تقاليد: قراءات في الثقافة والفنون التقليدية الكويتية

تقاليد: قراءات في الثقافة والفنون التقليدية الكويتية

من المكتبة العربية

تأليف: الشيخة ألطاف سالم العلي الصباح

انطلاقاً من كون الاهتمام بالتراث الثقافي والفني الملموس والمرئي ضرورة علمية ووطنية رأى هذا الكتاب النور ليبين للقارئ الخيوط الأولى والصنّاع المهرة الأول الذين زخرفوا قطعة جميلة من نسيج هذا العالم عرفت بالكويت.

رصدت المؤلفة في القسم الأول من الكتاب (المجتمع والثقافة), كيف وفدت أفواج المهاجرين المتكررة, إلى المنطقة التي نشأت فيها الكويت, وحوّلت هذه الهجرات هذا الموقع من مرفأ صغير إلى (مدينة مزدهرة تعج بالنشاط والحركة), وترى المؤلفة أن المهاجرين إلى الكويت جاءوا على ثلاث مراحل, المرحلة الأولى تمثلت في استقرار تحالف العقوب حوالي 1716م, وهم آل الصباح, وآل خليفة, وآل الجلاهمة: (وكانت هذه القبائل مدفوعة إلى فعل ذلك بعوامل الطموح الشخصي والمصالح المشتركة), ووضعت هذه الجماعات خطة للإدارة آل فيها إلى آل الصباح شئون الحكم, وإلى الجلاهمة شئون البحر, وآل خليفة شئون التجارة, وكان الحكم قائماً على المشورة والرأي.

والمرحلة الثانية تمثلت في المهاجرين من البصرة, نتيجة لاحتلال فارس لها 1776م, فهاجر معظم تجار البصرة إلى الكويت, مما زاد في ازدهار المدينة اقتصادياً, ونموّها سكانياً, ونقلت إليها شركة الهند الشرقية الإنجليزية مقرها, وأصبحت الكويت محطة للقوافل الناقلة للبضائع إلى حلب.

أما المرحلة الثالثة, فكانت نتيجة لهجرات فروع كثيرة من القبائل النجدية من وجه الدولة السعودية الأولى. وتشكـّل المجتمع الكويتي الذي كان عماده الأسرة, حيث هي الوحدة الاجتماعية الأساسية في التنظيم الاجتماعي, وكان يطلق على الأسرة لفظ (بيت), وكان التنظيم الاجتماعي يقوم على أساسين رئيسيين هما: المفهوم القبلي الخاص بالأسر الأصيلة, والتخصص المهني أو الحرفي.

والمؤلفة تعنى بالتقاليد, التراث, ولذا فإنها تعالج ثقافة المجتمع من خلال ثنائية موقع الكويت في حضن الصحراء من ناحية, وإشرافها على البحر من الناحية الثانية, وهذا الموقع عوّد السكان على الصبر ومسئولية اتخاذ القرار, وجعلهم أكثر صموداً, ومثابرة في طلب الحصول على الرزق (سواء من البحر أو البر. وبقيت هذه الثنائية, مفهوماً أصيلاً في الثقافة الكويتية, فالعقوب كانوا في أول الأمر متصلين بثقافة الصحراء من خلال روابط الدم, واستطاعوا بعد استقرارهم في الكويت في مطلع القرن الثامن عشر, أن يتكيّفوا مع البحر: (كمورد جديد من موارد الرزق أملته ظروف البيئة الجديدة), وبذلك أصبحت ثقافتهم مركّبة (من ثقافة البحر وثقافة الصحراء). في تنظيمهم الاجتماعي وحياتهم الاجتماعية التي كانت ترتكز, على صيد اللؤلؤ, وعلى موسم البيع, وكان عدد سكان الكويت يتناقص ويتزايد, تبعاً لعدد مَن يغادرون الصحراء لكسب رزقهم من البحر, أو قدومهم إلى المدينة تسويقاً لبضائعهم, وكان الغوص وصيد اللؤلؤ يؤثران بصورة أساسية على ثقافة المجتمع من الموسيقى إلى الرقص الشعبي, حيث كان المجتمع الكويتي يشهد في نهاية موسم الغوص حركة نشطة في إقامة الولائم والزيجات, وهذا كله لتأثير البحر, بينما يظل تأثير الصحراء قائماً ومتمثلاً في الانتماء القبلي والأنساب, حيث كان لذلك تأثيره في تشكيل العلاقات الاجتماعية, هذا إلى جانب الانتماء الديني الذي كان له تأثير في حياة المجتمع البسيط آنذاك, فقد كان السكان يتقبّلون ما يحل بهم من مصائب على أنها قدر (مكتوب) ويبتهلون إلى الله أن يخفف عنهم ذلك, ويقوم المطاوعة أو الملالوة من الرجال والنساء (بقراءة عدد من السور القرآنية على مرضاهم تطهيراً لهم مما علق في نفوسهم من حسد. والأمر نفسه يصدق على احتفالات الزواج (وقاية من الحسد الذي كانوا يعتقدون في حدوثه اعتقاداً شديداً.

تلك هي أهم سمات المجتمع التقليدي في مدينة الكويت القديمة, المرتبطة بثنائية الموقع الفاعلة (الصحراء - البحر), والتي أدت بدورها إلى تركيبة اجتماعية خاصة ظلت (تحكم النمط العام للعلاقات في المجتمع).

البداوة وما قبل النفط

وتنتقل المؤلفة بعد ذلك إلى دراسة البدو وحياتهم, وأنماطهم المعيشية من بداوة كاملة إلى بداوة ناقصة, فبداوة مستقرة إلى بداوة صيد ورعي لأنها ترى أن ذلك ضروري لتسجيل ملامح ومقومات ثقافة البادية التي هي جزء أساسي وجوهري من الثقافة العربية, فالبدو الذين (يستقرون في المدن يظلون محتفظين بانتمائهم القبلي, ويستمرون في ممارسة كثير من العادات الموروثة التي كانت جزءاً من حياتهم السابقة), وبذلك تلعب الحياة البدوية دوراً كبيراً في تشكيل قيم وعادات المجتمع.

تنتقل المؤلفة بعد ذلك إلى رصد تقاليد تربية الطفولة في المجتمع الكويتي في مرحلة ما قبل النفط, حيث كانت تنشئة الطفل, وتعويده على التقاليد الاجتماعية الأصيلة من مسئولية الأم, ويشارك الأب الأم هذه المسئولية تبعاً لوقته, فيعود الأطفال منذ الصغر على أن أداء الواجبات المنزلية داخل المنزل من مسئولية الإناث منهم وخارج المنزل على الذكور, كما يعوّد الأطفال الإناث على (التحلي بالطاعة والمثابرة في أداء ما يُسند لهن من أعمال, والانصياع لكل ما يصدر إليهن من توجيهات), وكان الإناث من الأطفال (يلتحقن في سن مبكرة بمدارس تحفيظ القرآن لتلقي المبادئ الأولية للعبادات, وحفظ القرآن على يد امرأة تدعى (المطوّعة).

أما الأطفال الذكور, فكان يتم التحاقهم بالكتاتيب لحفظ القرآن, وغالباً ما كانت الدراسة في الكتاب ثلاثة شهور, أما أبناء الأثرياء من التجار وغيرهم, فكانوا يرسلون للدراسة في بغداد والقاهرة, وكان عامة أطفال الكويت حينما يبلغون الثامنة, يتدرّبون على ركوب البحر في موسم الغوص كتبابة, ليتعلموا المهارات البحرية واحتراف مهنة الغوص, ولا ننسى الديوان ودوره في نقل التقاليد الثقافية, حيث يصغى الصغار لأحاديث الكبار ومناقشاتهم فيتعلمون من الديوان القيم والمثل الثقافية, وبذلك (كانت الأسرة والأقارب هم الأوساط المؤثرة فيما يتعلق بالنمو الاجتماعي والنفسي لدى الطفل, وقد لعبت مدارس تحفيظ القرآن (الكتاتيب) دوراً مباشراً في عملية التربية, وبخاصة في نقل العقائد والمعايير الدينية).

وترصد المؤلفة التغير الاجتماعي الثقافي الذي طرأ على تنشئة الأطفال, بسبب الطفرة الاقتصادية في مرحلة ما بعد اكتشاف النفط, وازدياد الثروة, وانتشار التعليم, وحدوث تغييرات في بنية الأسرة, مما جعل الطفل يتأثر بـ(البنى والأنظمة الاجتماعية الأخرى), وقد تغير النسق الاجتماعي الذي كان سائداً, فقد تغيرت وظائف الأسرة, وبدأت تفقد بعض وظائفها, فتربية الأطفال أسندت إلى المدرسة, كما تغيّرت الوظيفة الاقتصادية للأسرة, كنتيجة حتمية لعملية التمايز الاجتماعي, و(الاستقلال الاقتصادي لكل فرد من أفراد الأسرة من خلال ما تدره عليه مهنته من مردود مادي), ومن أنماط التغير في الأسرة الممتدة نمط الإقامة, فالأبناء من الذكور أصبحوا يبنون مساكن حول بيت أبويهم, غير أن الروابط التي كانت سائدة بين أبناء الأسرة أو الجيرة قد سقطت نتيجة للتخطيط الحديث القائم على الأحياء السكنية, وقد أدت أنماط التغيير هذه إلى تغير ملموس في أساليب تنشئة الأطفال, وإن ظلت بعض الأمور لم يتطرق إليها التغيير, وبقيت قائمة كجزء من التقاليد الثقافية المتوارثة.

سدو... سفن... بشوت

وفي القسم الثاني من الكتاب (حرَف وحرَفيّون), ترصد لنا المؤلفة عملية السدو, أو حياكة الصوف في البادية, كتقليد ثقافي موروث, فحياكة الصوف من أقدم الحرف التقليدية في شبه الجزيرة العربية, وقد ارتبط ذلك بالبيئة الصحراوية ونمط المعيشة فيها, وحياكة الصوف تقليد بدوي, أملته طبيعة البيئة في الصحراء, فمسكن البدوي بيت شعر مصنوع من شعر الماعز وصوف غنمه, وحجم بيت الشعر تحدده مكانة البدوي الاجتماعية, وحجم ثروته من الإبل والأغنام, وكان البدو الذين يعيشون بالقرب من الكويت يتركون عند بداية فترة تنقّلهم في الصحراء وراء المرعى, بعض منسوجاتهم وحاجياتهم الثقيلة لدى مَن يأتمنونهم في الكويت, وعند عودتهم للاستقرار يأخذون ما تركوه لدى أهل الكويت.

والسدو مهنة أو حرفة, تقوم بها النساء, فالفتاة منذ نعومة أظفارها (تعمل على مساعدة أمها في الغزل والصباغة وحياكة أجزاء بيت الشعر (الفلجان), حتى إذا ما بلغت سن السادسة عشرة تكون قد ألمت بمعظم حياكة النقوش عدا الصعب منها, والمرأة الماهرة في السدو, كانت تحظى باحترام الآخرين, وكانت حياة المرأة في الماضي صعبة, فبالإضافة إلى مهامها المعهودة, كان عليها فك الخيمة وتحميلها على الجمال, ثم إعادة تركيبها في المكان الجديد, فالمرأة تكاد تكون هي المسئولة الأولى عن الخيمة من نسج الشعر وحياكته, إلى أن تركب الخيمة, ولما كان السدو نسيجاً مسطحاً, وعليه نقوش تقليدية تمثل أحد الأشكال الآتية: العين, الضلعة, ضروس الخيل, العويرجان, المذخر, الشجرة, الرقم, والسدو نسيج من صوف الأغنام, ووبر الجمال والقطن, والنول الذي يستعمل في حياكة السدو نول أرضي مسطح, يسهل طيّه ونقله, وكانت البدوية تستعمل اللون الأحمر والبرتقالي في حياكتها للسدو, واللون الأحمر لون مفضل عند البدو في الكويت, وكانت المرأة في الماضي تحصل على خيوط من مختلف الألوان, ثم لجأت إلى الصباغة لتوفّر اللون الذي تحتاج إليه, وكانت المرأة تضيف اللمسات التي ترغبها وتريدها على القطعة التي تحيكها. والنقوش التي يزيّن بها السدو تعكس البيئة الصحراوية والثقافة الإسلامية, وكانت هذه النقوش على أنماط أشكال هندسية, وكانت ممتدة كامتداد الصحراء, والمثلث شكل مألوف في السدو, لأنه يمثل السمو والعُلى في الفكر الإسلامي وتكراره يعني التسبيح بحمد الله. ومع تغير أنماط الحياة في الفترة المعاصرة, وتغير حياة المرأة, أصبحت حرفة السدو حرفة فنية تراثية, وإن كانت بعض النساء يتمسّكن بهذه الحرفة وحبّها وتقديرهن لهذه الحرفة, ولكنها صارت حرفة محدودة السوق, وهي في حاجة إلى دعم وتعزيز باعتبارها حرفة تؤكد الهوية الثقافية.

ومن أهم الناسجات في حرفة السدو في الكويت السيدة: عبعب فرحان العازمي أو أم ناصر, والتي حازت 1966م,جائزة الإبداع للمرأة ضمن ثلاثين امرأة في العالم (من قبل القمة العالمية للمرأة في جنيف, والتي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة).

ثم تلخص الباحثة أوصاف حرفة السدو, والأدوات المستخدمة فيها, والمواد الخام المستعملة في هذه الحرفة, وأهم النقوش التي تنقش على السدو, والاستخدامات الحالية للسدو من سجاد أرضي, ومساند, وخروج أو شنط صغيرة, وطرق رعاية وحفظ المنسوجات الصوفية (السدو), كصناعة تقليدية تقليدية, وتزيّن هذا القسم بأشكال مختلفة للمنسوجات , والأشكال المنقوشة على قطع السدو .

أما صناعة السفن, فالذي لاشك فيه أن هذه الصناعة انتعشت في الكويت انتعاشاً كبيراً, لاشتغال أهل الكويت بالتجارة مع الهند وشرق إفريقيا, واشتغالهم بصناعة الغوص والصيد, وكانت الكويت من أكثر دول الخليج عدداً للسفن التي يمتلكها سكانها, وانتعشت صناعة السفن بصورة كبيرة, وأصبحت حرفة تراثية تمثل جزءاً من ثقافة وتقليد الكويت. والحاج علي عبدالرسول آخر صنّاع السفن, يوضح للقارئ كيف كانت تصنع السفن صغيرها وكبيرها مثل البوم والبغلات وسفن الصيد الصغيرة, ولكن ظهور النفط ودخول الكويت في مرحلة الطفرة قضى على هذه الحرفة التراثية التي لم يعد هناك إقبال عليها, ولم يبق من هذه الحرفة إلا الحاج علي عبدالرسول الذي يأمل أن يبني (مهلّباً) بدل المهلب الذي أحرق.

وتنتقل بنا المؤلفة إلى حرفة تراثية أخرى كانت سائدة في الكويت وهي (حياكة البشوت), وهي حرفة تقليدية احترفها الرجال دون النساء اللائي كنّ يشاركن في غزل الصوف فقط, والبشوت تطرز بالزري اليدوي, أو ما يعرف في الكويت بـ(الدربوية). وقديماً كان هناك في الكويت سوق لصناعة البشوت, وكانت هذه السوق مزدهرة, وأميز البشوت ما صُنع من وبر الجمال, فصوف الجمل من أدق أنواع الصوف, وكان سوق البشوت في الكويت يورد إلى باقي مناطق الخليج, ومنذ 1980م, أنشأت شركة البغلي للنسيج مصنعاً لإنتاج البشوت, وتعبر بنا المؤلفة إلى حرفة تقليدية تراثية أخرى وهي حرفة (التطريز النسائي), فترصد لنا أهم النقوش التي تميّزت بها تلك الحرفة التقليدية, والمهارات الفنية في هذه الحرفة, وكيف أن نساء الكويت كنّ مشهورات في عملهن بالأعمال اليدوية, وقد انتشرت الملابس المطرزة بالزري والترتر والتلي. هذا إلى جانب تطريز البرودلي أو الكونداي, وكان تطريز ماكينة. وأنماط التطريز مستوحاة من البيئة المحلية ومن النباتات والحيوانات, كما كانت تطرز الشراشف والمفارش والمساند, والملابس. ومن أهم من اشتهرن بالتطريز, نورة النشمي, وعواشة البشير. كما كان التطريز سائداً في البادية, ومن أشهر مَن تميّزت في هذه الحرفة: نورا جابر من قبيلة المرة الجنوبية, وعبعب فرحان العازمي, والتطريز يعرف لدى أهل البادية بالخوار.

وتسير بنا المؤلفة إلى واقع الحرف التقليدية في الكويت في وقتنا الحاضر, فترى أن لكل حرفة وظيفة معينة تؤديها, بجانب أنها عمل فني يتطلب التدريب والمهارة والممارسة الدائمة. ثم ترصد خصائص الحرف المصنوعات اليدوية, وترى أن الحرف والصناعات التي قامت في الكويت قبل اكتشاف النفط ارتبطت بطبيعة البيئة الصحراوية والبحرية للبلاد, وأثرت في اقتصاديات الكويت وأنظمتها الاجتماعية والثقافية, وأن أسراً معينة كانت تمتهن حرفاً بعينها. فالذين احترفوا الحدادة والنجارة, أو البناء أو الصباغة إنما (اكتسبوا معرفتهم بالممارسة وتعلّموها من أهلهم) باستثناء (صناعة السفن وحياكة البشوت التي برع وميّز بها صنّاع الكويت, وبدرجة أقل حياكة الصوف في البادية, والتي لم تكن حرفة بالمعنى المهني). ومع بداية ظهور النفط بدأت أشكال هذه الحرف تتغير, بل واندثر الكثير منها, وفي إطار المؤثرات والمتغيرات الاجتماعية السريعة, بدأت الدولة ترعى الفنون الشعبية, والمحافظة على التراث التقليدي و (حرصت الكويت على إنشاء مركز رعاية الفنون الشعبية في عام 1956م, لحفظ ورعاية التراث الشعبي في الكويت).

وقد قام المركز بأنشطة مهمة فسجل بعض التسجيلات الصوتية لأغاني وفنون الغوص والبحر, وقام بتسجيل أفلام سينمائية عن حياة البحر وعادات وتقاليد الزواج.

كما أسست مجموعة من الكويتيين عام 1979م مشروع السدو للمحافظة على التراث الشعبي, هذا بجانب بعض المحاولات الفردية والحكومية للمحافظة على جوانب بعض المأثور الشعبي, وحفظ التراث الشعبي الكويتي.

الحرف اليدوية والتراث بعد الغزو العراقي

غزت العراق دولة الكويت في 2 أغسطس 1990م, وقامت القوات العراقية بعمليات همجية من تدمير وتخريب مكثّفة, بهدف إلغاء (دور الكويت الحضاري وطمس الهوية الثقافية الكويتية), فتعرّضت أغلب المؤسسات العلمية والثقافية للدمار, ومن بينها: مركز الفنون الشعبية, وبيت السدو, وبيت البدر, والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, وغيرها من المراكز الثقافية, كما تم هدم وتخريب الكثير من المعالم القديمة مثل: بوابة المقصب, سور قصر دسمان القديم, ومدخل سوق الغربللي, والسوق القديم, وبعض البيوت القديمة في منطقة شرق كديوان المضف والعسعوسي.

ولكن الغزو أفرز بعض الإيجابيات, لدى الشعب الكويتي أهمها:

أولاً: اعتماد الشباب الكويتي على قواهم الذاتية, وممارستهم لبعض المهن والحرف اليدوية التي كانوا يرفضون العمل بها سابقاً, فكان لعمل الشباب هذا اتجاه لمسار العمل اليدوي, وتدريبهم على مهارات جديدة تتفق واحتياجات المجتمع الفنية المعاصرة.

ثانياً: ازدياد الوعي لدى أفراد المجتمع الكويتي بأهمية التراث, والمحافظة عليه كثروة قومية.

ثالثا: كان للغزو العراقي آثاره المادية والمعنوية على المجتمع بمختلف طوائفه, طبقاً لمعايير وأسس مختلفة, أبرزت تكاتف الناس وتعاونهم, لتأمين احتياجاتهم المعيشية اليومية.

وقد تأثرت الحرف التقليدية بالغزو, وبخاصة السدو, وصناعة السفن, فقد أصابهما ما أصاب المراكز الثقافية الأخرى في البلاد من سرقة ودمار, وبعد انتهاء الغزو تم عمل حصر شامل وتقييم كامل لعمل بيت السدو, وقامت النساء العاملات عام 1991م بتأسيس جمعية للسدو, وتعتبر هذه الجمعية أول تنظيم حرفي إنتاجي في البلاد, تعمل على رعاية الإنتاج وتسويقه.

ونتيجة لتأسيس هذه الجمعية, دبّ النشاط مرة أخرى في حرفة السدو التقليدية, والحرف التقليدية الأخرى, وازداد الطلب على بعض منتجات تلك الحرف, وبخاصة صناعة نماذج من السفن التقليدية القديمة.

كما شهدت صناعة السدو تطوّراً ملحوظاً كبروز نقوش وإضافات جديدة على هذه الصناعة مثل عبارات: الكويت حرة, فك الله قيد أسرانا. واستمر الفنان والحرفي الكويتي في العطاء والإبداع, ولا يحتاج إلا إلى التشجيع ورعاية أعماله والاهتمام بإنتاجه, وتطوير استعمالات بعض تلك الحرف, حيث إن الواقع الاقتصادي الحديث (لم يعد يسمح لكثير من الحرف التقليدية بالاستمرار ضمن إطارها التقليدي وبوظائفها القديمة). ولحسن الحظ فإن الكويت تشهد وعياً واهتماماً أكثر في رعاية الفنون, وتطوير الحرف التقليدية, وبدأ يظهر اهمام أكبر بالحرف لدى جيل الشباب من الفنانين الكويتيين الذين استلهموا نماذج رائعة من التراث الشعبي.

الكويت... عمرانياً

تنتقل بنا المؤلفة إلى جانب آخر من الثقافة, ألا وهو المعمار, فتلقي نظرة على مدينة الكويت القديمة ذات الشكل البيضاوي, وترى أن أهم ما يميز مدينة الكويت القديمة سورها الشهير الذي بُني 1920م ليحمي الكويت مما كان يُشن عليها من غارات, وأصبح يمثّل رمزاً لصلابة المجتمع الكويتي وتعاون أفراده.

وكانت المدينة بامتدادها على ساحل الخليج تضم الأحياء السكنية الرئيسية, وكان يفصل كل حي عن الآخر طريق رئيسي, وكان كل حيّ يضم أفراد أسرة كبير أو عددا من الأسر التي ترتبط بروابط عرقية, وكانت أشهر أحياء المدينة حي وسط, وحي شرق, وأحياء أخرى صغيرة تسمى على أسماء القبائل التي تقطنها مثل: حي العوازم, وحي الرشايدة, وحي المطران, وغيرها من الأحياء الصغيرة.

وكانت ساحة الصفاة الميدان الرئيسي في المدينة, وكانت الساحة تعج بالنشاط التجاري بين الحضر وأهل البادية, وكانت النساء تشارك في هذا النشاط, وكان أشهر الأسواق السوق المسقوف, حيث كانت توجد الحوانيت والمحلات التجارية التي تبيع البسط والأقمشة واللؤلؤ والذهب والبهارات, وكذلك كانت المنطقة البحرية.

وكانت منازل المدينة مبنية من الطين الضارب إلى الصفرة, تتخللها دروب أقرب ما تكون إلى ممرات لسير دواب كالإبل والحمير التي كانت تستخدم لنقل الماء. وهي منازل على نحو أشبه ما تكون بكتل متراصّة من البناء, وكانت المنازل جميلة فيما بدت عليه من بساطة, وكان تصميمها يعكس قدراً من التأثر بطرز البناء العثمانية السائدة في البصرة وبغداد, وكان تصميم البيت الكويتي صدى مباشراً لظروف الحياة والبيئة آنذاك.

بعد النفط...!

وبعد ظهور الثروة النفطية, حدث تطوّر في معمار الكويت, وبدأت نهضة معمارية بارزة وبدأ النمو السريع والتخطيط المعماري الذي أفرز صوراً متنوّعة من المباني والمساكن, وهنا تبرز الحاجة إلى تشكيل لجنة لتوجيه المعمار والبناء في البلاد, تهتم بالنواحي الجمالية والفنية الخاصة بالمعمار, والمحافظة على الأساس التقليدي للفن المعماري الكويتي, وتوجيه الذوق نحو القيم والمعايير الجمالية المطلوبة في المعمار, مع دراسة وتوثيق البيت الكويتي التقليدي, مع حفظ وتسجيل جميع ما يتعلق بأصول البناء والتصميم والمعيشة في الماضي.

ثم عرضت لبيوت شرق كبيوت صغيرة تقليدية منفتحة على حوش صغير تحيط به غرف عدة, كما درست بيت السدو, وطالبت بترميم هذه البيوت جميعها وحفظها كجزء من التراث الثقافي للكويت, كما درست القصر الأحمر الذي بُني في أواخر القرن التاسع عشر في عهد الشيخ مبارك الصباح في عام 1315هـ/1898م, وطالبت بالمحافظة على هذا التراث الكويتي لإثبات الأصالة الكويتية التي يؤكدها تراثها الشعبي والثقافي القائم على أرض الكويت, ثم رصدت قائمة بأسماء مختارات من المباني التقليدية والتاريخية القائمة في الكويت, ثم رصدت قائمة بأسماء المراجع التي اعتمدت عليها في رصدها التقاليد الكويتية.

والمؤلفة زوّدت كل قسم من أقسام الكتاب بصور أصلية لعنصر التقاليد التي تتحدث عنها, وتبرز نواحي الجمال في هذا العنصر, وخاصة من أعمال السدو المختلفة, أما الحرف التقليدية الأخرى, فقد رصدت لنا صوراً لصناعتها, وصوراً أخرى لعرضها للبيع في دكاكين خاصة, لتباع للراغب في شرائها, كما رصدت لنا صوراً تبين كيف كان الاهتمام بتطوير تلك الحرف, والأشكال المختلفة التي تم تصنيعها, والأنوال التي كان الكويتيون يستعملونها في الحرف النسيجية. كما وضعت لنا صورة لسفينة صيد صغيرة في النقعة, أما في المعمار, فقد رصدت لنا صورة لقصر السيف القديم بنوافذه الخشبية ذات الزجاج الملوّن, كما جاءت بنموذج لبيت البدو, وصورة لليوان وحوش لأحد بيوت شرق, وقدمت كذلك صوراً عدة لأجزاء من البيوت القديمة, ونماذج لأبواب وخزائن بيت المرزوق (بيت السدو) الخشبية, كما رصدت لنا تقويماً عن المباني التقليدية. ومما لا ريب فيه أن الكتاب جهد قيّم ومفيد, ويجعل القارئ يقف على كمّ ضخم من التراث الثقافي الكويتي التقليدي الذي يثبت هوية الكويت.

 

عبدالرحيم عبدالرحمن