الفن علاج القلب طارق يوسف أسعد

قصة مترجمة

تحدث الممرض " كوبيل " برفق قائلا: "هيا. تناول عصير الأناناس". فأجاب "كوليس

ب. السورث" بحسم: "لا"

- "لكنها مفيدة لحالتك يا سيدي"

- "لا"

- "إنها أوامر الطبيب"

- "لا"

شعر كوبيل بالارتياح عندما دق جرس الباب الأمامي. فخرج من الحجرة ووجد الدكتور "كاسويل" واقفاً بالردهة في الطابق السفلي فقال له: "لا أستطيع أن أفعل شيئاً مع هذا الرجل. إنه يرفض تناول عصير الأناناس، ولا يريدني أن أقرأ له، كما أنه يكره الراديو ولا يرغب في أي شيء".

تلقى الدكتور كاسويل الأنباء بهدوئه المهني المعتاد. لقد بحث الحالة كثيراً منذ زيارته الأخيرة. فهي حالة غير عادية، وهذا العجوز يتمتع بلياقة عالية بالنسبة لرجل في السادسة والسبعين من العمر، ومع ذلك فيجب منعه من شراء أي شيء. لقد أصابته الأزمة القلبية الحالية بعد الصفقة الخاسرة التي اشترى فيها خطوط السكك الحديدية بولاية "أيوا" والأزمة السابقة أتت نتيجة الآثار التي أحدثتها خسائر سلسلة محلات البقالة التي اشتراها بمبالغ باهظة. لقد اضطر إلى بيع كل ما اشتراه في السنوات الأخيرة بأثمان بخسة مضحيا بصحته وأمواله، ورغم عدم تأثر ثرائه الفاحش بخسائره فإن صحته لم تتحمل هذه المعاملات التجارية الفاشلة.

جلس كوليس ب. السورث على كرسي ضخم بجوار النافذة وتلفت حوله عندما سأله الدكتور كاسويل "حسناً. كيف حالك أيها الشاب اليوم؟ ".

أجاب الرجل بضيق: " أف"

فقال الطبيب: "لقد سمعت أنك لا تطيع. الأوامر".

فقال المريض بحدة: "ومن هذا الذي يمكنه أن يأمرني؟".

فسحب الطبيب كرسيه وقربه من الرجل العجوز وقال بهدوء: "لدي اقتراح من أجلك" فنظر له السورث بشك من فوق إطار نظارته وقال: " وما هو؟ أمزيد من الأدوية؟ أم مزيد من النزهة بالسيارة؟ أم حماقات أخرى لإبعادي عن مكتبي؟".

أجاب الطبيب بحذر: " ما رأيك في ممارسة الفن؟". واستعد بسماعته تحسباً لعدم تحمل قلبه المريض لمفاجأة اقتراحه. ولكن جاءت إجابة العجوز قوية: "حماقة". فتنفس الطبيب الصعداء قائلاً: " لم أقصد بشكل جدي. فقط بعض اللهو بالطباشير والأقلام. فقد تجد بعض المتعة". فيردد الرجل: "حماقة".

فهب الطبيب واقفاً وهو يقول: "حسناً. كان هذا مجرد اقتراح".

فتجهم السورث للحظة وازداد عمق خطوط جبهته وقال: "من أين واتتك هذه الفكرة السخيفة؟" أجاب الطبيب: "إنها مجرد اقتراح". فسأل العجوز: "ولكن كيف أبدأ اللعب بالطباشير؟ هذا إذا كنت من الغباء بحيث أبدأ" فأجاب الطبيب: "لقد فكرت في هذا أيضاً. يمكننا استقدام طالب من إحدى مدارس الفنون مرة كل أسبوع لتعليمك، وإذا لم يعجبك الحال فبإمكانك طرده".

توجه الدكتور كاسويل إلى صديقه "جادسون ليفنغستون" عميد معهد "أتلانتك للفنون" وشرح له الموقف، فعرض عليه أحد الطلبة واسمه "فرانك سوين" ويبلغ حق العمر ثمانية عشر عاماً وبالإضافة لتفوقه فهو يحتاج للنقود ولذلك يدير أحد المصاعد ليفي بنفقات دراسته وسيحصل على خمسة دولارات عن كل زيارة.

وفي عصر اليوم التالي تم إدخال الشاب "سوين" إلى حجرة المعيشة الضخمة حيث نظر إليه السورث بكثير مرة الشك. جهز سوين بعض الأوراق والأقلام على المائدة واقترح قائلاً: "لنجرب رسم إناء الزهور هذا الموضوع على المائدة".

فقال السورث: " لماذا؟ إنه مجرد إناء عليه بعض البقع الزرقاء. أم أنها بقع خضراء فقال الشاب: "جرب يا سيد السورث. أرجوك".

فهمهم العجوز: "أف" وأمسك بالقلم بيد مرتعشة ورسم عدة خطوط ثم رسم خطوطاً أخرى ووصلها ببعضها بشكل منفر، ثم نظر إلى الشاب وقال برضا: "ها هي ذي أيها الشاب. يالها من حماقة".

ولكن سوين كان في غاية الصبر كما أنه يحتاج للخمسة دولارات، فقال: "إذا أردت أن ترسم يا سيدي فيجب عليك أن تنظر إلى الشيء الذي ترسمه".

فتأمل السورث الإناء وقال: "حسناً. إنه جميل لم ألحظ ذلك من قبل".

دخل كوبيل معلناً أن المريض قد نال كفايته لهذا اليوم. فقال السورث: "ياه. عصير الأناناس مرة أخرى": ثم انصرف سوين.

عندما حضر طالب الفن في الأسبوع التالي وجد على المائدة رسماً لما يشبه إناء الزهور.

تعمقت التجاعيد حول عيني العجوز وهو يسأله: " حسناً. ما رأيك في هذا؟".

فأجاب سوين "ليست سيئة يا سيدي، ولكنها ليست مستقيمة أيضاً".

ابتسم العجوز قائلاً: "حسناً. بالفعل لا ينطبق النصفان تماماً". ثم أضاف بعض الخطوط بيده المرتعشة ولوّن الفراغات. تماماً مثلما يفعل الطفل بكتاب تلوين الصور. اختلس نظرة نحو الباب ثم قال بصوت هامس: "أريد أن أسألك سؤالاً أيها الشاب قبل أن يعود صاحب عصير الأناناس". فأجاب سوين بأدب: "نعم يا سيدي".

- "هل بإمكانك الحضور مرتين أو ثلاثًا أسبوعيًا؟".

- "بالتأكيد يا سيد السورث".

- "عظيم. فليكن هذا أيام الاثنين والأربعاء والجمعة. الساعة الرابعة".

عندما دخل كوبيل حاملاً كوب عصير الأناناس تملكته الدهشة وهو يرى العجوز يتناوله دون احتجاج. بمرور الأسابيع ازداد تردد سوين على تلميذه العجوز محضرا معه صندوق ألوان مائية وعددًا من أنابيب الألوان الزيتية.

في أثناء زيارات الدكتور كاسويل التالية انصب حديث السورث على عظمة خطوط المدخنة وتعدد الألوان في طبق الفاكهة، وكان فخورًا ببقع الألوان المختلفة التي تلطخ ملابسه حتى أنه منع خادمه من إرسالها إلى محل التنظيف، فقد أراد أن يظهر للطبيب مدى جديته في العمل.

كان العلاج يسير على أكمل وجه. فقد توقف عن الذهاب إلى مكتبه في وسط المدينة لإجراء بعض المعاملات المالية الخاسرة، وكذلك انتهت الخطط المالية الجنونية التي تثقل على قلبه العجوز الواهن. لقد أصبح الفن هو العلاج الناجح لمرضه.

سمح له الطبيب بزيارة متحف "المتروبوليتان" ومتحف "الفن الحديث" وغيرهما من المعارض الفنية بصحبة سوين. لقد أماط عالم جديد اللثام عن غموضه أمامه، وأظهر الرجل العجوز شغفاً بالغاً بالمعارض وما يعرض بها من لوحات، وسأل عن كيفية إدارة هذه المعارض والمسئولين عن اختيار اللوحات للعرض. لقد تبلورت في ذهنه فكرة جديدة.

بحلول الربيع وما أغدقه على الحقول والحدائق من ألوان بديعة رسم السورث لوحة فظيعة أسماها "الأشجار البيضاء" وتلا ذلك بإعلان مفاجئ مفاده اعتزامه عرض اللوحة في العرض الصيفي بمعرض "لاثروب" لما يتمتع به العرض الصيفي من ضخامة وأهمية فإن حلم العمر لكل الرسامين بالولايات المتحدة هو الفوز بإحدى جوائزه. ووسط هذا الحشد الهائل من أعمال كبار الرسامين زج السورث بلوحته "الأشجار البيضاء" والتي كانت تشبه طبقاً من السلطة ملقى بعنف على جدار أحد المنازل.

قال كوبيل: "لو وصل هذا الخبر إلى الجرائد فسيصبح السيد السورث مثار سخرية كل المدينة. يجب علينا منعه".

فحذره الطبيب قائلاً: " لا يمكننا التدخل الآن وإلا أفسدنا كل ما أنجزناه".

لدهشة الجميع وبالأخص سوين حظيت "الأشجار البيضاء" بالقبول للعرض في معرض لاثروب، ففكر كوبيل أن السيد السورث ليس هو المجنون الوحيد. لابد أن كل المنظمين لمعرض لاثروب مجانين.

لحسن الحظ جاء عرض اللوحة في مكان غير ظاهر حيث لم تستلفت الأنظار. تسلل سوين في عصر أحد الأيام إلى المعرض ليفاجأ باللوحة القبيحة معلقة على أحد الحوائط مزاحمة لوحات رائعة الجمال، واسترعت اللوحة انتباه طالبين وقفا أمامها يتغامزان، فأسرع بالخروج قبل أن يستمع لتعليقاتهما.

خلال فترة المعرض دأب العجوز على تلقي الدروس دون أن يتحدث عن لوحته وكان المرح غالبا عليه، وكلما دخل عليه سوين الحجرة فاجأه يضحك مع نفسه. ففكر أنه ربما كان كوبيل على حق، وأن هذا العجوز قد أصابه الجنون. ولكن من العجيب أن لجنة معرض لاثروب تشجع جنونه بقبول هذه اللوحة.

قبل انتهاء المعرض بيومين حضر مرسال خاص حاملاً ظرفا كبيرا رسمي الهيئة ومعنونا باسم السيد السورث وذلك في حضور كل من سوين وكوبيل والطبيب.

طلب السورث من المرسال قراءة الخطاب لأن عينيه تؤلمانه. وكان المكتوب كالتالي: "إنه لمن دواعي سرور معرض لاثروب الإعلان عن فوز السيد كوليس ب. السورث بالجائزة الأولى وقدرها ألف دولار وذلك عن لوحته الأشجار البيضاء".

ألجمت الدهشة سوين وكوبيل في حين احتفظ الدكتور بهدوئه مستخدماً كل إمكاناته المهنية للتحكم في النفس وقال: "تهنئتي يا سيد السورث. عظيم عظيم. بالطبع أنا لم أتوقع مثل هذه الأنباء العظيمة، ولكن .... حسناً. يجب أن تعترف الآن بأن الفن أكثر سخاء من التجارة".

فأجاب الرجل العجوز بحدة: "ليس للفن أي علاقة بما حدث. لقد اشتريت معرض لاثروب الشهر الماضي"