حقيبة بلون الشفق والرمل محمد المخزنجي

إليك واحدة من تلك اللحظات يا محمد.. في بيت تشيخوف الذي حولوه إلى متحف. في الصالة التي تفضي إلى غرفته وغرفة شقيقه. هناك إلى جوار الباب يوجد مكتُبًه ذو الطلاء الأبنوسي وعليه غطاء من الجوخ الأخضر، ومصباح بمظلة، وآخر ورقة كتبها. وفي الوسط طاقم جلوس دقيق بديع بكساء من قماش الخام وحواف بنية. وفي الركن خزانة نحيلة من خشب البلوط لها واجهة كاملة من البللور الصافي. وما أن نظرت إلى الرف الأوسط داخل الخزانة - التي كان يستعملها تشيخوف لحفظ أدواته الطبية - حتى .. انذهلت.

تسمرت أمام الخزانة محدقًا، جاحظ العينين لابد، فأعلنوا حالة الطوارئ في المكان، وخضعت على الفور لرقابة مشددة من أمناء المتحف وحراسه. ولابد أنهم ارتابوا في نواياي تجاه محتويات الخزانة التي أدمت التحديق إليها، خاصة تلك الحقيبة التي كان يستخدمها تشيخوف.. الطبيب.

كانت حقيبة صفراء برتقالية، حقيبة من جلد الغزال يا محمد.. تماما تشبه الحقيبة التي حلمت بها منذ ثلاثين سنة، وكانت سببا لصدام جنوني مع أمي المسكينة، وسببًا لاكتشاف لعله هو الذي مازال يبقيني على قيد الحياة.

إن هذه التزامنيات، هذه التوافقات الغامضة بين أشياء متباعدة، هذه التجليات تذهب بلبي يا محمد.. لهذا صرت من عشاق يونج الذي حاول إضاءتها، ومن ثم ساءت علاقتي برؤى فرويد الجزئية المتعسفة. بل ساءت علاقتي براهن الطب النفسي كله، وصرت الآن من أنصار المدرسة المضادة للطب النفسي.. أي أنني الآن ضد مهنتي، مفارقة غريبة، وقد تبدو مربكة، لكن هذه حكاية أخرى.

لقد أذهلتني حقيبة تشيخوف، الصفراء البرتقالية الوردية تلك. ذلك اللون الذي هو خليط من لون الرمل، ولون الشفق في الصحراء، وللشفق لون مختلف جدا عندما تراه في أفق الصحاري.. خليط من البرتقالي والوردي، برتقالي خاص جدًا، ووردي مثله، وكلاهما مثل الصحراء في وضوحها الذي يوحي بالغموض .. بالأبدية .. شيء يشعرك بأنك ذرة في ملكوت لانهائي، بأنك ضئيل ومحاط بالوحشة. ومن ثم تتراجع ثم تتلاشى كل الخصومات الكبيرة والصغيرة في نفسك، ويصير هاجسك ألاّ تضيع وألا يحرقك العطش أو تشويك الشمس. تغدو صامتًا وباطنيًا على الأرجح، وتفرح بأصغر ظل يتحرك بقربك.

إنه لون الشفق في الصحراء يا محمد.. هذا الذي ينتسب إليه لون جلد الغزال، ولابد أن كل جلد مصبوغ بهذا اللون ينسب إلى جلد الغزال. لكنني لا أعرف على وجه الدقة هل كانت حقيبة تشيخوف من جلد الغزال أم بلونه فقط. ولا أعرف إن كانت الحقيبة التي تشبهها تمامًا، والتي حلمت بامتلاكها منذ ثلاثين سنة، من جلد الغزال حقًا أم أنها فقط بلونه. لا أعرف، لكنني على أية حال أتذكر كم كنت أطارد أمي بإلحاحي حتى تلح بدورها على أبي كيما يشتري لي حقيبة من "جلد الغزال".

أتذكر أنني كنت أتبعها بإلحاحي حيثما ذهبت، وفي ذلك اليوم رحت أهددها بأنني لن أذهب إلى المدرسة إلا ومعي حقيبة "جلد الغزال". بل أقسمت لها أنني سأمزق حقيبة "الدمور" القبيحة تلك إن هي لم تعطني وعدًا فوريًا. وكانت أمي عندئذ في ركن المطبخ، أمام "وابور جاز" يطن وعليه حلة نحاسية مسودة يتصاعد من تحت غطائها البخار. التفتت أمي نحوي، ورأيتها كما لم أرها من قبل .. هي العصبية أبدًا، التي تحمل ثقل هموم بيت كبير به أحد عشر فردًا، بطعامهم، وشرابهم، وغسيلهم، وذهابهم، وإيابهم. التفتت نحوي مشرقة بضحكة غريبة، معابثة ومبتهجة، بل لعلها اهتزت بجذل راقصة لي رقصة صغيرة وهي تقول: "ياسلام.. غالي والطلب رخيص.. أول ما يبيض الديك طلبك يتحقق".

وجن جنوني.

لقد كانت تسخر مني إذن، بل وتعني أنني لن تكون عندي هذه الحقيبة أبدًا. مجنونًا طرت إلى الصالة حيث كنا نضع حقائبنا المدرسية على " الترابيزة" الحديدية التي تتحول عند الحاجة من طاولة للمذاكرة إلى مائدة للطعام، والتقطت حقيبتي الدمور. وأمام عيني أمي المدهوشة اختطفت سكين المطبخ، ورحت أضرب الحقيبة. أمزقها. وإذ بأمي تنقلب إلى عصبيتها وتنقض عليّ، تضربني لتمنعني من الاستمرار في تمزيق الحقيبة. واشتعل جنوني.

إنني أعرف تمامًا كيف ينشأ الجنون ابتداء من تلك اللحظة، لهذا أزعم أنني أفهم مرضى الهوس خاصة، ومرضى الهياج الوجداني عامة. فما هي إلا لحظة. لحظة يبرق فيها بارق، ويختلط الصوت بالضوء والحي بالجامد، ويندفق هذا كله باتجاه الإنسان كأنه ينصب عليه من فوهة خلاط جهنمي. ولا ملاذ. لا شيء غير الصراخ، محاولة لوقف هذا الوجود المهروس والمصبوب على الإنسان. صرخت وأنا ألوح بالسكين في وجه أمي فارتعبت، وتراجعت.

أخذت حبيبتي المسكينة ترجع بظهرها، نصف خطوة فنصف خطوة، وسكت العالم يامحمد. هل تعرف هذه اللحظة التي تعقب هطول مطر عنيف.. فجأة تشرق الشمس، لكنها تشرق على دنيا أخرى، مغسولة بفظاعة حتى أنها تبدو مسحورة. تلك كانت لحظة مسحورة، عندما راحت أمي تتراجع أمامي وأنا أرفع السكين. مؤكد أنني لم أكن لأمسها بسوء، ومؤكد أنها لم تكن خائفة مني. لكنها كانت مذعورة لحالي. مذعورة ومحسورة، ولما وصلت إلى الجدار تهاوت مرتكنة عليه. ونبست: "ياربي.. يارب"، وانفجرت في البكاء فانفجرت صارخًا أجري وفي يدي السكين: "هاااااه".

آه يا محمد من هذه الأشياء التي تُحس ولا تُقال ويصعب وصفها. لقد رأيت في لحظة أن أمي غلبانة، جميلة وغلبانة، وأنني غلبان، وأن الغلب كثير وثقيل، وأن الدنيا قاسية. ولم تكن صرختي الجنونية وأنا أجري رافعًا السكين بغير هدف إلا تعبيرا عن ذلك: "هاااااه"، فهي ليست "آه" وليست عاه، بل هاااااه غريبة انطلقت من غياهب صدري وقذفت بي من باب الشقة. وعلى ضوء شعاع ضئيل من بصيرة باقية اتجهت بي قدماي إلى السطح بدلاً من الخروج إلى الشارع. كان لابد لي أن أنتهي إلى مكان ما، وكان المكان عشة الدجاج، وجها لوجه أمام الديك. فهل انت هذه ترتيبة من ترتيبات يونج اللاسببية؟.. ربما. كان عمري عشر سنوات يومها. عشر سنوات، أي ثلاث سنوات بعد بداية القدرة على التجريد لدى الطفل. بداية الفصل ما بين التخييلي، والحلمي، والواقعي. قبل ذلك يتعامل الطفل، تقريبا، مع هذه الأشياء على قدم المساواة. بعدها لا يحدث ذلك إلاّ في الجنون. وأعتقد أنني لم أكن مجنونا يومها. ثم إنني كنت أبكي، أبكي بتوحش وقد قبضت على الديك وأنا راكع وهو بين ركبتّي ويدي اليسرى، بينما كانت يدي اليمنى ترفع السكين. هذه المرة كنت سأطعن، سأطعن حقا، كنت سأمزقه إن لم يستجب لتهديدي: إما أن يضع البيضة أو أخرجها من داخله.

لحظة بدأت هياجي كان ذلك لإدراكي أن أمي تسخر مني. ثم أدركت أنها تسخر من حالنا. وبعد ذلك أدركت أن بيضة الديك الذهبية التي يضعها مرة في العمر، بيضة الحكايات السحرية، أيقنت أنها حقيقية وموجودة في أحشاء الديك الممسوك بين ركبتي ويدي والسكين. كنت سأمزقه أو يضعها. يضعها. والله يا محمد، كنت أصرخ فيه فيرتعش الدجاج الذي تكوم في الركن ينظر بدهشة ووجل. ثم أخذت صرخ بلا زعيق، بغل، وبتحفز، وبشعور رافض تمامًا، تمامًا، لتكذيب وجود بيضة الديك الذهبية تلك.

نحن يا محمد لا نستطيع تخيل إلا ما هو موجود، أو موجود بطريقة ما غير معروفة، وما التخيل إلاّ وسيلة للوصول إليه. ذلك ما يسمونه، ربما، بالنموذج المعرفي الأول.. المطمور في أعمق طبقات النفس. وما الفصل القاطع بين المتخيل والمحسوس إلا محض غرور. تيه فارغ بما نملكه من حواس، قد تستقبل الكثير، لكنها تعمى عن الأكثر. إنني الآن مؤمن بذلك. ومن يومها. يوم رأيت الديك المحاصر يُبدي هذه التحولات الغريبة. وهنا فقط يمكن أن أتحدث عن الجنون، فلو لم أكن طفلاً ورأيت ما رأيت لُجننت، لتحولت إلى ممسوس حتى آخر لحظة من عمري. لكنني كنت طفلاً، وقريبا من العالم المتآخي: عالم المحسوس وغير المحسوس، المتكاملين، واللذين يسفران عن نفسيهما في لحظات نادرة من لحظات القدرة القصوى على الاستقبال. ومنها لحظة الديك تلك.

في العشة التمت الدجاجات على نفسها وتزخنقت، وكفت تمامًا عن القوقأة، بل عن الحركة، وإن ظلت تنظر نحونا - أنا والديك - بعيونها المدورة المدهوشة.

أما الديك فإنه التفت برأسه عدة مرات.. أخذ ينظر إلى بكل عين مرّة.. عيونه الكهرمانية الصافية تلك. ثم انتفش. ووجدت نفسي أوسع له حتى يأخذ مجده. لكن يدي ظلت معلقة في الهواء فوقه وبها السكين. وشيئا فشيئا راحت هذه اليد تهبط مرخية أصابعها، تاركة السكين يقع غير بعيد. كان الديك يشف أمامي يا محمد. في البدء زهت بشدة ألوان ريشه المنتفش. ثم ثبت على هذا الوضع من الانتفاش وتألق الألوان، وراح يشف. ألوان الريش نفسها والهيئة نفسها لكنما تشف. صار ديكا من زجاج حي، ملون، وفي قلب الزيغ اللوني داخله أخذت شمس صغيرة تولد.. تشتعل بلون ذهب هادئ. وما أن تحركت أنا حركة يسيرة حتى اختلفت زاوية النظر، وتبينت دحو هذه الشمس الصغيرة.

كانت لحظة مثل السرنمة، تلك التي تلت هذا التجلي. أتذكر أنني رحت أمد يمناي التي سقطت منها السكين. أمد يدي مبسوطة وملتمسة وتدنو ببطء مسحور. هل استمرت هذه اليد في تقدمها حتى غاصت في الجسم الأثيري لذلك الديك الشفيف وخرجت بالكنز. أم أنه استدار وتحرك ومنحني ذهب أعماقه بطريقة ما. لا أتذكر، ولم أستطع عبر ثلاثين عامًا أن أتذكر. تلك حالة يسمونها النسيان التراجعي، حيث ينسى المرء وقائع ما قبل الصدمة التي ترج الدماغ. ولابد أن استقرار ذلك الألق الذهبي في يميني كان بمثابة صدمة. ضربة خرافية ارتج لها كياني كله وليس دماغي فقط، فنسيت ما استبقها مباشرة. لكنني أتذكر هذا النور الذي خطف بصري وقد نام في كفي. كانت البيضة من ذهب غريب. يشف دون أن يفقد ذهبيته، وكنت أتبين خلال شفافيته ثنيات أصابعي وخطوط كفي. ورغم أنني كنت طفلاً إلا أنني حزمت أمري بغريزة لا أظن إلا أنها تخبئ خبرة سبعة آلاف عام على الأقل. عمر الحضارة المكشوف عنها لدينا نحن المصريين. نعم. ألا ينتابك هذا الإحساس يا محمد، عندما تنظر إلى الأطفال عندنا. خاصة هؤلاء الذين يعملون كصبيان ورش وفي الأسواق، ألا تحس أنهم أطفال عواجيز جدًا؟..

وبخبرة هذا البعد الغائر من الزمن، بحكمة هذا الموروث اتخذت قراري، بل مجموعة قرارات تتعلق بالكنز الذي خبأت سطوعه في أعمق تلافيف ملابسي. فلا بوح. ولا بيع. إنه سري. سري وحدي.

الآن اتحدث عن ذلك حيث صار مستحيلاً العثور على بيضة الديك الذهبية تلك، حتى لو حددت المكان الذي دفنتها فيه. دفنتها في مكان لا يخطر على بال أحد غير طفل أو حيوان من حيوانات الجحور، وتغيرت تمامًا بعد ذلك.. صرت صموتًا وقنوعًا ولا مطالب لي.

كنت على موعد دائم مع كنزي، أتسلل وأقف على مقربة من المكان الذي دفنته فيه، وأغمض عيني مستعيدًا ألق تلك الشمس الصغيرة في كفي، فيمتلئ بها كفي.. تلك البيضة النادرة من الذهب الشفاف، صرت أرى خلال شفافيتها ليس مجرد خطوط كفي وإنما.. صرت أرى خلالها ما أحلم برؤيته وامتلاكه.. كل شيء كنت أطلبه، أراه، أمتلكه بكيفية ما. حقيبة جلد الغزال في البداية، ثم أطعمة وأشربة وملابس ولعب شتى. بعد ذلك صرت أمتلك عبرها كل ما يناسب العمر في حينه.. أجمل النساء، وأجمل المدن، وأجمل السفن، وأجمل السحب.. وأعز الانتصارات. وضروب من الحرية والفرح والتعزي لا قبل لواقع بها.

في كل ما اعترض سبيلي من آلام ووحشة ويأس كان هذا الكنز المخبوء ملاذي. لعلك تعرف يا محمد أنني ضيعت حبين كبيرين، وذقت مرارة الحبس خمس مرات، وقطعت شرايين يدي مرة. وعشت دائما على الحافة. عانيت إحباطات كثيرة، وانهزمت مرات، وغبنت، وأخطأت. ولم أرض عن شكل العالم من حولي أبدًا. لهذا لم أستقر طويلاً في مكان. وحتى هذه اللحظة تمضي حياتي كنوع من الفرار المتواصل. ولا عزاء لي إلاّ إحساسي بامتلاك هذا الكنز، الذي ما أن أستعيده حتى يستوي كل شيء ويدنولي ما أريد.

لقد تم رصف المكان الذي دفنمت فيه كنزي. أفزعني ذلك في البداية، ثم وجدتني أشرق مطمئنا في منطقة أخرى من التفكير، فبهذا الشكل صار الكنز أعمق اختباءً وأبعد منالاً من أن تدركه أي يد. إنه يظل لي وحدي. ولعلي قبل موتي أشير إلى مكانه لأحد ما، إن كنت سأرى مناسبة لذلك. أما إحالته إلى ممتلكات عامة فهي بعيدة عن ذهني تمامًا.. تمامًا. فهناك أشياء لا يصونها إلا الامتلاك الفردي لها. وما كنزي إلا من هذا النوع.

غريبة هي الحقيبة التي ترقد في الخزانة ذات الواجهة الزجاجية في بيت تشيخوف. أذهلني تطابقها مع تلك التي حلمت بها حتى جعلتني استدعي حكاية كنزي ذلك. يا الله. اللون نفسه والهيئة والمقبض الحنون والجيوب الخارجية والأقفال. المفروض أنها حقيبة طبيب لكنها مختلفة عن أي حقيبة لطبيب. إنني على استعداد أن أقسم بأنها الحقيبة نفسها التي حلمت بها يومًا، وقادني حلمي بها إلى اكتشاف ما اكتشفته. وإنني بمقدار يقيني في نظرية وحدة الكون، لا أشك لحظة في أن بارقًا برق - لسبب ما - في الوجود، يوم كنت في العاشرة، ونقل إلى ذهني الحالم صورة تلك الحقيبة النائمة في خزانة ذات واجهة زجاجية.. على بعد آلاف الأميال، وراء بحرين، وسلسلة جبال راسخة، وفي أقاصي قارة بعيدة.

لم أكن قادرًا على شرح ذلك كله لأمناء المتحف الذين لفت أنظارهم وقوفي الطويل أمام الخزانة، وأثار ريبتهم تحديقي في تلك الحقيبة. ولعلهم لمحوا رغبتي الشديدة في أن أتلمسها. ولعلني أنجح في تلمسها يومًا ما. وإنني على يقين أنها ستكون خالية مما يتوقعون وجوده فيها. لن يكون في قلبها النائم إلا بريق لذهب مسحور، لم ينطفئ رغم مرور أكثر من مائة سنة، ولعله لن ينطفئ أبدًا.