الأضواء عبدالله خليفة
تمازج الضوء الساطع بأنفاس البحر الرطبة فاشتعل قدر المياه اللا محدود، وبدا كأن بحرا ثانيا، محترقا، يطفو فوق المياه المشتعلة. ولم تظهر أي أرض، أو طير، أو شجر، وبدا لهما أن السماء ذاتها اشتعلت وتساقطت حمما، وأن الريح التي كانت تنفخ في الشراع الواهن غدت رماحا تنغرز في البدن. التصقا معا كعصفورين انتزعا من عشهما، ووضعا في قفص للبيع في سوق مليء بجمهور مسعور، أو كأنهما نبتتان صحراويتان في إصيص زجاجي بارد. حدق كل منهما في الآخر، وتطلعا إلى الخلف، حيث الساحل الآخر، البعيد.
هناك قريتهما، متوارية، وراء الجبال والهضاب، تتوهج الآن تحت شمس هادئة، والحمير تتوغل في الأرض المحروثة، وأهلهما وراءها، أو جاثمون تحت الأشجار. أيفكرون فيهما؟
هجرا القرية، وسارا إلى المدينة. دفعا مبلغا كبير حتى يصلا إلى الميناء. وقضيا ثلاثة أيام يبحثان عن مركب ينقلهما دون جدوى. كان بعض معارفهما يختبئ في قعر السفن مع الغنم، حيث سيتسللون في الليل إلى المدن النائمة. لكنهما لم يحصلا على موطئ قدم بين الحوافر.
ثم قادهما رجل ما إلى ربان هذه السفينة الصغيرة، الذي بدا كريمًا وهو يحدد المبلغ المطلوب، وصاح "هذه مهمتي! كم مرة نقلت شبانًا أقوياء إلى مدن النفط. بعضهم حاز ثروة كبيرة الآن. "وحكى لهما قصصًا عن أولئك الشجعان.
لم يستطيعا أن يحصلا على مكان لجسديهما بين أكداس البضائع والحبال. وجدا مساحة صغيرة التصقا فيها ونضجا عرقًا ولهبا.
كانا متلاصقين، أيضًا، تحت شجرة في ذلك الحقل البعيد. حسن الطويل، النحيف، هو الذي كان يجر مرتضى، القصير، الهادئ، إلى المغامرة. يصيح فيه "أتعجبك العيشة هنا مع الماعز والعجائز حيث لا ثلاجة ولا سينما ولا خمر! هيا أحلم بالمدن الذهبية، مدن النفط، حيث الثروة والنساء والمتع! هيا قم من رقدتك في الروث!".
وخلال شهور راح مرتضى يستمع، في الليالي المقمرة، فوق السطح، إلى جعجعة حسن، وكأنه يرى الإسطوانات وهي تدور في المقاهي، ورزم المال تملأ الجيوب، وهو يعود إلى قريته بسيارة جيب متجها إلى بستانه الذي اشتراه.
وكل عائد كانا يسألانه، ويتبعانه إلى منزله، ويريان، من فوق الحائط، الأشياء الغريبة التي حملها. راحت السفينة الصغيرة تتباطأ في سيرها. حتى هدأ المحرك تماما. التفت الربان إلى الشابين المحدقين في سراب المياه. وقال "هيا انزلا! خوضا البحر، إنه ضحل هنا، وتمنياتي لكما بالتوفيق".
لكن حسن، التفت هنا وهناك، وصاح به غاضبا: "أين المدينة؟ وشاطئها؟ إنني لا أرى بيوتًا؟!".
أبتسم الربان وقال: "هل تريد أن تصطادني الدوريات أيها الصغير؟ إنني أنزلكما في أقرب نقطة إلى الشاطئ، أتريان تلك الجزيرة الصغيرة هناك؟".
بحث الشابان، بعيونهما المتعبة عن الجزيرة، فوجدا مجموعة من الصخور والتراب بين المياه، وعادا ببصريهما إليه مستغربين.
أكمل: "هذه الجزيرة لا تبعد كثيرا عن الساحل. في الليل أمضيا نحو الأضواء. ستريانها خافتة، لكن لا تشعرا بالخوف. المياه ستكون ضحلة والجزر سيتسع. سيرا بهدوء وحذر. ستصلان المدينة. وستنعمان بالعمل والثروة. وإذا احتجتما إلى أي مساعدة فأنتما تعرفان اسم المقهى الذي أكون فيه. مع السلامة!".
نزلا. التحما بالصخور المشوهة المشقوقة بأسياف المياه. تطلعا إلى الأرض البعيدة، رأيا خطوطًا بيضاء وخضراء. أخرجا الخبز والبصل وأكلا بشهية، ثمة مساحة من الرمل يستطيعان أن يتمددا فوقها ويغتسلا بالماء. لم تبق سوى ساعات، ويلتحفان بالظلمة، ويتوحدان بالمدينة.
لكن حسن لم يهدأ، وغمغم فوق رأس مرتضى: "أليس من الأفضل أن نتسلل الآن، يبدو الجزر واسعا؟". لكن الآخر استلبته غفوة، وحلم أنه يخطو في الأزقة، بين الشوارع الواسعة، المليئة بالدكاكين والمقاهي ورجل يطارده، وينتزع كل ما في جيوبه من رزم. تمعن في وجهه فإذا هو الربان البدوي، يقهقه ويستل خنجرًا من جرابه ويطعنه. فزع وتألم ورأى الكون يحترق كتنور، والطيور تحوم مشتعلة، ثم أبصر نفسه يسبح في مياه عميقة، ورأى "حسن" طافيا كجذع شجرة. صحا، فإذا بركة من العرق حوله، ووهج شمس الظهيرة خف قليلاً، ولكن المساء لم ينزل بعد، وأزعجته أصوات المياه، التفت فإذا هي قادمة نحوهما ولا تتراجع كما زعم الربان!.
تطلع إلى حسن فوجده مستغرقا في إغفاءة عميقة، بين الصخور.. هزه قليلاً وصاح: "جاء المد ياحسن، جاء المد؟!".. وكان حسن قد حلم هو الآخر، بأنه يطير، يصير طائرًا، ويعبر السماء الزرقاء وفوق عينيه نظارة ذهبية.
ثم أنتبه، وحدق في المياه القادمة نحوهما. نهض. غضب. قفز من فوق الصخرة، وركض في الدائرة الصغيرة، متطلعا في المياه المستفزة، وركض نحو صخرة أخرى وصعدها، وتطلع إلى الآفاق. وصاح بقوة: "خدعنا!".
واندفع حانقا: "ألم أقل لك إننا يجب أن نعبر في وقت الجزر؟ علينا الآن أن ننتظر حتى اليوم التالي.. في ظل هذه المياه المتلاطمة!". وتطلع. مرة أخرى، صوب الشاطئ، والمدينة المتوارية، وقال "ثمة مياه غريبة وكبيرة تندفع من هناك أيضا!".
لم تكن سوى ساعة حتى ضاقت الدائرة. المياه الرقراقة المزعجة تدق الجزيرة المتضائلة، وأصابعها الشيطانية تأكل القواقع والرمل والحجر. تقدم لهما أعشابا وجذورا ميتة. وهما يرتفعان ويصعدان للصخور.
تأملا: لم يكن سوى الماء سيدا، ملكا، يفرض سطوته في كل مكان. ناعما، خافتا، متلألئا، مغنيا، يوغل في الشقوق البعيدة، ويصفر بين الصخور.
أمسك مرتضى صدر حسن، بيديه الاثنتين، وبكى. صاح به الآخر: "كف، كف عن هذا البكاء. سنتمكن غدًا من خوض هذه المياه الملعونة، والوصول إلى الشاطئ، سترى، وسنغنى معًا ونشرب ونجمع النقود..".
لم يكمل، لأن الماء، وقد سمع اللعنات والتحدي، قرر أن يصعد نحو الصخور. وأمسك حسن الصخرة المشوهة من غمر المياه فذعر. حدس مرتضى وهدأ عن البكاء. طالع حسن الأشياء. عساه يجد أخشابًا، وثمة قطع بيضاء صغيرة طافية لم يعرف ما هي.
قال: "لن تصل المياه إلى هنا وإذا وصلت.. فهو ذراع، أو أكثر قليلا. وسنظل نتشبث بالصخور إلى أن يتراجع المد. سنحيا، سنصل إلى الشاطئ".
هبط المساء، كحشد من العباءات، وبدت الأغصان الجافة من الضوء القاني كآخر الأشجار، وعما قريب سينطفئ الحقل.
فحيح البحر امتزج بالبخار الساخن اللافح وهواء الإبر ولزوجة الصخور الهاربة من الأقدام. وهاهي أصابع المياه تلمس أقدامهما، وتتحسس مذاق جسديهما. وكأن جيشًا من النمل يندفع في شرايين عود قصب.
من بعيد، بدت أضواء خافتة مثل مصابيح فقراء في أكواخ قصية، أو نجوم منكسرة في ليلة غيم وضباب، وهذا هو الماء يتذوق صدريهما، ويبقبق حولهما قدرا يطبخ أحياء لمائدة مجهولة. وفجأة تأوه مرتضى واختفى، صاح حسن طويلاً ونادى، لكن الماء وحده، كان يثرثر مع ذاته، ولم يكن ثمة صدى، وبدا له أن قريته قريبة، وها هي أشجارها تلمع تحت الشمس الدافئة، والحمير تتوغل في التربة السمراء المتشققة، وكأن أحدًا يمد له يده، والأضواء البعيدة تفتح جسرًا، مد أصابعه، مد ذراعه، وأمسك الهواء، وسقط في المياه الغامرة.