جمال العربية

جمال العربية

"ميلاد شاعر"
شعـر: طـاهـر أبـو فـاشـا

طغت شهرته كاتبا إذاعيا على شهرته شاعرا وأديبا، وانشغل الناس بأعماله التي تعد من عيون الأدب الإذاعي - وفي مقدمتها صياغته الإذاعية لحلقـات "ألف ليلـة وليلـة" و"ألف يـوم ويـوم" والأوبريـت الغنائي "رابعة العـدوية" ومئات البرامج الدرامية والغنائية - انشغلوا بها عن قيمتـه الشعرية والفنية الرفيعة باعتباره واحدا من الشعراء المبدعين في جماعة أبوللـو التي كانت روحا ثائرة ومتمردة وحركة تجديدية في الشعر العربي الحديث.

ذلك هو الشاعر والأديب طاهر أبـو فاشا صاحب الدواوين الشعرية: "صوت الشباب" و"القيثارة السارية" و"الأشواك" و"راهب الليل" و"الليالي" وأخيرا "دموع لا تجف" صدر أولها عام 1928- وهـو في العشرين من عمره - وآخرها في عام 1987 قبل رحيله بفترة قصيرة. والقصيدة التي نطالعها الآن من شعر طاهر أبو فاشا تحمل السمات الأساسية لشعره، والملامح البـارزة فيه. وهـو يهدي قصيدته إلى الشـاعر الملاح علي محمود طه صاحب الدواوين المعروفـة: الملاح التائه وليـالي الملاح التائه وأغنية الرياح الأربع والشوق العائد وغيرها من الدواوين. وقـد جمعت بين الشاعرين وقفة مشتركـة أمام معنى الشعر والشاعر، وتصور كل منهما لحقيقة هذا الشعر وجوهره، وللـدور الذي يقوم به الشـاعر في الوجود، ونظرة الناس إلى الشاعر وتقييمهم لمنزلته.

أول ما يطالعنا من سمات شاعريته اتكاؤه على التراث، وأصالة انتسابه إليه، والإحساس القوي بعروبة الشعر وعمق انتمائه إلى شجرة الشعر العربي. وفي الـوقت نفسه شيوع أنفاس التجـديد التي تتردد في أبهائه وجـوانبه، وتكسبه طـابع العصريـة والتناغـم مع العصر وتجاربه وحساسيته. وهنا تتراوح شاعرية طاهـر أبوفـاشا بين رومانسية الأداء التي نعرفها عند شعراء أبوللو - من أمثال إبراهيم ناجي وعلي محمود طه وأي القاسم الشابي ومحمد عبدالمعطي الهمشري وصـالح جودت وغيرهم - وعمق التأمل ونفاذ الفكر الذي نعرفه عند شعراء جماعة الديوان - العقاد وشكـري والمازني - وميلهم إلى النقد والتحليل والسخرية وإعمال العقل والمنطق. حتى إذا بزغت حركة الشعر الجديد وجدنا طاهر أبو فـاشا لا يتخلف عن الركب، ويدلي بدلوه في حصاد منجزاتها الشعرية الأولى، كـما تحققت لدى شعراء الموجـة الأولى وفي قصائد السياب والبياتي ونازك الملائكة وصلاح عبدالصبور. وظلت هذه النزعة التجـديدية في شعره وشاعريته تميزه عن غيره من شعراء جيله، كـما اصطبغ إنتاجـه الشعري - في كثـير من قصائده - بالنزعة الدرامية، ولغة الحوار، ومخاطبة الآخر، نتيجة لممارسته الطويلة والعميقة للكتابة الإذاعية الدرامية والغنائية قرابة أربعـين عاما متصلة.

سمّى على محمود طه قصيدتـه "ميلاد شاعر"، وجاء بعده بسنوات طاهر أبوفاشا وسمّى قصيدتـه أيضا "ميلاد شاعر" وبينما كان علي محمود طه يقول:

أيها الشـاعـر اعتمـد قيثـارك

واعـزف الآن منشـدا أشعـارك

واجعل الحب والجمال شعـارك

وادع ربا دعـا الـوجـود وبـارك

فـزهـا وازدهى بميـلاد شـاعـر

كان طاهر أبو فاشا يقول:

هو الشعر، ما غنى ربيع، وما بكى

خريف، وما اخضلت عيون الأزاهر

تـراتيل أنسـام، وتسبيح جـدول

وأنـة مـوجـوع، ومصبـاح حـائر

تغنت بـه الآبـاد من قبل عـزفـه

كلاما، فجاب الـدهر أول عابر

ونادى مناد في السمـوات: أوقدوا

كواكبهـا، فاليوم ميلاد شـاعر

وبينما ازدانت لغـة الشاعر الملاح بالأناقة المفرطة والخيال المترف، والتأرجح بين المعجـم الحسي والروحي، جاءت لغـة طاهر أبو فاشـا أكثر احتفالا بصور الطبيعة الحية، والوجـود الإنساني، وإبراز التضاد والتقابل بين عناصر الخير والشر والسعادة والشقاء والصفو والكدر، وكأنها حريصـة على تأكيد معنى وتوجيه رسالة وتعميق دلالة لها بعدها الاجتماعي والإنساني، مما ينبئ عن رصيد الوعي ومساحته عند طاهـر أبو فاشا وانغماسه في حركة المجتمع والحياة من حولـه، وانشغاله بما تموج به من مواجهات وقضايا. من ملامـح هذا الشعر والشاعرية أيضا - عند طاهر أبو فاشا الكاتب والفنان الشامل - حرصه على تقاليد القصيدة العربيـة من حيث اللغـة والجرس والإيقاع، وتميزه بالحيوية والانطلاق، واحتفاله بالقيـم الجـمالية والبلاغية وثروته اللغويـة الواسعـة التي تجعله يؤثر في بعض الأحيان ألفاظا واشتقـاقات وجموعا وصيغا غير معروفة أو شائعة، لكنها صحيحـة فصيحة، فيكـون لها نصيب مـوفـور من حسن الـوقع والتأثير والإمتاع، والكشف عن احتشاد الشاعر للغته وأسلوبه، قدر احتشـاده لتجربته الشعرية إنضاجا وكشفا وتجلية. وقصيـدة "ميلاد شـاعر" إحـدى قصائد ديوانه "راهب الليل" وهـو أهم دواوين الشـاعر، وأحفلها بتجـاربـه الشعرية الكبرى ولغته الشعرية الأكثر نضجا واكتمالا، كـما أنه الديـوان الـذي أصدره عام 1983 بعـد طول توقف وانقطاع عن الإخلاص للشعر، بعد خمسة وأربعين عاما كاملة من صدور ديوانه السابق عليه "الأشواك". كما أنها أطول قصائد الديوان وأكثرها امتـلاء بروح الشاعر المفكرة المتأملة، النزاعة إلى التساؤل وطرح الأفكـار والهواجس وردود الفعل، محاولـة الـوصـول إلى شاطئ اليقين أو الاقتراب منه إذا لم يمكن الوصول.

يقول طاهر أبو فاشا: مهداة إلى الملاح التائه شاعرنا الباقي علي محمود طه

(1)

إلى مثلـها تصبـو عـذارى الخواطـر

وفي يومه تصحـو سكارى المزاهر

وفي كل همس حـول معناه ضجـة

وفي كل معنى منـه صرخـة ثـائر

ألم على الأيـام يسقي جـديبهـا

ويبني جـديداً فـوق أطلال داثر

هو الشعر ما غنى ربيع وما بكى

خريف، وما اخضلت عيون الأزاهر

تـراتيل أنسـام، وتسبيح جدول

وأنة مـوجـوع، ومصبـاح حـائر

أراق على وجـه الصبـاح ضيـاءه

وعاقره في الليل صمت الدياجر

وودت بنات الزهر لـو أن عرفها

من النغم القدسي سبحة خـاطـر

وأن جمالا لم تسجله ريشـة

من الفن نهب للسوافي السـوائر

تغنت بـه الآبـاد من قبل غـرفـه

كلاماً فجاب الدهر أول عـابر

ودقت نـواقيس الحيـاة وأطلقت

رهـابينهـا في الجو روح المباخـر

ونادى مناد في السموات أوقدوا

كـواكبها فـاليوم ميـلاد شـاعـر

(2)

فنضج بأعـراس السموات عيدها

وقـر على شط الحيـاة شريـدُها

تجردت الأنغـام فهي عـوالم

يترجم أسرار الـوجـود وجـودها

وأقتل رب الشعـر في أي مـوكب

تحف به حور السماء وغيدها

وطـاف بـه جبريل قبل نزولـه

إلى العالم المحدود والأرض بيدها

فلما دنا من جـوهر الشعـر زلزلت

به الساحة الكبرى ومـاج أبيدها

وقيل له يا شـاعر الكون هـذه

هي الجذوة الأولى وأنت وقيـدها

فما آمنت بـالشعـر إلاّ لحونه

وران على الأرض العجـوز جمودها

وقدر للـدنيـا الشقـاء فألحدت

وجـدف غاويها وضل رشيدها

وأشرعت الأطماع فيهـا ضغـائنـا

يجادل في معنى السـلام حـديدها

ومـا كدر الأيـام إلا ظماؤهـا

وهل شاب ماء العين إلا ورودها؟

فـلا طالت نفساً بـالحياة شقيهـا

ولا قـر عيناً بـالحيـاة سعيدُها

أتنشد في دنيا الحيارى من اهتدى..؟

أفي الحانة الحمـراء ترتـاد معبدا؟

هرقـت إذن يا سادن الشعر لحنه

وأهدرت للغافين ناياً مسهـدا

هي الأرض طبع في بنيهـا، ومن تكن

جبلته الأولى تـراباً تمردا

فـلا تك نجما تجـاوز الليل وحده

ببيـداء فـانثـالت أشعتـه سـدى

لمن شارق في الأفق إن كنت لا ترى

وفيم هتاف الـورق إن كنت جلمدا

هنالك والـدنيـا روايـة ظـالم

وقصـة مظلـوم وتلفيق منتـدى

وفي ليلـة ظلماء ينسل برقهـا

كـما جـردت كف الكمى المهندا

دعـا ربه الشـادي وأوفى بشعـره

إلى العـالم الثـاني ومد لـه يـدا

وكف عن الأوتـار فهي نـواشر

كأعصـاب محموم ألح بـه الصدى

وقال بنو الموتى لقـد مات شاعر

وكيف يذوق الموت من كـان مخلدا

بقـدر شعـور المرء يمتد عمـره

وفي حمـأة الأيام يـردى بنو الردى

ومـا مـات شـاد بـالجمال وإنما

إلى عـالم الألحان عـاد كما بدا

ومن فهم الأيـام لحنـا مجدداً

تـراءت لـه الأيـام لحناً مجددا

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات