المعاضدة النفسية التي تتمثل في طقوس اجتماعية متنوعة، ولكن ذلك اختفى على نحو تدريجي، حيث لا تجد اليوم الأم الحامل المساندة المطلوبة على المستوى الاجتماعي لتجاوز صعوباتها، وبالتالي فإن الصعوبات النفسية هذه تظهر اليوم على شكل أزمة عند المرأة الحامل وهي أزمة لن يستطيع الطبيب النسائي بمفرده أن يخفف من حدتها، إن أكثر ما تحتاج إليه المرأة في مرحلة الحمل هو المعاضدة والمساندة النفسية، وفي هذا الخصوص يقول أحد علماء النفس: "يجب أن يحظى الجنين بالمحبة والحنان أثناء الحمل، ولكي يحظى بذلك يجب على الأم أن تحظى به أولاً" أي لا بد لنا من أجل ذلك أن نمنح الأم كل الحنان والمحبة والمساندة لنضمن لجنينها نموا نفسيا وروحيا متوازنا.

تشير إحدى الدراسات التي قارنت بين وضع ثلاثين امرأة وضعن بصورة طبيعية مع ثلاثين أخرى وضعن قبل الأوان، إلى أن مواقف النساء اللواتي أنجبن قبل الأوان كانت سلبية من الحمل ويتجلى ذلك بالأحلام الكوابيس التي تعتريهن أثناء النوم وفي نوبات الغضب والسخط والتوترات التي كانت تسيطر عليهن، وهذا من شأنه الاستنتاج أن العوامل النفسية قد تلعب دوراً مهماً في وضع مبكر قبل الأوان، وقد شكلت هذه الدراسة نوعاً من الطموح العلمي الذي دفع بعض الباحثين إلى دراسة إمكان التنبؤ بولادات قبل الأوان بالاستناد إلى نمط من الأسئلة التي توجه إلى الحوامل لمعرفة نمط العلاقة التي تربطهن بالجنين ومدى تأثير ذلك على طبيعة الولادة.

 

علي وطفه

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جنين في الرحم





جنين داخل الرحم في شهوره الأولى