حمد الرجيب: عاشق شرايين الوطن

حمد الرجيب: عاشق شرايين الوطن

رواد الثقافة والفكر في الكويت

كيف يمكن الإلمام بكل جوانب شخصية هذا الرجل وهي بالغة الثراء? ومن أين لي أن أوفيه حقه في ظل تنوع عطائه وخصوبة هذا العطاء? لقد كان هذا الرجل قنديلنا الذي لم ينطفيء يوما.. فكنا على جناح حنانه نتكيء, وعلى وسادة طموحاته وحضارته نحلق في سماء المعرفة دون حدود. وننهل من ينابيع الثقافة والفن دون قيود.. كان هذا الرجل يعرف مهمته جيدا ويدرك أبعادها. هذا ما كتبه حمد الرجيب عن أستاذه المنور الكويتي الراحل عبدالعزيز حسين. لكنني لم أجد أبلغ منها لوصف كاتبها ذاته.

ولد حمد عيسى جاسم الرجيب في العام 1924 (يذهب البعض إلى أن سنة ميلاده هي 1922) في قلب مدينة الكويت القديمة لأسرة ميسورة الحال. وتلقى تعليمه في المدرسة المباركية (أول مدرسة في الكويت أنشأها الأهالي بجهودهم الذاتية). وقد أظهر في المدرسة نبوغا واضحا. لكن اهتماماته في هذه الفترة لم تقتصر على التحصيل الدراسي فقط, بل أظهر اهتماما واضحا بالأدب والفن أيضا. وفي العام 1939 شارك أثناء دراسته في المباركية في تقديم أول مسرحية تقدم في الكويت بعنوان (إسلام عمر). واللافت هنا أنه مثل فيها دورين, أحدهما دور نسائي هو دور فاطمة أخت عمر.

وفي العام 1942 أنهى دراسته الثانوية وعين بعدها مدرسا في المدرسة الأحمدية. لكن النقلة النوعية التي حدثت في حياته كانت في ابتعاثه إلى العاصمة المصرية في العام 1945 لدراسة التربية في معهد المعلمين. وهو العام نفسه الذي شهد تأسيس بيت الكويت في العاصمة القاهرة, وهو البيت الذي حوله الأستاذ عبدالعزيز حسين إلى جامعة من طراز فريد. هدفها تخريج الكوادر العلمية التي كانت تحتاج إليها الكويت الناهضة. وهناك تأثر حمد الرجيب بشدة بشخصية معلمه. وعن هذه الفترة يقول: (جعل عبدالعزيز حسين من بيت الكويت منارة ثقافية.. كان الطلبة الكويتيون من خلال هذا الملتقى يتعلمون التفكير بحرية.. والحوار بحرية.. فاستطاع عبدالعزيز حسين أن يخرجنا من دائرة الالتصاق بالذات وتحقيق الأماني الشخصية إلى دائرة أوسع وأرقى وهي الالتصاق بالكويت والتفكير في تحقيق ما تصبو إليه.. حتى حينما قررنا التخصص كنا نربط أهدافنا الشخصية بأهداف الوطن ونفكر جديا في ما تحتاج إليه الكويت من تخصصات ثم نتجه للتخصص فيه.. وأذكر على سبيل المثال أنه كان معنا طالب ذكي وجاد وعلى خلق كريم.. هو المرحوم عبدالوهاب حسين.. كان يدرس الهندسة في القاهرة.. وأذكر أنه كان يصمم, وهو بعد طالب, دارا للمسرح وأخرى للأوبرا تليق بطموحات الكويت.. لم يكن في الكويت هذه الدور في ذلك الوقت.. وهكذا علمنا الأستاذ عبدالعزيز حسين ألف باء الوطنية والانتماء.. فكان كل واحد منا يفكر ماذا يمكن أن يقدم للكويت من خلال تخصصه حتى نرتقي بها ونأخذ بيدها).

كان عبدالعزيز حسين إذن بالنسبة لحمد الرجيب, كما كان بالنسبة لبقية الطلاب الكويتيين, بمثابة الموجه والمرشد والأب والأخ الاكبر. وكان حريصا كل الحرص على التطور الفكري والثقافي لهذه المجموعة من الطلاب التي قدر لها أن تلعب دور النخبة وتقود حركة النهضة في المجتمع الكويتي فيما بعد.

في القاهرة كان حمد الرجيب شعلة نشاط. فانطلق يتكلم, ويقرأ, ويراقب, ويبحث ويكتب. والتحق بالمعهد العالي لفن التمثيل العربي. وكان يدرس التربية وعلم النفس في الصباح, والمسرح في المساء, حيث تتلمذ على أيدي أساتذة عديدين أبرزهم الراحل زكي طليمات. ورغم ما يحتاج إليه الجمع بين دراستين في الوقت نفسه, فإنه لم يكتف بذلك فقط, بل كان أيضا كاتبا منتظما في مجلة البعثة, ومخرجا وممثلا للمسرحيات التي كان يقدمها طلاب البعثة في بيت الكويت, حيث قدم 22 مسرحية. وفضلا عن ذلك حرص الرجيب على متابعة الحياة الثقافية والفنية في القاهرة, التي كانت تمور آنذاك بمرحلة مخاض تاريخي وتتهيأ لخوض سنوات التحولات الكبرى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وكان أيضا متابعا دقيقا للعروض التي كانت تقدمها مختلف مدارس المسرح المصري, خاصة مسرحي يوسف وهبي والريحاني.

وباختصار يمكن القول إن أهدافه في القاهرة (أخذت شكلها النهائي, فتيقن أن ظروف مجتمعه الناهض تتطلب منه تجاوز حدود التخصص الوحيد او المجال الضيق. فالحركة الثقافية والفنية حلقات لا يقوم بعضها إلا بقيام الآخر واستواء عوده, لذلك كانت اهتماماته تتجاوز اختصاصاته, برغم اتساع أفقها, فجعل إطار الفن المتسع منطلقه العام, كما أنه حين لامست قدماه خشبة المسرح ارتدى أو ارتدته هموم المسرح كاملة).

على خطى عبدالعزيز حسين

إن المتتبع لحياة حمد الرجيب ليلحظ تشابها غريبا مع حياة عبدالعزيز حسين. ففي العام 1949, أنهى دراسته في مصر, عين الرجيب مساعدا لمشرف (بيت الكويت) في القاهرة, ثم مشرفا عليه بعد ابتعاث الأستاذ عبدالعزيز حسين للدراسة في لندن. ولدى عودته إلى الكويت في العام 1950, عين مديرا لإدارة النشاط المدرسي في إدارة المعارف, حيث اهتم بالمسرح بشكل خاص, فأنشأ فريقا للتمثيل في كل مدرسة, ومنتخبات مدارس باسم (فريق المعارف). وانتقل بعدها للعمل ناظرا لمدرسة الصباح. وأسهم آنذاك في إنشاء نادي المعلمين (1951), الذي أصدر مجلة الرائد الشهرية في عام 1952, ثم الرائد الاسبوعية في عام 1954. ولأن هاجس الوطن كان دائما هو همه الأول والأخير, فقد شارك مع مجموعة من نظار المدارس الأعضاء في نادي المعلمين في كتابة رسالة إلى مجلس المعارف حذرت من المصير الذي قد ينتظر التعليم إذا استمر عدم الاهتمام به. وقد أدى هذا التحرك إلى قرار مجلس المعارف استدعاء الأستاذ عبدالعزيز حسين من لندن ليتولى منصب مدير المعارف في العام 1952. وفي زمن قياسي, حول الأخير إدارة المعارف إلى خلية نحل هدفها تحقيق نهضة شاملة على جميع المستويات. وقد عمل معه حمد الرجيب بإخلاص في إرساء دعائم هذه النهضة لمدة عامين, قبل أن يكلف في العام 1954 بتأسيس إدارة الشئون الاجتماعية.

كان الهدف من تأسيس هذه الإدارة (التي كانت آنذاك بمنزلة وزارة) تنظيم استقدام العمالة الأجنبية, وتقديم الإعانات والخدمات للمحتاجين. لكن الأمر يختلف مع المنورين الكبار ورجال النهضة. فكما فعل عبدالعزيز حسين مع إدارة المعارف عندما حولها إلى رافعة لنهضة المجتمع على مختلف الأصعدة, فعل حمد الرجيب الشيء نفسه مع إدارة الشئون الاجتماعية.

ووجه الرجيب نشاط إدارته من أجل خلق نهضة ثقافية وفنية في الكويت. وكانت نقطة تحول في تاريخ الحركتين الثقافية والفنية في الكويت, اللتين حلقتا بجناحين قويين هما إدارتا المعارف والشئون. وجاءت إليه الفرصة لكي يحقق طموحاته وأحلامه التي حلم بها للكويت. وكانت طموحاته تمتد إلى تأسيس حركة مسرحية وليس فقط نشاطا مسرحيا, حركة لها مقوماتها وخططها وبرامجها ومرافقها العامة المخصصة لها. ولن يتم هذا إلا عن طريق التخطيط والدراسة والمنهجية العلمية وتوفير الشروط الموضوعية, وهي واضحة في ذهنه.. ونتذكر هنا إعجابه الذي أبداه نحو رعاية الدولة المصرية في الأربعينيات للمسرح.. فهو يعلم أن تأسيس وتطوير الفنون لا يتم من خلال قوة نافذة ومقتدرة, وهو واجب منوط بالدولة الحضارية).

في العام 1956, عمد إلى إنشاء (مركز الفنون الشعبية) الذي لعب دورا مهما في صيانة التراث الموسيقي الكويتي من خلال تسجيل أغاني البحر, والبادية والمناسبات الاجتماعية المختلفة, فضلا عن قصائد الشعراء الشعبيين. ورغم انشغالاته الكثيرة, فـإن الرجيب كان يشارك بنفسه مع فرقة المركز الموسيقية عازفا وملحنا وموزعا.

أما على جبهة المسرح, فإن جهود حمد الرجيب تؤهله بجدارة للقب باني المسرح الكويتي. فبعد جهوده الملموسة في تطوير المسرح المدرسي على أسس علمية. كانت الخطوة التالية هي الاستعانة بأستاذه زكي طليمات للعمل على تطوير المسرح في الكويت. وهكذا وجهت الدعوة لزكي طليمات لزيارة الكويت للمرة الأولى في العام 1958 في إطار الموسم الثقافي الرابع, الذي كانت تنظمه سنويا إدارة المعارف, حيث حاضر مرتين عن المسرح, وقدم عرضاً على مسرح ثانوية الشويخ. واحتدم الجدل في محاضرته حول أهمية المسرح وصواب أوخطأ أن يقوم الرجال بأدوار النساء, وكان هذا مقدمة لزيارته الثانية للكويت, وإقامته الطويلة فيها, التي أشرف خلالها على تأسيس فرقة مسرحية وتعليم وتدريب هواة المسرح, وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام تطوير الحركة المسرحية الكويتية وتكوين الفرق المسرحية الأهلية بعد ذلك بعامين فقط.

وبفضل جهود حمد الرجيب في رعاية الفنون, أصبح للفنان مكانة محترمة في المجتمع الحديث في الكويت, وسرعان ما وصلت الحركة الفنية في الكويت إلى مرحلة النضج بفضل الرجل الذي عبّد الدرب, وأسلم قيادة المسيرة, بعد أن انتقل للعمل السياسي سفيراً ثم وزيراً, لأبنائه الذين وعوا الدرس جيداً, ووضعوا أقدامهم بقوة على الساحة الثقافية والفنية العربية, فشهدت الستينيات الانطلاقة الكبرى للحركة المسرحية الكويتية. حيث توالى إنشاء الفرق المسرحية. فأشهرت فرقة المسرح العربي في 10/10/1961, ومسرح الخليج في 19/5/1963, والمسرح الكويتي في 12/7/1964, والمسرح الشعبي في 29/7/1964. وتولت الدولة أمر تقديم العون إلى هذه الفرق المسرحية, التي بدأت تقدم أعمالاً مسرحية متباينة الجودة مؤلفة محلياً أو مترجمة أو مقتبسة أو عربية, واستدعت الدولة خبراء لبحث موضوع النهوض بالمسرح في الكويت. وكان من نتائج الدراسات التي وضعوها قيام معهد الدراسات المسرحية في عام 1965, وهو على المستوى الثانوي. وظل قائماً إلى أن حل محله المعهد العالي للدراسات المسرحية (الذي تحوّل اسمه لاحقاً إلى المعهد العالي للفنون المسرحية, وهو الوحيد من نوعه في منطقة الخليج).

رجل النهضة

انتمى حمد الرجيب لجيل النهضة العربية بشكل عام, والكويتية بشكل خاص. وهو الجيل الذي أفرزته فترة تاريخية شديدة الخصوبة محلياً وعربياً ودولياً. جيل من المفكرين والرواد العرب الذين لم تنحصر أحلامهم وطموحاتهم وإنجازاتهم داخل الحدود الإقليمية الضيقة, بل كانت مشاريعهم دائماً ذات بعد قومي وذات أفق رحب يأخذ في الاعتبار قضايا وهموم الأمة العربية بأسرها, فهو جيل الأحلام والإنجازات, جيل حمل على عاتقه كل طموحات الشعوب العربية من أجل غد أفضل ومستقبل أكثر إشراقا. وهو أيضاً الجيل الذي حقق كل التغيرات والتحوّلات السياسية الفكرية والاجتماعية الكبرى التي مازلنا نجني ثمارها ونتغنى بها حتى اليوم.

وقد كان عطاء هذا الجيل بحجم طموحاته, وضرب رجال هذا الجيل المثل في القدرةعلى العطاء في أكثر من مجال. لذا لم يكن مستغرباً أن يسهم عبدالعزيز حسين في تأسيس بيت الكويت ومجلة البعثة, وبناء النهضة التعليمية الحديثة, وتأسيس وتنظيم النشاطات الثقافية المختلـفـة, ورعاية الحركة التشكيلية الكويتية, وتأسيس جامعة الكويت, ومعهد الكويت للأبحاث العلمية والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. ولم يكن مستغرباً أن يكون حمـد الرجيب مؤسس الحركة المسرحية الكويتية, وعلماً من أعلام الموسيقى, وحافظاً للتراث من الضياع, وكاتباً صاحب قلم ساحر, لكنه بقي دائماً المعلم الكبير, وهو الذي قال عن مهنة التعليم: (لقد عملت في مهن كثيرة, لم أجد متعة فيها مثل مهنة المعلم في حياتي كلها).

وكان قبل هذا وذاك عاشقاً لشعبه ووطنه, وهو القائل: (أنا رجل أنتمي للقبيلة بمعناها الجميل. وقبيلتي هي الوطن الذي يتوسد في كل منا حبة القلب ونبض الجوانح, فأنا إذن بدوي الثقافة والجذور, تأسرني قيم البادية بوثاقها الإنساني, وبهذه المقاييس أحمل مصابيح المحبة وأقلّب صفحات الأيام لأتعرف على هوية الرجال).

وكان - رحمه الله - مؤمناً صادقاً بدور الفن في بناء عقل ووجدان الناس. ففي مذكراته, التي حملت عنوان (مسافر في شرايين الوطن), يقول الراحل الكبير: (كان المسرح ولايزال المرآة التي تطل منها الشعوب على ماضيها وحاضرها وأيضاً مستقبلها. إنها طاقة أو نافذة سحرية تجعلنا نطل من الوعي واللاوعي على صورتنا وصورة غيرنا في عيون الحضارة).

وكما بدأنا بكلماته عن عبدالعزيز حسين, ننتهي أيضاً بكلماته عنه, فهي منه إليه: (أيها الرائد بفكرك وخلقك... إنك لم تفارق القلب. ولم تفارق الكويت.. فأعمالك باقية, ومثلك لا ينتهي بالموت.. لأننا في حاجة دائمة إليك, إلى قيمك وخلقك الرفيع, في حاجة لابتسامتك تطل علينا فتحل بنا السكينة والطمأنينة بعد أن ظننا أنها ضاعت منا إلى الأبد, ففي عالمنا ينضب كل شيء جميل, ويتسرب من بين أصابعنا رواد نهضتنا الواحد تلو الآخر).

 

أحمد خضر

 
 




حمد الرجيب





سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله وحمد الرجيب والمؤرخ سيف مرزوق الشملان والقاص فهد الدويري في ديوان الشملان في البر في 30/ 3/ 1989





حمد الرجيب مشاركاً في إحدى المناسبات الثقافية وبجانبه محافظ حولي وعدد من السفراء العرب والأجانب





حمد الأب والسفير في منزله يالشامية





حمد الرجيب الفنان يعزف على القانون في مناسبة عامة





الرجيب في مناسبة عامة عندما كان وزيراً للشئون الاجتماعية وبجانبه الشيخ جابر العبدالله ويعقوب الغنيم والمرحوم الشيخ عبدالله الجابر





الرجيب يتسلم درعاً تكريمة من رئيس اتحاد المسارح الأهلية الكويتية فؤاد الشطي بمناسبة مرور 30 سنة على تأسيس فرقة مسرح الخليج العربي