يرموتا المدينة الغارقة

يرموتا المدينة الغارقة

في السجلات الفرعونية القديمة ذكر متكرر لمدينة مهمة على الشاطيء اللبناني باسم (يرموتا) أو (عرموتا). ويتداول صيادو الأسماك تسمية لسمك يكثر وجوده على أحد الشواطيء هو (العرموط). فما هي العلاقة بين هذا السمك وتلك المدينة التي اختفت وغاب ذكرها عن سجلات التاريخ منذ ثلاثة آلاف عام? هذا ما نحاول كشفه خلال هذه العجالة.

في القرن الرابع عشر قبل الميلاد كانت مصر الفرعونية تسود بلاد جوارها الآسيوية المتعددة القيادات, في لبنان وسوريا وفلسطين. وكان الكاشيون يسيطرون في الشرق على (بابل) التي غيروا اسمها إلى (كاردونياش). وفي الشمال كان الحثيون قد بدأوا بالبروز في المجال الحربي, بينما كان الحوريون في الشمال الشرقي قوة منافسة لمصر, ولهم وجود كثيف في سوريا وفلسطين ولبنان.

ولكي تضمن مصر مداخيلها الاقتصادية من الضرائب على المنطقة أنشأت مراكز إدارية لتتلقى الضرائب وتنظم علاقاتها مع دويلات المدن ولحماية طرق التجارة بين وادي النيل وأرض الرافدين.

أما العلاقات مع القوى الحربية في الشرق والشمال فقد عمد الفراعنة إلى تنظيمها بإنشاء تحالفات تقوم على المصاهرة والروابط العائلية, حيث كان الملوك يتبادلون أخواتهم وبناتهم كزوجات في البلاط الملكي, كما يرد ذكر ذلك في رسائل (تل العمارنة), وهي السجلات التاريخية الأغنى لتلك الحقبة التاريخية المثيرة.

وخلال هذا الوضع السياسي, وعندما حدث تراخ للحكم المصري في عهد الفرعون (أخن أتن) على الأرجح, خطر لزعيم أموري يدعى (عبد عشرتا) أن ينشيء دولة مستقلة تجمع دويلات المدن والقبائل المنتشرة في المنطقة تحت قيادة واحدة, على غرار الدول المجاورة في الشرق والشمال.

أخذ عبد عشرتا بمهاجمة المدن واحتلالها وإقامة حكام عليها موالين له, بينما أخذ حكام هذه المدن الذين ألفوا الحكم المصري يكتبون للفرعون شاكين له تجاوزات هذا (الأموري) وأطماعه, طالبين منه النجدة للمحافظة على مدنهم وإبقائها مخلصة لمصر. وقد وجدت هذه الرسائل محفوظة كأرشيف سياسي في (تل العمارنة) في مصر العليا, حيث بنى (أخن أتن) عاصمته. وتعتبر هذه الرسائل المرجع الأساسي لمعرفة المدن التي كانت عامرة في تلك الحقبة في أرض لبنان وفلسطين وبعض سوريا.

تبرز في هذه الرسائل مدينتان كانتا مركزي ادارة للحكم المصري في المنطقة. الأولى هي مدينة (مسيرا) على حدود لبنان الشمالية, والثانية ـ وهي ما يعنينا هنا ـ تدعى (يرموتا) في الرسائل, وقد اختلف الباحثون في تحديد موقعها. ونعرف من الرسائل انها كانت منيعة وثرية وذات نظام مالي مصرفي, حيث كان أبناء مدينة جبيل يودعون أموالهم فيها, أي أنها كانت مهمة وتستحق البحث لتحديد موقعها.

اسم واسع الانتشار

افترض بعض الاختصاصيين بالتاريخ العبري أنها (يرموتا) المذكورة في جغرافية يشوع (21:29) ومن هؤلاء كان الباحث الأمريكي (أولبرايت). ولكن في نصوص (اللعان) المصرية العائدة للقرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد يرد ذكر بلدتين باسم يرموتا إحداهما باسم (يرموتا إزنو). كما ورد في نص لرعمسيس الثاني, في القرن الثالث عشر قبل الميلاد اسم جبل باسم (جبل يرموتا), والقرائن ترجح أن يكون هذا الجبل باسم (عرمتا) وهو إلى الشرق من مدينة صيدا, وكانت تقيم فيه قبائل معارضة للحكم المصري في أرض (جاهي) أي لبنان كما كانت تعرف آنذاك.

وتبدو التسمية واسعة الاستعمال في المنطقة, وهي في الأساس اسم لإله يدعى (عرمتا) ورد ذكره باليونانية في دير القلعة قرب بيروت, كما يذكر ذلك الأب (هنري لامنس) في كتابه (تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من آثار). وقد استشهد بقرية (عرمتا) التي ذكرناها في جبل الريحان قرب صيدا, وقرية أخرى بذات الاسم في جبل النصيرية قرب اللاذقية, كما أنه ربط ذلك بتسمية (رمطون) الخربة الواقعة قرب نهر الدامور. ونضيف نحن هنا تسمية (الرمثا) في الأردن ومزرعة (الرمثا) التي برز اسمها أخيرا على السفح الجنوبي لجبل (حرمون). أما (الياء) الحرف الأول من الاسم, فهو مثل حرف الياء في اسم (نهر الأردن) حيث يرد الاسم (يردن) في النصوص القديمة كما في النصوص اللاتينية والأوربية المعاصرة اليوم. وقد ورد اسمها (رموتا) في الرسالة 85 من تل العمارنة.

وهكذا يكون علينا الاستدلال على موقع مدينتنا المهمة التي كانت عامرة في الألف الثاني قبل الميلاد من خلال القرائن المتوافرة لنا في اللغة والجغرافيا والآثار.

في النصوص الكلاسيكية

يذكر الجغرافي الإغريقي (سترابو) مدينة بين صور وصيدا باسم (أورنيتو), كما ذكرها كذلك العالم الروماني (بليني الأكبر) بعد سترابو بقليل, أي في القرن الأول للميلاد. والاسم باليونانية يعني (العصافير). ولغياب التسميات اليونانية عن مدن الساحل اللبناني, لكونها جميعا أقدم من زمن الإغريق, نفترض أن الاسم هو تحريف لأورميتو ليس إلا. وقد جرى تحريفه لإعطائه مدلولا يونانيا. ونجد لدى سترابو الكثير من هذه التحريفات في الأسماء, ونرجح لغويا أن يكون اسم سمك (العرموط) في لبنان هو نسبة لهذه المدينة البحرية القديمة لكون هذا الاسم مستعملا في لبنان وحده, كما يبدو وهو الأكثر ألفة للمنطقة كما يقول الصيادون.

في رسائل تل العمارنة

ـ في الرسالة رقم 68 (طبعة C.E.R.F 1987) بالفرنسة يخبر (رب إدي) الفرعون أنه يحصل على المؤمن لمدينته جبيل من يرموتا.

ـ وفي الرسالة رقم 75 يخبره أن أهل جبيل يبيعون أبناءهم وبناتهم وأخشاب بيوتهم في يرموتا لشراء المؤمن كي يبقوا أحياء.

ـ وفي الرسالة 81 يكرر الخبر عن بيع الأبناء والبنات لأن حقوله بقيت من دون زرع بسبب الحرب, كالزوجة من دون زوج.

ـ وفي الرسالة 82 يذكر الفرعون بأمره إلى يرموتا لتزويده بالثياب والمؤن والذهب بواسطة البحر.

ـ وفي الرسالة 85 يطالب بتزويده بحبوب تنتجها بلاد يرموتا, وبأن يأمر شخصا يدعى (ينحامو) بنقل النقود الموجودة في يرموتا لأبناء جبيل.

ـ وفي الرسالة 86 يتكرر طلب الحبوب من يرموتا من أجل الغذاء.

ـ وفي الرسالة 90 يتكرر ذكر بيع الناس أبنائهم وبناتهم في يرموتا.

ـ وفي الرسالة 105 يذكر حاكم جبيل أن (يبح هدا) (في بيروت) يمنع مراكبه من الوصول إلى يرموتا, بينما لا يستطيع إرسالها إلى (سميرا) بسبب اعتراض مراكب (أرواد). وهذه الرسالة تحدد موقع يرموتا إلى الجنوب من بيروت, وليس إلى الشمال باتجاه أرواد.

ـ وفي الرسالة 112 يذكر أن كل ما يملكه قد سلبوه منه وباعوه في يرموتا من أجل الغذاء.

ـ وفي الرسالة رقم 114 يذكر أن فلاحيه كانوا في الماضي يحصلون على حبوب غذائهم من يرموتا. ولكن (يبح هدا) (البيروتي) يمنعهم حاليا من الذهاب إلى هناك. وهذه الرسالة ترجح لنا أنهم كانوا يذهبون سيرا مع دوابهم إلى يرموتا لنقل الحبوب.

ـ وفي الرسالة 125 يذكر الفرعون بعادته في إرسال المؤن من يرموتا إلى الحامية المصرية التي معه في جبيل.

وهكذا نجد هذه الرسائل وغيرها تشير إلى موقع يرموتا وأهميتها السياسية في تلك الحقبة المضطربة.

غياب مدينة

لم يرد ذكر لمدينة ساحلية عامرة باسم (يرموتا) في نصوص أشور وبابل خلال الألف الأول قبل الميلاد. وهذا يعني أن المدينة كانت قد فقدت ازدهارها أو فقدت جزءا مهما منها في هذه الحقبة, وهذا الافتراض الأخير هو الأرجح.

ولعل أبرز ما بقي من هذه المدينة القديمة هو برك المياه التي أجمع الباحثون, وفي مقدمتهم الفرنسي (رينان) في القرن التاسع عشر,على أنها تعود لزمن برك (رأس العين) إلى الجنوب من صور, وهذه بدورها تعود إلى زمن حيرام ملك صور, أي إلى القرن العاشر قبل الميلاد, وهي أقدم إنشاءات مائية للفينيقيين القدماء على الشاطيء اللبناني.

البحث والكشف

بعد اكتشافنا آثار العمران تحت المياه في جوار مدينة صيدا ترجح لدينا أن المدن الساحلية التي توقف ذكرها على أقلام المؤرخين, منذ أواسط الألف الأول قبل الميلاد, إنما غدت في قلب البحر. ومن هذه المدن كانت (يرموتا) الفرعونية التي غاب ذكرها قبل هذا الزمن بقرون. ومثل هذا الغياب التدريجي وفي فترات متباعدة لمدن يجعلنا قرييين من الاقتناع بأن الشاطيء اللبناني برمته آخذ بالغوص البطيء في البحر, وليس بفعل زلزال سنة 143 ق.م وحده كما يتفق معظم الباحثين.

تبنى النقيب الأخ محمد السارجي هذه الملاحظات وقام بجولة تحت الماء مع آلة التصوير مقابل التل الأثري والبرك المجاورة له. ولم يجد عناء كبيرا في التقاط مجموعة من الصور لشوارع مبلطة ولأبنية مهدمة منتشرة على مساحات واسعة, وبينها ما يرجح أنه ساحات عامة تحتوي على تماثيل حيوانات كانت ,وفق العقائد الفرعونية , مقدسة. ومن هذه التماثيل تمثال للقطة (باسته) التي تعبدت لها الأسرة الفرعونية الثانية والعشرون, أي قرب الزمن الذي برزت فيه (يرموتا) كقاعدة فرعونية في المنطقة. والتمثال الثاني الواضح المعالم هو رأس حيوان طويل العنق كالجمل, وطول عنقه يقربه من حيوان الاله (ست) رمز عبادة الهكسوس في مصر. وهذا الرمز استمر التعبدله هناك بعد خروج الهكسوس وزوال نفوذهم. وقد يكون وجوده على الشاطيء اللبناني مفتاحا للغز معقد هو هوية الهكسوس وبلادهم الأصلية.

وتوجد في الموقع كسرات تماثيل عديدة ليس من السهل تعيين هويتها قبل ترميمها. والملاحظة المهمة هي أن الكسرات والشظايا والقواعد المتعددة الأجزاء لهذه التماثيل لا تزال متجاورة, مما يعني أنها لم تكن ساقطة من سفن أو ملقاة عمدا في الموقع بل هي كانت منصوبة هناك وأن المياه غمرتها دون عنف زلزالي كبير. وكذلك يمكن القول عن الطرقات المبلطة التي حافظت على تجاور حجارتها المرصوفة على مدى عشرات الأمتار, وعلى بعد أكثر من مائتي متر داخل البحر.

أما الآثار العمرانية التي لا تزال ظاهرة بين بساتين الليمون والتي وصف ركامها علماء القرن التاسع عشر وهي بقايا المدينة التي ذكرها سترابو الإغريقي وبليني الروماني في القرن الأول للميلاد باسم (أورنيتو) فهي, كما نفترض, أحياء أو ضواح لمدينة (يرموتا)التي فقدت أهميتها ودورها, كمدينة على الشاطيء, بعد أن طغى البحر على منشآت مينائها وغمر ساحاتها العامة وشوارعها المبلطة. وهذه الشوارع قد يفترض الكثيرون من الباحثين أنها لم تنتشر في المنطقة إلا خلال العهد الروماني, ومدينتنا غاب دورها التاريخي قبل الرومان بزمن مديد. وهذا ما يدعو إلى إعادة النظر في إحدى المسلمات التاريخية حين التأكد من تاريخية رصف هذه الطرقات وفق وسائل العلم الحديث.

 

يوسف الحوراني

 
 




جدار بناء لا يزال صامدا بطول 30 مترا وعرض 70 مترا





بقايا تماثيل غير واضحة المعالم





طريق مرصوفة سائخة في البحر