العرب وموقعهم في إنتاج المعرفة.. هل مازال الاستشراق وسيلة استعمارية؟

العرب وموقعهم في إنتاج المعرفة.. هل مازال الاستشراق وسيلة استعمارية؟

مفيد أن يلاحظ الناقد العربي، المسلح بمعرفة تراثية ومعرفة استشراقية اليوم، حدود النقد الذي مارسه قطاع واسع من الباحثين العرب في الخمسينيات والستينيات، بل وقبل ذلك، حيال الاستشراق والمستشرقين. فنقد هذا النقد مهمة على درجة كبيرة من الأهمية في ظروف الثورة المعرفية والمعلوماتية اليوم. ذلك أن هاجس إثبات الهوية القومية أو الإسلامية والدفاع عنها بأسلوب الممانعة الثقافية، وعبر التصدي للاستشراق ولما سمي "غزوا ثقافيا" غربياً، لا يزال حتى الآن هاجساً محركا لأقلام عديدة شابت ولأقلام تشب. وإذا كانت أشكال الممانعة الأولى ـ ومن تجلياتها كتاب "التبشير والاستعمار" مفهومة في زمنها "ولكن غير مبررة" فإن أشكال الترداد اليوم، أضحت تشكل عائقا من عوائق تحصيل المعرفة التي يحتاج إليها مشروع النهوض العربي.

نفهم لماذا لم يجد رعيل الباحثين العرب من القوميين والإسلاميين، في مرحلة ما بين الحربين، وفي مرحلة ما بعد احتلال فلسطين وقيام إسرائيل في الاستشراق إلا دليل تبشير وكشافاً للاستعمار. فظروف القهر الاستعماري والنكسات والهزائم جعلت من الوعي العربي وعياً أحادياً لا يرى إلا وجه "المؤامرة" في الآخر. ودليله، وهو أمر يسهل تبيانه، أن نصوص الاستشراق خدمت إدارات الاستعمار ومدتها بالمعرفة اللازمة لإحكام سيطرتها وبلورة استراتيجيتها.

حتى هنا لا نكون نمارس نقداً لهذه الرؤية إذا ما اكتفينا بهذا التوصيف من "الخارج" سواء لجهة لحظ الدور الاستشاري والوظيفي في العلاقة بين بعض المستشرقين والحكومات الأوربية أو لجهة إبراز الموقف العربي الرافض للاستشراق دون تعمق أو إنصاف.

الدور الاستشاري للاستشراق

السؤال الذي يتطلب إجابة تتجاوز هذا الوصف هو: هل في الدور الاستشاري أو الوظيفي ما يعيب الاستشراق ويبخس قيمته؟ وما هي أبعاد أزمة الباحث الإسلامي عندما يقارب الاستشراق، أو الثقافة الغربية؟

الواقع أن المستشرقين "أو بالأحرى بعضهم" عندما قبلوا دوراً استشارياً لدى حكوماتهم، "ومثل ماسينيون مثل بارز"، فإنما قبلوا ذلك باقتناع وليس في ذلك ما يعيبهم أو يقلل من قيمة معرفتهم، وخصوصاً إذا أدركنا أبعاد الاندماج الوطني والقومي في إطار "الدولة/ الأمة" التي عاشوا فيها. فالدور الاستشاري كان يعني دوراً وطنيا، بل إن بعض المستشرقين كان مخلصا مع نفسه في تقديم قناعات إنسانية وعالمية يحاول من خلالها إقناع حكومته والرأي العام باتباع سياسة متفهمة لخصوصيات الإسلام وتاريخه ومجتمعاته. وقد ينطبق هذا الاعتبار أكثر ما ينطبق، وفي حدود اطلاعي، على بعض أعمال ماسينيون في مجموعته Opera Minora، وخصوصا في بحوثه عن "المطالب الإسلامية" و"الحرف" و"الخلافة".

بل لابد من أن نضيف إلى فهم هذا "الدور الاستشاري" أيضا، آلية صناعة القرار واتخاذه في دول ديمقراطية "في الداخل" كالدول الأوربية. فالبحث والاختصاص، والاستشارة، كلها عناصر لازمة ومفيدة لصناعة القرار. وهذه الآلية هي ـ في كل حال ـ جزء من معادلة العلاقة بين السلطة وخطاب المعرفة. وهذا بالضبط ما حاول إدوارد سعيد ـ على ما أظن ـ أن يبرزه في دراسته التفكيكية للخطاب الاستشراقي، حيث كانت النتيجة أن أسيء فهمه ـ وكما يشكو هو نفسه بعد مضي أكثر من عشرين سنة على صدور كتابه ـ من قبل المستشرقين الغربيين الذين اعتبروه "معادياً" أو "شوفينيا"، ومن قبل الإسلاميين الذين لم يفهموه أو فهموه على طريقتهم وكجزء من تصورهم المعادي للاستشراق وللثقافة الغربية.

ولابد أن نضيف إلى كل هذا، أن اتجاهات الاستشراق والمواقف الأجنبية والمحلية منه لا يمكن عزلها عن تطورات المناهج العالمية وأساليب النظر إلى الأمور على مستوى البحث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية خلال الخمسين سنة الأخيرة. فالاستشراق في أوربا كان جزءا من تيارات العلوم التي ولدتها نظرية المعرفة "الوضعية" والعلموية التي سادت في القرن التاسع عشر، كما أنه خضع لتأثيراتها المنهجية جنباً إلى جنب مع مناهج الدراسات التاريخية والفيلولوجية التي حاولت تمثل المنهج التجريبي الفيزيائي والبيولوجي. والكل يعلم أن فكرة التطورية والتقدم المطرد وفقاً لنسق مركزي وعالمي "أوربي" كانت الفكرة ـ المرجع أو المثال في ذاك الإنتاج المعرفي الغربي الضخم والذي كان الاستشراق جزءا منه.

غير أن هذا الإرث المعرفي لم يلبث أن تعرض لنقد صارم منذ بدأت نظرية النسبية تعدل في مناهج علوم الفيزياء أولاً، وثانيا في مناهج علوم الإنسان. وما إن أطل النصف الثاني من القرن العشرين حتى لاحظنا قفزات معرفية إنسانية تتمثل بنقد العلموية والتطورية والموضعانية وفي شتى حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية، وكان التاريخ والاستشراق من ضمنها.

إذن، إن النقد الفعلي للثقافة العلمية الغربية والاستشراق باعتباره جزءا منها، جاء من الغرب نفسه، وعبر أدوات ومناهج هي من نتاج هذه الثقافة نفسها، أو بتعبير آخر، هي من نتاج التجاوز الدائم الذي استطاعت هذه الثقافة أن تحققه عبر التراكم والنقد والقفزات والانقطاعات المعرفية.

وهذا لا يدعو للاستنتاج أن المعرفة الاستشراقية "الكلاسيكية" أضحت غير مفيدة، أو غير "علمية"، بل المقصود أن نقدها في الغرب جاء في سياق عملية التراكم المعرفي والاستيعاب والقدرة على التجاوز، ولم يأت ردة فعل أو صيغة سياسية لممانعة ثقافية. وإذا جاز إعطاء مثل عن حركة النقد التاريخي في فرنسا، فإننا نشير إلى الدور الذي قامت به مجلة "الحوليات" ( Annales ) في نقد مدارس القرن التاسع عشر التاريخية والتي كانت لاتزال سائدة في الجامعات آنذاك، لترسي بعد سنوات حقولاً ومناهج جديدة في التاريخ، طالت حقول التاريخ الأوربي ومناهجه، كما طالت حقول تاريخ العالم الإسلامي "موضوع الاستشراق" كما سنرى.

السلطة والمعرفة

هذا، وعلى الرغم من بقاء تأثيرات الاستشراق اليوم واستمرار دوره في الغرب كوظيفة لعلاقة بين سلطة ومعرفة ـ وهي وظيفة ستستمر على كل حال، مادامت هناك معرفة وسلطة في التاريخ وفي العالم ـ فإنه يمكن أن نقول إنه فيما يتجاوز هذا الاستشراق، أو في موازاته نمت مناهج معرفية إنسانية، قطعت مع حقول الاستشراق الكلاسيكي ومناهجه، وقدمت حقولاً ومقاربات أكثر فائدة للدراسات التاريخية والاجتماعية. وبالنسبة إلى العرب والمسلمين ينبغي الإفادة من المصدرين معاً: من مصادر الاستشراق الكلاسيكي، ومن مصادر الدراسات الاثنولوجية والاجتماعية المعاصرة والتي تطمح إلى أن تكون بديلاً للاستشراق اليوم. وإذ يصعب، في هذه العجالة، إعطاء أمثلة وافية عن أوجه الفائدة التي يمكن للباحث العربي أن يُحصلها من جملة تطور المصادر الغربية ومناهجها حول قضايا العالم الإسلامي، تجدر الملاحظة إلى أن البحث العربي بدأ منذ العقود الثلاثة الأخيرة يشق طريقا واثقا في مجال التاريخ الاجتماعي وتاريخ الفكر، مستفيداً من تلك المصادر ومن حقولها ومناهجها، دون الوقوع في جاذبية التقليد، ودون الهروب إلى أشكال من "الممانعة الثقافية" التي أدت اليها، ولا تزال، إشكالية العلاقة السياسية بالغرب، وتعثرات مشروع النهوض العربي. إن حيزا كبيرا من المعرفة الاستشراقية وغير الاستشراقية في العلوم التاريخية والاجتماعية يبقى حيز معرفة إنسانية وعالمية فاعلة ومؤثرة، وسواء حمّلت هذه المعرفة ما "نحب" أم ما "نكره"، وسواء صنفها بعض الإسلاميين في خانة "التعاطف" مع الإسلام أم في خانة "العداء" له، فإن حيز تأثيرها وفعلها أضحى تأثيراً عالمياً، ولا يمكن رد "ضررها" إن كان لها من ضرر إلا في دخول "معرفتنا" الحيز العالمي، أي أن يصبح بحثنا العربي مرجعاً معرفياً عالمياً.

مدارس الاستشراق

وإذا كان لابد من ذكر أمثلة على حيز الأهمية الذي احتلته حركة المعرفة الاستشراقية خلال تطورها وتفاعلها مع مدارس معرفية أخرى في غضون القرن العشرين، فإنه يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، تأثيرين ـ نستقيهما من التجربة الفرنسية:

ـ تأثير المدرسة الماركسية "المستقلة" (غير الستالينية وغير الحزبية).

ـ تأثير مدرسة "الحوليات" Les annales.

من تجليات المدرسة الأولى: أذكر على سبيل المثال أعمال المستشرق "مكسيم رودنسون"، الذي قدم دراسات مفيدة جدا في مجال التاريخ للأفكار والإيديولوجيات في العالم الإسلامي وفي مجال التاريخ للتشكيلات والوضعيات الرأسمالية داخل الإسلام. "الإسلام والرأسمالية".

ومن تجليات المدرسة الثانية Les annales: أذكر على سبيل المثال أيضا أعمال عدد كبير من المؤرخين الفرنسيين حيث كان بعضهم جزءا من هذه المدرسة، وبعضهم الآخر كان متأثرا فقط بمناهجها وحقولها وموضوعاتها.

من هذه الأعمال، أعمال المؤرخ موريس لومبار Lombard، الذي أرَّخ للحقل الاقتصادي وعلاقات التبادل في الحضارة الإسلامية وما بين الحضارات "الأسواق، طرق التجارة، الذهب، النسيج..".

ويمكن أيضاً ذكر أعمال كلود كاهن، ولاسيما في مجال دراسته لخصوصية الإقطاع وقضايا الملكية والأرض في التاريخ الإسلامي.

وأعمال أندريه ريموند التي تدور حول التاريخ العمراني والمدني للمرحلة العثمانية، وأعمال أندريه ميكيل، التي درست بشكل أساسي فضاءات الجغرافيا ـ التاريخية لدار الإسلام.

هذه الأعمال وغيرها الكثير تتجاوز مناهج الاستشراق الكلاسيكي ووظائفها السياسية، وكما بدت في بعض أعمال ماسينيون، في مرحلة الحرب العالمية الأولى عندما طرحت مسألة الخلافة، ومسألة إقامة إدارات محلية في مناطق العالم الإسلامي، أو كما تبدو اليوم وفي السنوات الثلاثين الأخيرة في أعمال برنارد لويس عندما طرحت بحدة إشكالية العلاقة بين الإسلام والعلمانية، أو إشكالية بناء الدولة الحديثة في "اثنولوجيا الشرق ـ الأوسط" ارتكازا على النموذج المحبب لدى لويس وهو نموذج "أتاتورك".

نحن وحركة المعرفة

وفي رأيي سواء كانت الدراسات الغربية حول قضايا العالم الإسلامي استشراقية، على طريقة ماسينيون أو لويس، أم سوسيولوجية واقتصادية وعمرانية على طريقة رودنسون ولومبار وريموند وميكيل.. فإن الواجب العلمي والوطني لدى الباحث العربي يقتضي الاطلاع المعمق على حركة المعرفة والتسلح بزاد منهجي يؤهل للاستيعاب والنقد. لكن تبقى المشكلة في بلادنا العربية والإسلامية بشكل عام، مشكلة المكنة والقدرة، وهي مشكلة متعددة الجوانب والوجوه:

فهي أولاً مشكلة إعداد الباحث القادر على الاطلاع على الفكر الغربي، استشراقا كان أو غير استشراق. وهنا يمكن إثارة مشكلة الجامعة المحلية ومستواها ومناهجها وطرق تدريسها مع كل ما يطرحه الموضوع من تداعيات على مستوى التعليم ككل وفي كل مراحله.

وهي ثانيا، مشكلة اجتماعية وسياسية ومفاهيمية تطال وظيفة الباحث ودوره وموقعه في ظل العلاقة الملتبسة وغير المتوازنة بين الباحث صاحب سلطة المعرفة "مبدئيا" وبين السياسي، صاحب مشروع السلطة السياسية.

السؤال كيف يمكن تأمين استقلالية للباحث تؤهله لأن ينتج معرفة موازنة للسلطة السياسية وقادرة على المشاركة في صناعة القرار، وعلى ترشيده أو ضبطه أو منعه بالطرق السلمية أي عبر تداول الأفكار وحركتها وتأثيرها؟. لم نبتعد، في هذا الكلام، عن موضوعنا الذي هو "الاستشراق". فالاستشراق مارس سلطة معرفية، ذات وقت، وربما لايزال يمارسها عبر مناهج وأقنية أخرى. وفي رأيي هنا تكمن أهميته وقيمته للدراسة والمراجعة والنقد، وصولاً إلى إنتاج معرفة عربية أصيلة وجديدة وعالمية ومؤثرة في "صناعة القرار" المحلي والعالمي، على ان البحث العربي اليوم لا ينطلق من الصفر كما قلنا، ثم إن قطاعاً واسعاً منه تخلص من عقدة "التبعية" كما تخلص من عقدة الرفض الطفولي. وإذا كنا نلاحظ اليوم ـ ومع صعود الحركات الإسلامية الجديدة ـ هجوما على الثقافة الغربية والاستشراق، وبصيغ تبسيطية تستعاد فيها مقولات "النقد العربي" القديم للاستشراق، كمقولات "التبشير والاستعمار" ودون بذل أي جهد في الإطلاع، فإن أسباب تجدد هذا الهجوم قد تعود اليوم إلى تراجع مشروع النهوض العربي.

تدهور فكري

ومن مظاهر هذا التراجع تدهور الحالة الثقافية والتعليمية في البلاد العربية بدءا من مستوى المدرسة الابتدائية إلى مستوى الجامعة، ناهيك عن الأزمات الاجتماعية والسياسية وشبح الحرب الأهلية الذي يهدد أكثر من بلد عربي.. وناهيك أيضاً عن شبح الإرهاب الفكري الذي يتوزعه أهل الدولة المستبدة وبعض قوى المجتمع الأهلي التي تبتز أهل الدولة بمتراس "إسلاموي".

إن الخيط الذي يربط ـ مثلا ـ ما بين قضية علي عبدالرازق في مطلع القرن العشرين، ونصر أبوزيد وحسن حنفي في آوخر القرن، هو نفسه الذي يربط ما بين "مخاوف" قوى اجتماعية وسياسية على "الخلافة" سابقا وعلى "الشريعة" اليوم. وفي ظل هذه "المخاوف" التي تثور في غير محلها ثم لا تلبث أن تتحول إلى هلع وفزع وتكفير وتفسيق في خضم الأزمات، يصعب أن يستقيم منهج علمي أو أن يصيب نظر إلى الأشياء. رحم الله "مالك بن نبي" عندما شبه الهدف الخاطئ للعمل الجماهيري بـ "المنديل الأحمر" الذي يوضع أمام الثور حتى يُخيل له أنه الخصم الذي ينبغي القضاء عليه فيقضي الثور على نفسه. المعادلة الصعبة هي في تحقيق التوازن والتكامل ما بين المعرفة والسلطة، ولكي يتحقق هذا التوازن في بلادنا لابد من إنتاج معرفة تحوز مكانة السلطة.

هذا التوازن تحقق نسبيا في النموذج الديمقراطي الغربي، في حين بقيت العلاقة بين المعرفة والسلطات في بلادنا علاقة ملتبسة.. فالعارف أو المؤهل لمعرفة ما عليه أن يختار بين ثلاث: إما أن يجلس في "حاشية" السلطان أو أن "يخرج"، أو أن ينضم إلى أهل "المحنة" المعروفين جيداً في تاريخنا. هذا بانتظار خيار رابع، يسمح لنا بقراءة الاستشراق وغير الاستشراق قراءة معرفية لا تؤدي إلى محنة علي عبدالرازق أو محنة نصر أبو زيد. هذا إذا اكتفينا بمثلين فقط من تاريخنا الراهن.

 

وجيه كوثراني