أرقام

أرقام

أطـفال الكحول!

عرفنا في الوطن العربي أطفال الحجارة, هؤلاء الذين يخرجون من المدرسة ليواجهوا العدو بصدورهم ولا يحملون غير أحجار صغيرة يرجمونه بها, آملين في إنهاء وضع الاحتلال المحروس بالدبابات والطائرات والقنابل النووية.

وعرفت إفريقيا, وربما أفغانستان أطفال الحرب, الذين قادتهم العصابات المسلحة ليشاركوا في أعمال قتالية ولما لم يتجاوزوا الخامسة عشرة من عمرهم, وكيف قاد الفقر الكثير من هؤلاء الأطفال للاشتراك في الحرب بحثاً عن لقمة خبز!

أيضاً, فقد عرفنا في هذه المناطق نفسها, مناطق الأزمات والحروب الأهلية, كيف تصبح النساء ويصبح الأطفال في مقدمة الضحايا, فهم أول الفارين إلى المخيمات القريبة, وهم آخر الناجين من عدوان عسكري, أو عدوان على مخيماتهم وملاجئهم غير الآمنة والتي يجري فيها استغلال ضعفهم وحاجتهم.

و... هناك في عالم الشمال, حيث السعة الاقتصادية, وحيث الأمن والأمان وزوال شبح الحروب...! أطفال وصبية من نوع آخر حرصت تقارير منظمة الصحة العالمية وتقارير الأمم المتحدة على رصد حالتهم.

الأطفال, أو الصبية الذين نعنيهم في سن الخامسة عشرة أو ما دون ذلك, وموضوع البحث: مَن يسكر أكثر? مَن يتناول الكحوليات مبكراً, وما علاقة ذلك بممارسة العنف والتدخين ورذائل أخرى?

قبلها, كانت التقارير قد سجلت أن كل شيء في مجتمع الغرب يأتي مبكّراً, فقطار اللذة لا ينتظر بلوغ مرحلة المراهقة أو سن الشباب, والمخالطة الجنسية لا تنتظر اكتمال الجسد, ولا تتقيد بوازع ديني, ومن ثم فليس غريباً أن تسجل صحيفة بريطانية حالة طالبة في سن الثانية عشرة من عمرها, تزوجت أو خالطت وأنجبت ثم باتت تشكو من أنها قد ضاقت بطفلها وأنها تريد أن تلعب وتمرح كزميلاتها في المدرسة!

وتسجل التقارير والإحصاءات الرسمية أن الزيجات غير الشرعية, والتي يعترف بها المجتمع في كندا وبلدان أخرى قد فاق عدد الزيجات المسجلة رسمياً, وهي القضية التي فرضت نفسها على مؤتمرات السكان والمرأة خلال التسعينيات, وكان هدف البعض تقنين هذا الوضع والاعتراف به, لكن الغريب أن يتم ذلك في عالم الطفولة أو المراهقة المبكرة.

في عام (1996) قامت منظمة الصحة العالمية بمسح قطري لما نتحدث عنه: الصبية والمراهقون الذين يتناولون الكحول ويمارسون العنف.

وجاءت الأرقام مثيرة للانتباه: كانت النسبة المئوية للطلبة في سن الخامسة عشرة ممن مارسوا السكر أكثر من مرة نتيجة تعاطي الخمور في الفصل الدراسي الذي جرى فيه المسح متفاوتة من قطر إلى آخر, كما كان الاختلاف واضحاً بين سلوك الذكور وسلوك الإناث.

كان هناك ثلاث دول أوربية تزيد فيها نسبة المتعاطين للكحول في هذه الشريحة السنية على خمسين بالمائة, والدول هي فنلند والمملكة المتحدة (ويلز وأسكتلندا) والدانمارك, والأخيرة تقف على قمة هرم تعاطي الكحوليات, فثلثا الطلاب قالوا: (نعم... نتعاطى الكحوليات).. و.. كانت الفتيات أكثر إقبالاً على الكحول من الفتيان في بلد واحد هو الدانمارك, بينما كان السبق دائماً وفي البلدان الأخرى للذكور.

كثير من بلدان غرب أوربا سجل نسبة أعلى من التعاطي, بينما سجلت دول شرق أوربا نسبة أقل, ففي روسيا الاتحادية لم تزد نسبة الذكور في سن الخامسة عشرة الذين يتعاطون الكحوليات على (21) بالمائة, والإناث (12) بالمائة, وفي بولندا كانت النسبة (34 و 18) بالمائة بالترتيب, وربما كانت دول البحر المتوسط أو الجنوب الأوربي أفضل من غيرها, فبينما ارتفعت النسبة في دول شمال ووسط أوربا, لم تزد هذه النسبة في إسبانيا وفرنسا على (24) بالمائة للذكور, وأقل من ذلك للإناث.

قد نتعرض للأسباب والنتائج, والأهم والذي يثير الانزعاج في هذه المجتمعات الغربية هو السلوك المصاحب لشرب الخمر في هذه السن المبكرة.

يقول تقرير منظمة الصحة العالمية إن المسح قد أشار إلى أن مَن يتعاطون الخمور في هذه السن يكونون أكثر نفوراً من البيت والمدرسة, ويكونون أقل قدرة على التحصيل الأكاديمي, خاصة إذا كانوا من الذكور, فلهم عالمهم الخاص, والانعزال هو نوع من الانسحاب من المجتمع.

الأخطر هو الميل إلى العنف, فالنزعة للاعتداء على الآخرين - كما يقول التقرير - كانت واضحة فيمن أجابوا عن أسئلة الاستقصاء.

كانت هذه النزعة تتفاوت أيضاً من بلد إلى آخر, لكنها وصلت أقصاها في ألمانيا حيث بلغت النسبة لمن مارسوا العنف خلال فترة المسح (86) بالمائة من الذكور و (72) بالمائة من الإناث, لكن وفي منطقة أخرى هي ويلز بالمملكة المتحدة, فقد هبطت النسبة إلى (28) و (13) بالمائة للذكور والإناث على التوالي.

في كل الأحوال, كان العنف مصاحباً لتناول الكحول, وكان الاعتداء على الآخرين أو الاشتباك معهم من مظاهر هذا العنف.

والتقرير يسجل أن العينة كلها من أغنى بلدان العالم, وأن أخطر ما في الأمر أن المراهقين الذين يسرفون في تعاطي الكحول أشد تعرّضاً للمشكلات الصحية إضافة إلى الوفاة المبكرة, ومن المشاكل الصحية: أمراض الكبد والاكتئاب وحوادث الطرق, أما نزعة إذلال الآخرين فهي تشمل الاحتكاك الجسدي والبذاءة الكلامية والتهّور في قيادة السيارات, فنصف العقل قد يذهب مع الكأس الثانية أو الثالثة!

السؤال: ما الذي يدفع لانتشار الكحوليات بين المراهقين في هذه الدول? وما الذي يجعل الفتيات يتفوقن على الذكور في هذه الآفة ببعض البلاد مثل الدانمارك? وقد يمتد السؤال: ولماذا ينتشر الانحراف والميل للعنف حتى أن حيازة الأسلحة الصغيرة مثل المسدسات أو الأدوات الحادة باتت مشكلة في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية?

نلاحظ أن الدراسة في معظمها قد تمت فيما أسمته (أغنى بلاد العالم) أي أن عنصر الوفرة أو الثراء عنصر رئيسي لدى مراهقين يملكون القدرة, ويشربون إلى حد السكر كما يقول تقرير البحث.

ولكن, وخارج التقرير قد نسجل ظاهرة التفكك الأسري, والانفصال المبكر بين المراهقين وأسرهم, والانفصال هنا سلاح ذو حدين, فالاستقلال قد يخلق الاعتماد على النفس, لكنه قد يتحول أيضاً إلى مشكلة كتلك التي نحن بصددها.

الاستقلال يعني الحرية, والحرية قد تعني المسئولية, وقد تعني الفوضى, قد تخلق عبقرياً وقد تخلق مجرماً.

ما الإطار الاجتماعي اللازم لمحاصرة مثل هذه الظواهر? ولماذا لا تنتشر هذه الآفات في الشرق أو في عالمنا العربي?

ربما يكون الوازع الديني هو السبب, ربما يكون الرباط الأسري, وربما يكون المناخ كله, فمجتمعاتنا أقل تقبّلاً للمسكرات, لكنهم في الغرب شيء آخر, إنه إطار اجتماعي مختلف ترتفع فيه قيمة العمل والثراء, وتتراجع فيه أساسيات أخرى كفيلة بهدم كل شيء!

 

محمود المراغي