واحة العربي

واحة العربي

العنق

محط اهتمـام القانون وضارب السيف والعيون وقاطف الزهور ومركز الاستراتيجية

عنـدما نلتقي الأصدقـاء ننظـر في عيـونهم، أمـا المنـاوئون والأعداء وذوو الـدم الثقيل: فننظر في أعناقهم، وهكذا نشأت هـذه العلاقـة الأثيرة بين الأهداف والأعناق، والتي بسببها - هذه العلاقة - نبالغ في تزيين العنق بـالحلي والمجوهرات، عنق الأنثى بالذات مضافا إليها مهراجـات الهند وكهنـة معابـد جنوب آسيـا، على الأقل: حتى لا يصطدم نظرنا بنتـوءات العنق البـارزة، وهي النتوءات التي تشي عن كثير مما مر بصـاحبها، وتكشـف عن العمر وكثير من الخـبرات والتجـارب السابقة، فالعنق محط اهتمام القانون والتهديدات (سوف أكسر عنقك) والسيـافـين وعمال المشـانق وتجار المعادن الثمينة والأحجار الكريمة، وتحت أرضيـة العنق، أي أسفل سمك الجلـد مباشرة كمية كبيرة من التوصيـلات: عروق وعقد عصبية تنتظمها الأعصاب الممتدة، كلها تحمل خلاصة الغذاء الدموي وإنـذارات الجوع والعطش والـرغبات والكـوارث والمآزق والمشاعر إلى الدماغ، الذي يقوم فورا بالاحتفاظ بخـالص الغذاء، ويـرد البـاقي داخل مـواسير وأسلاك وأنابيب العنق في حـركة مضادة، مشبعة بـالعوادم والمواد السـامـة والاستجـابـة الملائمـة للرسـائل السابقـة، حيث يظل الدماغ مرتكـزا - في كـبريـاء - على العنق، يـدير مملكة الجسد، ويخطط للطـريقـة المنـاسبـة التي تصل بـالمملكـة كلهـا للنتيجـة المؤكـدة: السعادة المؤقتة ثم الفناء.

عنق الأم أجمل الأعنـاق في الوجـود، وأكثرها دفئـا، ويكـاد يكـون الوحيد المبطن بالصـدق والتضحية، أما عنق الأب فقد حد من صـدقـه آثـار خشونة الكفـاح اليومـي - دون تقصير في احتمالات التـواء العنق نحو مالا يجوز، أما أطول الأعناق وأكثرها انسيابا: للزرافـة وعـود العزف والجمل والنعامة والطيور المائية والكمان والولد الناجح والقائد المظفر وزعماء الأقليات، وأكثرها انسيابا وجمالا أيضـا: عنق كليـوباتـرة ونفرتيتي وراقصات الباليه وقادة الأوركسترا، وأكثرها غلظة - مع إضافـة تضاريس الحنجرة - عند الضباط الجدد والمغنين المجيدين (المغنيات الخبيرات بالذات) وباعة البطاطا وسادة العشائر والمرتلين في المعابد والممثل الفرنسي الراحل إيف مـونتـان والمغني الإيطـالي كـروزو والمصري عبده الحامولي واللبناني وديع الصـافي والديك الرومي وحـواة استخراج الثعابين من مكامنها وقادة المظـاهرات ومرضى نقص اليود.

أما الـذين بـلا أعناق: الفيل والثعبان ومعظم رؤساء الوزارات الحاليين ونقـاد الأدب ولاعبـو الميسر وحمالو الحقائب وصـانعـو التمائم والأحجبة والرجل الثاني في أي موقع.

لكن بعض المخلـوقات تتصف بعنق خاص: كالسلاحف في عدم اتساق العنق مع حجم الجسـد، وكـالضبع الـذي تبرز من أعلى عنقه عظمتان تحولان دون تحريك الرأس إلى الجانبين بمرونـة كافية - حتى أنـه يحرك جسـده كله، وكالشاعر الحديث الذي ضمرت حنجرته ومعها رقبته بعد اندثار عصر الخطـابة المفعـم بالشعـر التقليدي الفخيم، وكـالمغنيات المحـدثات (عـدا وردة) الـلاتي تقلصت حنـاجـرهن لعـدم الاستعمال، وعنـد الـوشـاة والخباصين المضغوطة رءوسهم احتراما وامتثـالا لذوي الشأن، وعنـد لحادي المقـابر وحـراس المعابد من كثرة الوجل والهرع إلى الخلف خـوفـا من الأشبـاح والمخلـوقـات الغـامضة، وعند ضـاربي الودع ومدمني الإمعـان طـويلا في الرمل، وعنـد الـذين يحملون حـاجيات المهراجا فـوق رءوسهم ويسيرون خلف أفيـاله في الطقوس الهندية، وعند الزهور حيث يتسـم عنقهـا بجمال رفيع خاص وأخـاذ يكاد يلقي بأشعار الفتنة مع إيقاع النسيم، وفي القلة - القناوية الفخارية - حيث لايزال عنقهـا يـؤدي المهمـة الأصليـة للعنق: أن تلتف حـوله أصـابع العطشـان أو المشنقة، وهـو مـا انسحب بعـد ذلك على المصطلح الاستراتيجي: عنق الـزجـاجـة، حيث يمكـن التحكم في بـاقي تكـوينات الوطن عند الإمساك المتقن بهذا الحيز الضئيل: العنق، ولكل وطن عنقه الخاص.

ويطلق الجيـد - اسحب الجيم جرا حتى تصطدم بالدال - على عنق أنثى الإنسـان بـالتحـديـد، وليست كل أنثى، فلا جيـد للزرافة أو الناقة أو الزوجة أو الأم أو الجدة أو المرأة أو الغـراب، لكـل ذلك رقبة، تلك التي تختصر التعريف كله لبعض المخلـوقـات، لتصبح الرقبة تعني العبد مباشرة، وهو ما جـاء في القـرآن الكـريم: فك رقبة ومنـه جاء تحرير الرقـاب، ونحن الرقاب المعاصرون.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات