جمال العربية
جمال العربية
وُلد عمر بن أبي ربيعة ومات بالحجاز بين عامي ثلاثة وعشرين وثلاثة وتسعين هجرية, وعاش بمكة, وكان يتردد على المدينة واليمن والشام والعراق, وأتيح له من شبابه وجماله وفتوّته وشاعريّته وعراقة أصله القُرشيّ وتراثه بالإضافة إلى كونه وحيد أمه, ما يسّر أمامه سبل العيش اللاهي العابث, وهيّأ له أفانين المتعة واللهو متنقلاً من غاية إلى غاية, ومن التشبيب بحسناء إلى الولع بأخرى, ومن تتبع خطا قرشية إلى التغزل بأخرى غير قرشية. يروون أنه وُلد في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب, ومن هنا كانت الكُنية التي يردّدها عن نفسه كثيراً في شعره وهي (أبوالخطاب), وكان تعليق بعض الرواة على توقيت مولده مقارنا بينه وبين الفاروق عمر: (أيُّ حق رُفع وأيّ باطل وُضع), وهو تعليق شديد الإيجاز, لكنه عميق الدلالة في وصف إحساس المجتمع الإسلامي بعمر وشعره الحسّي اللاهي العابث. يقولون أيضاً إن نسبه القرشي أضفى عليه حصانةً لم تُتح لسواه. نبوغه الشعري اللافت جعل قريشاً تفاخر به وهي التي لم يكن لها لسان شعري بارز أو صوت شعري مسموع في الجاهلية, كانت مفاخر قريش تتركز في كونها قبيلة التجارة {لإيلاف قريش. إيلافهم رحلة الشتاء والصيف}, والقبيلة المسئولة عن رعاية الكعبة وخدمة الحجيج وسقايتهم من زمزم. هي - إذن - قبيلة الزعامة التجارية والدينية. أما الشعر, فقد جاءها عندما لهج به لسان عمر بن أبي ربيعة, فجذب الانتباه ولفت إليه الأسماع. لينطلق الفتى إذن - كما شاء له شيطان شعره - دون خشية من لوم أو عقاب, وليتخذ من مواسم الحج مواسم لمطاردة النساء والدوران وراء اللاتي قدمن للحج من بقاع العالم الإسلامي يتعرّض لهن ويشبّب بهن, وينسج حولهن الأقاصيص في شعره, ويحاورهن, ويترقّب خروجهن للطواف مُحرمات, فيقعن من فؤاده موقعاً يملك عليه لبّه. ثم ما يلبث شعره أن يروى ويسير ويتناقله الركبان ويجتمع من حوله السمّار. مثل هذا الشاعر المزهوّ بنسبه وحسبه, وشبابه وفتوّته, وثرائه - فقد كان يتاجر في الحرير - وإحساسه بالحصانة التي منحها له انتماؤه القرشي, لم يكن ليتوقف عند امرأة بعينها من النساء, مهما بلغ جمالها وصيتها, إنما هو فؤاد قلق, متنقل, سريع الزهد والعزوف, دائم البحث والتنقيب والتجوّل, مما يجعلنا نطالع في شعره عشرات الأسماء لمحبوبات توقف عندهن بعض الوقت ثم غادرهن إلى غيرهن. والملامح التي يتوقف عندها - في محبوباته - ملامح خارجية, لا تتجاوز القوام والوجه والعينين والفم والشعر والمشية والتثني, وقد يلفته فيهن اللون والصوت والرائحة الذكية. وهو في هذا لا يختلف كثيراً عمّن سبقوه من شعراء الغزل الحسّي, الذين توقفوا مثله عند التكوين الخارجي للمرأة دون أن يعنوا بالكشف عن خوالجها وعواطفها وأهوائها, ومثله الأعلى في هذا المجال هو امرؤ القيس في نهمه الشديد للذائذ والمتع والمجون والتنقل من واحدة إلى أخرى, ووصف النساء وصفاً حسّياً خالصاً. لكن عمر بن أبي ربيعة ينفرد - من بين شعراء التراث العربي القديم - بنفاذه إلى نفسية المرأة, وقدرته في الكشف عن أسرارها التي لا يفطن إليها إلا الخبير بما وراء حركاتها وإشاراتها ولفتاتها وأساليب حديثها وطرق تعبيرها. وفي قصائده يطالعنا لأول مرة صوت المرأة تحاوره ويحاورها, وتعاتبه ويعاتبها, وتكشف عن وجدها به كما يكشف عن وجده بها, فهو - إذن - أول شاعر قديم يتيح للمرأة المحبوبة أن تتكلم في شعره وأن يكون لها صوت وحضور. ثم هو شاعر صاحب موهبة في القصّ وصياغة الحكايات, وإبداع غزل في إطار من الشعر القصصي. كثير من قصائده تجارب عاطفية لمغامرات ونزوات في إطار من القصة, يتخللها حوار بين شخوصها وأبطالها, وهو حوار نابض بالحياة والجمال والطرافة, ليس فيه تصنّع أو افتعال, وإنما هو طبيعي تلقائي. والذي يطالع شعر عمر بن أبي ربيعة يكتشف على الفور نزعة الإعجاب بالذات التي تتخلل قصائده, وتملؤها بالحديث عن نفسه, فهو يفيض في وصف تهافت الحسان عليه, وإظهارهن إعجابهن به وبشعره. فهو المطلوب لا الطالب, وهو مَن تتعرض له النسوة في الطريق بالغمز والإشارة, وهو مَن يصفنه بالقمر, ويهيئن له سبل اللقاء في الخلوات, ويدبّرن بينهن وبينه رسلا يحملن رسائل الوجد والشوق والهيام: وهن يطلبنه ويسعيْن في إثره: وفي العديد من قصائده تصوير لاجتماع النساء والحديث عنه في خلواتهن, حديث من تيّمه الحب وبرّح به الهيام. وبينما هن مشغولات بالحديث عنه والتلذذ بذكره, يطلع عليهن من بعيد ممتطياً جواده الأغرّ: ليس معنى هذه النزعة (النرجسية) التي تؤكد عشق الذات, خلوّ شعر عمر من العواطف والمشاعر والأحاسيس, ففي بعض قصائده لذعة الوجد ونار اللوعة وجيشان الأشواق, هو إذن يعاني كما عانى غيره من الشعراء, ويبوح بالشكوى والأنين حزناً على الفراق والرحيل, لكن عينه لا تفارق مفاتن المحبوبة, ونفسه تتخيل طعم فمها الذي يجمع بين مذاق الكافور والمسك, وقد مزجا بالخمر والزنجبيل: وهو بيت شعري دلالته واضحة وصريحة, على أنه لم يذقْ طعم فمها قط, وإنما هو ظنه أو تخيّله الذي جعله يصوّر طعم الفم على هذه الصورة الحسّية الشهية, مُقسما على ذلك بالكتاب والتنزيل! ثم يقول عمر: ولنتأمل احتراسه في البيت الأول وهو يصف شعرها بقوله: (حُدّثته) أي أنّ وصف عمر له نتيجة للسماع والحديث عنه لا وصف من شاهد ورأى بنفسه, نفياً لأي شبهة أو مظنّة سوء. لكن مثل هذا الاحتراس والنفي قليل جداً في شعر عمر بالقياس إلى مغامراته الفاضحة وأوصافه الموغلة في الحسيّة. يقول عمر بن أبي ربيعة في واحدة من قصائده التي يصف فيها واحدة من محبوباته يتردد ذكرها كثيراً في شعره هي (الثريا), ويقدم هذه اللوحة الشعرية الوصفية الفاتنة, فهي تتهاوى كالمهاة, وهي مكنونة مُنعّمة. يتفجّر في خدّيها ماء الشباب, وهي بديعة كالدمية أو الأيقونة التي يعتز بها الراهب في جانب محرابه, وهي تُذكّره في جلْوة إشراقها ببهجة الشمس, كما أنها تتهادى في مشيتها, وتتثنى مثل الحيّة, ثم هي تسيطر على المعجبين بجمالها وفتنتها وتغتصبهم بما يفوح من المسك التي تمجّه وتنفحه: والسخاب هو القلادة من القرنفل والعطور الذكية الرائحة, لكن قلادة (الثريا) جمعت بين القرنفل والدرّ, فصارت فريدة كصاحبتها, كلتاهما لا تشبه الأخريات. ويقول في موضع آخر من شعره وعينه على (الثريا): صعب على من يقلب في ديوان عمر بن أبي ربيعة, ويستوقفه في كل صفحة من صفحاته حديثه المتصل عن النساء, صعب عليه أن يتصوّر: كيف سمح المجتمع الإسلامي في مكة بكل هذا الخروج على القيم والتقاليد الإسلامية, وعلى العرف العربي المتمثل - من قبل الإسلام - في صيانة العرض والشرف والحرمات? إلا إذا تذكر دوماً أن الشاعر كان يحتمي بحصانته القرشية, التي بسطت ظلها عليه, وحالت بين الخلفاء والولاة والفتْك به أو إقامة الحدّ عليه, ونظرت إلى شعره - الذي كان يحفظ كثيراً من الفقهاء والأئمة - على أنه مجرد أخبار طريفة ووقائع صاغها خيال شاعر جمح به هذا الخيال فقال ما قال: يقول عمر بن أبي ربيعة ناشراً حبْل الهوى التّهامى لمحبوبته العراقية:
|