فتاة وحيدة

فتاة وحيدة

هبت نسمة خاطفة من النافذة الغربية، طارت ورقة من زهرة ذابلة نسيت في مكانها من المزهرية المهملة لثلاثة أيام، ورقة أخرى تدحرجت على الرخام الداكن، تابعت عيناها الورقة التي اصطدمت بخاتم ذهبي يلمع في وسطه فص الماس، يلمع في حجم حبة الحمص، إنه خاتم أمها المرحومة.. ما الظروف التي جعلتها تتركه في هذا المكان؟ ما المناسبة التي اشترت فيها هذا الخاتم؟ ما الحالات التي أحاط فيها هذا الخاتم إصبع المرحومة؟

تندهت بحرقة، تخيلت وجه أمها المورد الجميل في ساعات رضاها القليلة النادرة حين كانت تناديها طيوبتي، زحفت صورة أخرى لذات الوجه في ساعات الغضب الكثيرة، كان أنفها يبدو كالسكين، وأسنانها كالمنشار، وهي تصرخ في وجهها: أنت يالنحسه.. يومك مثل وجهك ياطيبوه. يالها من ذكريات قديمة. ولكن كيف صار هذا الوجه الآن? ما الصورة التي وصل إليها بعد ثلاثة أيام في القبر? شعرت بالإثم، بالخوف، عجبت لجرأة خيالها، عجبت أكثر لحالة "الفلسفة" التي استوقفت فكرها حول الخاتم الماس، رشفت الرشفة الأخيرة من فنجان القهوة، ألقت بصرها في حجرها وتساءلت بحزن: هل يحاسبنا الله على أمنية، أو خاطر شيطاني لم ينطق به اللسان? لم تستطع إبعاد السؤال عن عقلها. فكرت أن تسأل أحد رجال الدين، لكنها خافت أن ينظر إليها على أنها شريرة، فتكون بداية للقيل والقال. فكرت أن تكتب بالموضوع إلى البرامج الدينية بالإذاعة أو التلفزيون، إنها بحاجة إلى الطمأنينة، بحاجة إلى الشعور بالبراءة من دم أمها، وأن هذه الأمنية الشريرة ليست هي السبب في موتها.

ضغطت الجرس، جاءت الخادمة الفلبينية بفنجان القهوة، ارتشفت الوجه الرغوي الدسم وأشعلت سيجارة، نفثت الدخان الذي انطلق كسهم راح يتبدد بعد قليل، لم يعد عندها من يتضايق من تدخينها، أو من يشفق عليها، أو من يشعرها بأنها لاتهمه في شيء، هي الآن حرة، وحيدة، ضائعة، لاتعرف هل تحزن، وما هي درجة الحزن التي تليق بها. لكنها لايمكن أن تفرح، إنها إذا فرحت ستكون فتاة شريرة بحق !! مرت كلمة "فتاة" بخيالها غريبة، قلقة، مريبة، مثل من ترتدي ثوب السهرة وهي تشرب شاي الضحى، مع هذا احتضنت الكلمة بشوق، إنها ذكرى والدها، لاتستطيع أن تتخيله في وضعية الموت، ولاتعتقد أبدا أن الأيام الثلاثة التي مرت على رحيله يمكن أن تؤثر على ملامحه، أطل على خيالها بوجهه الأسمر المستدير، ولحيته الصغيرة المحببة. رأته واقفا أمامها يبتسم حتى ظهرت سنته المكسورة في وسط فمه، دفع بطرف الغترة وراء كتفه وهو يحملها بين يديه، يقبلها ويقول طيبة فتاتي الوحيدة، يدور بها في الليوان القديم، يحملها إلى الدوارف والمراجيح في العيد، وحين جاء زمان لم يعد يستطيع أن يحملها، ولا يتسع وقته لصحبتها احتفظ لها باللقب فتاتي الوحيدة، الابتسامة السعيدة. لم يغير شيئا، رغم حظها المتعثر، لو كان الأمر بيده لاشترى لها زوجا مهما غلا ثمنه، وقد شعرت أحيانا أنه يحاول شراء زوج، ولكن المرحومة، الله يسامحها، كانت تفسد كل شيء وبقيت فتاته الوحيدة.. وحيدة، حتى بلغت الثلاثين، كيف حدث هذا؟

ولكن مهلا، فقد مات الوالد في نفس حادثة السيارة مع الوالدة، وهي لم تتمن له الموت أبدا، بالعكس، كما كانت تشعر دائما بأنه الذي يعيد إليها الحياة، يجعلها قادرة على احتمال "العنوسة" حين عرفت معنى هذه الكلمة، وعرفت أنها تنطبق عليها، "عانس" حتى وإن تجنب الناس استعمال هذه الكلمة أمامها، تماما كما يتجنبون ذكر العاهات في حضور من ابتلاهم الله بها.

التقت نظراتها مع بقايا السيجارة الممددة في الطفاية وقد تحولت إلى عمود من الرماد الهش الذي تطاير مع هبة نسيم متسللة من ذات النافذة الغربية، اكتشفت أن زهوراً كثيرة فقدت أوراقها وتعرت أو كادت، من تلك الهبة العابرة، لم يبق منها غير أعواد جافة كالحة اللون، تعلوها دوائر منكمشة مثل الجماجم.

إن الله المطلع على أسرار القلوب وخفايا المشاعر يعرف أنها حملت أمها سبب عنوستها، وتمنت أن يريحها الله منها لتواجه حياتها من غير ضغوط، ولكن الله العادل لايمكن أن "يسمع كلامها" لأنه يعرف الحقيقة، يعرف أن هذا الغضب يرتبط بمواقف كانت الأم فيها هي السبب في انصراف الخطاب عن طلب يدها، كم من خاطب جاء، جاء من أجلها هي، أو من أجل والدها، المهم أنه يتقدم فعلا، ولكنه بعد وقت لايطول يتسرب كالرمل من بين الأصابع، يتبخر، كالماء في إبريق منسي فوق الغاز، يختفي، لا يترك كلمة، لايقدم سببا، لايذكر عذرا، تنزعج، تتلفت، تبحث في الظروف فلا تجد أمامها غير أمها.

مرة أخرى تستحضر صورتها قبل مضي ثلاثة أيام، كانت صبية، فتية، جميلة إلى آخر لحظة، لاتستبعد أنها في لحظة انقلاب السيارة كانت تطالع شعرها في المرآة، أو تجدد خيوط حاجبها أو خطوط شفتيها، هذا الشعر الذي ظل ناريا يتوهج برغم ظهور الشيب، وهاتان الشفتان الممتلئتان تلمعان طوال أربع وعشرين ساعة، وهي طفلة حاولت تقليد أمها، ضربتها، وقالت: أنت صغيرة على هذا، والبنت المهذبة تفعل ما يناسب عمرها. عندما استدار صدرها وردفاها سعت إلى اقتناء أدوات الزينة، سخرت منها، في جملة قاطعة كحد السكين قالت: ما عندك سالفة، وجهك مثل صحن "المموش" وتحطين ماكياج؟! تشتغلين في السيرك إن شاء الله؟!

استقرت مرارة الكلام في حلقها، لم تبارحه أبدا حتى مع مرور خمسة عشر عاما، كما استقرت الملامح القاسية المتهكمة في شبكية عينيها، فلاتجد من وجه الأم إلا تلك السخرية القاتلة، حاولت أن "تصالح" أمها أن تقترب منها، أن تستعطفها وتقول لها: أنت أمي، علميني كيف أتزين، كيف أضع المكياج، كيف اختار الألوان والموديلات المناسبة، ولكنها لم تستطع أن تنطق كلمة واحدة، لقد ورثت كبرياء والدها. الكبرياء الصامت الثابت الذي لاينحني، وفي المدرسة علموها أن "الأمومة" بطبيعتها تضحية، وحب، وإيثار، وأن الأم بفطرتها تفضل ابنتها على نفسها، إن كل ما تشاهده من تصرفات أمها يصدم ما تتعلمه من الأمومة، كفرت بالتعليم وبالأمومة معا، تعثرت خطواتها فلم تحصل على الثانوية إلا بعد تكرار الرسوب، وجاوزت العشرين حتى خجلت من دخول الجامعة مع بنات صغار، لاتستبعد أن ترسب بينهن فتكون أضحوكة هي في غنى عن أوجاعها، واعتزلت أمها ما أمكن، فعاشت في العلن على ابتسامة والدها، وفي السر على تدخين السجائر وفي الأماني على انتظار الزوج الذي لابد سيأتي وتبدأ معه حياة جديدة.

إنها تذكرهم جميعا، أول خاطب، وثاني، وثالث.. ورابع، ثم هبط الصمت ولايزال الصمت مقيما معها، يسلي وحدتها بالشرود والخيالات. كان أول خاطب أخا لزميلة لها، في أول مرة تقدمت لامتحان الثانوية العامة، نجح ودخل الجامعة، وحصل على الشهادة الجامعية، وجاء يخطبها، حين نجحت لثالث مرة تقدمت فيها للامتحان، الوالد رحب به، وشجعه، والأم قالت: هذا "حافي" مايصلح، طمعان في مالنا. ولم يسألها أحد عن رأيها. الثاني رفضت الأم سماع بقية اسمه، قالت: وع.. "بيسري" هذا اللي ناقص، ما أزوج الأصيلة لبيسري. قال الأب: كل الناس لآدم، وآدم من تراب، وهذا شاب ناجح ونجاحه يكفي. قالت بشراسة: نجاحه ما يحوله من بيسري لأصيل!! ولم يسألها أحد عن رأيها، وهي تعرف أن أمها بيسرية، وأن جمالها الملتهب هو الذي جعل والدها من العائلة الأصيلة يتزوجها، ويحمله على السكوت على شراستها، وعجبت لماذا تتنكر أمها لأصلها، والمهم أن الخاطب اختفى مثخناً بالجراح. الثالث وصلت أخباره كإشاعة ولم يظهر، والرابع قالت الأم إن فرق السن كبير بينه وبين البنت، وأشار الأب بأدب إلى أن طيبة نفسها بدأت تكبر، وقد يفوتها قطار الزواج، ولكن الأم ألقت عليه محاضرة عن النصيب، وأن الله إذا أراد سيأتي الخاطب المناسب في دقيقة واحدة.

لم تعرف طيبة أبدا كيف يمكن أن يأتي خاطب في دقيقة لفتاة على أبواب العنوسة ليست جميلة، وليس لها سند من عطف الأم، وكل زادها في الحياة ابتسامة الوجه الطيب لأب مشغول بتجارته، أو هارب من قسوة زوجته، يحاول دائما أن يقلل من فرص اللقاء معها، لأن كل لقاء ينتهي إلى صدام.

هكذا بدأ سؤال جديد يعترض حلقها، وينشر الضباب أمام عينيها، كيف، ولماذا تزوج أبوها من أمها? وكيف، ولماذا يظل بعيدا عن حياة البيت ويتركها وحيدة، مكتفيا بهذا التشجيع الرمزي، الذي لايحل مشاكله الأساسية في أزمة من أزماتها النفسية. اعتقدت أن أمها تراهن على أمر خطير، أن يموت هذا الأب، وهو أكبر منها سنا، ويبذل مجهودا كبيرا في تثمير أمواله، وأن ترث هي شركاته وعماراته، وتظل تتحكم في هذه البنت "الخايبة" التي إذا تزوجت ستجد من يدافع عنها، ويطالب بحقوقها وربما يقف إلى جانب زوجها فيتقوى به؟

حين انتهت إلى هذا الاعتقاد كرهت أمها كرها عميقا، وتعاطفت مع أبيها واعتقدت أنه ضحية، وأنه إذا مات سيكون هذا بسبب كراهية هذه الأم له، ولها، وهنا تمنت أن يريحها الله من هذه الأم، فقد يأتي الخاطب ويريح أباها منها، فقد ينصلح حاله، ويشعر بها أكثر فيبذل جهودا، يتجاوز مداعباته العابرة لفتاته الوحيدة، التي لايبددها غير وجود زوج، وأطفال، قبل فوات الأوان.

قبل الحادث بعدة أيام، وكانت في الصالة تقلب صفحات مجلة قديمة، رأت أن تطل على غرفة أمها، فرأت في جانب منها مايشبه أن يكون حقيبة سفر صغيرة، دفعها الملل، والفراغ، والشعور بالحصار إلى أن تفتحها. كانت المفاجأة أن وجدت في الحقيبة قطعة واحدة من ثيابها الداخلية، قميص من قمصانها، قمصان طيبة، عرفته لأن حجمه لايناسب الأم وعلامته هي التي تحرص عليها، ولونه هي التي اختارته!! تركته في حاله، لم تفاتح أمها في الأمر. صباح اليوم التالي على مائدة الإفطار قال الأب لطيبة: سأذهب أنا والوالدة إلى موعد يستغرق طوال اليوم تقريبا، عندما نزلا لركوب السيارة كانت الحقيبة إياها في يد والدها، هربت بعينيها عن ملاحقة الحقيبة، ابتسمت الأم في وجهها إحدى ابتساماتها النادرة، وقال الأب: أشوفك بخير يا فتاتي الوحيدة.

دل حادث السيارة على أنهما كانا في قرية بدوية على حدود قرية مجاورة، ذكر السائق الذي نجا بجراح مهلكة أنهما قصدا عرافا تداول الناس ذكر أعماله المؤثرة، وأنه لايعرف ما جرى بينهما وبينه، ولم يجد المحقق في السيارة غير جثتين، وحقيبة سفر فارغة.

تنهدت بحزن: هل يحاسبني الله على أمنية لم ينطق بها اللسان? اختلجت شفتاها بأمل: هل استفاد العراف من القميص وهل يمكن أن تنتهي يوما حالة الفتاة الوحيدة؟!

همست بعطف وحسرة:

يرحمهما الله ويرحمني..

كان تراب السيجارة قد تطاير، ولم يبق غير الفلتر في الطفاية، يحوس في جوانبها بفعل النسمة الهابة، أما أوراق الورد فكانت تتطاير بين أركان الغرفة الواسعة.

 

فاطمة يوسف العلي