حلب.. شهباء العروبة ودرة الشمال السوري

حلب.. شهباء العروبة ودرة الشمال السوري

تصوير: حسين لاري

بين واديين يضمهما نهرا "العاصي" و "الفرات"، يقف التاريخ شاخصا، ليروي حكاية تلك المديته العربية الشهباء. هنا يمكن للمرء أن يستنشق هواء التاريخ، ويقرأه، عندما يدرك أن كل بقعة في "حلب" مرت عليها نسائم الحضارات القديمة.سبعة وثلاثون عاما مضت، منذ قامت "العربي" بأول استطلاع لمدينة حلب، وبين الزيارتين كانت أحداث كثيرة قد وقعت، ومعالم بارزة تغيرت، غير أن الدخول ثانية إلى المدينة الشهباء يدفع الزائر مباشرة إلى معانقة التاريخ، ففوق هذه البقعة المنيرة في أزمنتنا العربية الموغلة في القدم، مر السومريون والحيثيون والبابليون والسلوقيون، ثم جاء دور الرومان وتلاهم الساسانيون، إلا أن أهم انعطاف تاريخي شهدته حلب هو دخول العرب المسلمين إليها عام 636م بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وبرغم أن حلب لم تلعب الدور التاريخي البارز الذي لعبته دمشق في ظل الحكم الأموي، فإن الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك قد شيد فيها المسجد الكبير قبل أن تقع حلب في منطقة الصراع بين العباسيين من جهة والطولونيين من جهة أخرى لتخضع لهولاء تارة ولأولئك تارة أخرى، وقد استطاعت تلك المدينة أن تتبوأ الصدارة مرة أخرى في التاريخ واستعادت أهميتها على يد مؤسس الدولة الحمدانية سيف الدولة الذي جعل منها عاصمة لإمارته، ومحجاً لرواد الثقافة والفن، إلى جانب تصديه البطولي لبيزنطة، وقد سجل هذه الحقيقة شاعر العروبة الأول أبو الطيب المتنبي.

ثم غزاها البيزنطيون في القرن العاشر الميلادي واعملوا فيها الخراب وتلاهم الفاطميون والسلجوقيون، ثم غزاها الصليبيون وجعلوا من المناطق المحيطة بحلب خراباً، وسدوا منافذ الطرق التجارية الموصلة إليها، إلا أن الزنكيين استطاعوا أن يردوا الصليبيين على أعقابهم، وشهدت المدينة في ذلك العهد نمواً اقتصادياً وعمرانياً كبيراً، فجددوا بناء سور حلب وقلعتها والجامع الكبير وأعادوا بناء الأسواق من جديد، وواصلت حلب تألقها وتقدمها طيلة الحكم الأيوبي، فقد عمد غازي بن صلاح الدين الأيوبي إلى تجديد الأسوار وتحصينها، وأعاد من جديد بناء قلعة حلب، ووسع الأسواق، كما جدد شبكة المياه التي تغذي المدينة، وأقام العديد من الأبنية الدينية والمدنية، ثم اجتاحها المغول وأعملوا الخراب فيها في عام 1260م، وجاء بعدهم التتار فغزوها، وتبعهم تيمور لنك عام 1401، ثم جاء دور العثمانيين والذي استمر حكمهم نحو أربعة قرون تخللها احتلال إبراهيم باشا لحلب "1831 ـ 1840" وانتهى حكم العثمانيين مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعدها فرض الانتداب الفرنسي على سوريا ومنها حلب، وظل السوريون يقاومون هذا الانتداب حتى من الله عليهم بنعمة الاستقلال، حىث تم في عام 6491 جلاء القوات الفرنسية والإنجليزية وانتهى الانتداب بعد معارك طاحنة، وفي 17/4/1946 جرى الاحتفال بالجلاء واعتبر هذا اليوم عيداً وطنياً لسوريا.

أوابد أثرية

تزخر حلب بمجموعة من المعالم الأثرية التي يعود تاريخها إلى حقب قديمة، فقد أحيطت حلب القديمة بأسوار وأبراج تعود إلى العهود اليونانية والرومانية والبيزنطية، وتقوم أسوارها الحالية فوق أنقاض أسوار أقدم منها، وتظهر بقايا هذه الأسوار قرب باب قنسرين وباب أنطاكية، ويحيط مدينة حلب القديمة مجموعة من الأبواب يعود أقدمها إلى القرن الثاني عشر الميلادي، أما أحدثها فيعود إلى القرن السادس عشر، وقد جددت هذه الأبواب عدة مرات، وبقي منها حتى الآن باب أنطاكية، وباب النصر، وباب قنسرين، وباب المقام، ثم باب الحديد.

وتعد قلعة حلب التاريخية من أكبر وأغنى المعالم التاريخية في تلك المدينة، بل إننا لانبالغ إذا قلنا إنها أكبر قلعة في العالم، ويذكر أن أي فاتح في التاريخ لم يستطع أن يحتلها حرباً، وإن دخلها بعضهم حيلة وخدعة أو رضاء، كما يقول مدير القلعة فوزي شعبو الذي يعتبرها الشاهد الوحيد لكل الأحداث التي مرت على هذه المدينة، مضيفا: لقد دلت حفرياتنا التي قمنا بها على أن أصول القلعة تعود إلى نحو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، فقد اكتشفنا معابد يعود تاريخها إلى الآراميين، وقد تحول المعبدإلى أكروبول ثم إلى قلعة أيام الزحف الروماني، ثم دخلت حلب الإسلام مع الفتح العربي الإسلامي، استعصت القلعة على الدخول أولا قبل أن يتم اقتحامها عن طريق الحيلة. وفي أيام سيف الدولة الحمداني تم ترميم القلعة، إلا أن المؤرخين يقولون إن هذا البناء الموجود حاليا بناه غازي بن صلاح الدين الأيوبي.

أسواق متعامدة

وتعد أسواق حلب من أجمل الأسواق القديمة في العالم، فهي ذات طابع خاص وهندسة خاصة، وهناك عدة أسواق تشبه أسواق حلب في كل من دمشق واسطنبول والقاهرة، ولكن ليس هناك سوق في تلك الدول يشبه أسواق حلب، فهي أسواق مستقيمة ومتوازية ومتعامدة ومتناظرة، والسوق الرئيسي فيها يمتد من قلعة حلب وسط المدينة شرقاً إلى باب أنطاكية غرباً بطول كيلو متر واحد تقريباً، ومن هذا السوق تتفرع أسواق أخرى متقابلة ومتعامدة معه لتصب في أسواق أخرى متوازية للسوق الرئيسي، وكل هذه الأسواق مسقوفة بسقف حجري مقبب له فتحات من أعلاه على نسق واحد تسمح بالتهوية والإنارة. ويقول الأستاذ نديم قفش مدير السياحة في حلب: إننا لو جمعنا هذه الأسواق لوجدنا طولها يزيد على 12 كيلو متراً، ومعظم هذه الأسواق لها أبواب كبيرة تقفل عند المساء وتحرس ليلاً. ويباع في هذه الأسواق كل حاجات الإنسان، الغالية منها والرخيصة، ولكل صنف من تلك المواد سوق خاص به، فتجد مثلاً سوقاً للعطارة وآخر للأقمشة والأصواف والأقطان، ثم سوقاً للأحذية وسوقاً كبيراً للصاغة وبيع الذهب، والكثير من المواطنين يفضلون هذه الأسواق عن الأسواق الكبيرة أو ما يعرف بالأسواق المركزية، والحق أن التجوال في هذه الأسواق متعة من المتع الجميلة، حيث تشعر وأنت تتجول فيها براحة وتعود بأفكارك إلى الماضي المجيد وكأنك تدخل التاريخ سارحاً في أزمان سابقة وقرون متقدمة. التقينا في أحد هذه الأسواق الحاج محمد مصطفى العسل وهو يبلغ من العمر نحو السبعين سنة يزاول بيع الآثار والعاديات، سألناه ماذا يبيع؟ فأجابنا: إن هذه المهنة توارثناها أباً عن جد فالمخزن الذي أمامكم عمره أكثر من مائتي سنة، وأنا أبيع فيه الملابس الحلبية القديمة بالإضافة إلى السجاد والبسط والخناجر والسيوف، والشالات بأنواعها، إنني أشتري هذه العاديات من الناس الذين يجلبونها إلينا من مدخراتهم، ومعظم زبائننا من الأجانب الذين يزورون حلب ليبتاعوا مثل هذه الأشياء، عندنا سجاد إيراني يرجع إلى أكثر من 200 سنة، ولدي سجادة صنعت في حلب يزيد عمرها على 70 سنة. وأخرج لنا من أحد دواليبه ملابس قديمة كان يلبسها الباشوات والبكوات والأغوات وملابس نسائية غالية الثمن، وأخرج لنا لباساً يطلق عليه "العباية الحمرة" كانت مشهورة في مدينة حلب وغالية الثمن يرد اسمها في كثير من الأغا ني الشعبية، وهي تلبس في الأعراس، ثم أخرج لنا الحاج محمد الإزار والشال الرجالي والشال العجمية وهي ملابس مصنوعة من الصوف تلبس فوق الشروال أو القمباز.

ونظراً للأهمية التاريخية والعمرانية التي تتمتع بها حلب فقد اعتبرتها منظمة اليونسكو مدينة تاريخية مهمة لاحتوائها على تراث إنساني عظيم يجب حمايته، خاصة أن بها أكثر من 150 أثراً تاريخياً مهماً تمثل مختلف الحضارات الإنسانية والعصور السياسية التي مرت بها. لذلك فقد سجلت مدينة حلب القديمة في عام 1978 في السجلات الأثرية الرسمية، ووضعت الإشارة على صحائفها العقارية تثبيتاً لعدم جواز هدمها أو تغيير ملامحها أو مواصفاتها حتى من قبل بلديتها إلا بعد أخذ موافقة الجهات المعنية في هيئة اليونسكو، وقد قامت مديرية الآثار في حلب بإحصاء المباني الأثرية وتسجيلها والمحافظة عليها ومراقبتها، كما أحدث في مجلس مدينة حلب مكتب لشئون المدينة القديمة يقوم بتوثيق بعض المعالم التاريخية وجمع المعلومات عنها.

خانات للإقامة والتسوق

أما الخانات والقيصريات فهي أبنية شيدت لأغراض التجارة والصناعة والإقامة معاً أي أنها كانت بمنزلة الفنادق في ذلك الزمان، والخانات تتألف من طبقة أرضية وهي سوق تجارية وصناعية وفيها اصطبلات لخيول المسافرين، وطبقة علوية تضم غرفاً للتجارة ولإقامة المسافرين والتجار، وللخان باب كبير يغلقه "الأوضباشي" أي الحارس عند غياب الشمس، وفيه باب صغير يسمي خوخة لايفتحه الحارس إلا عند الضرورة. وغالباً ماتكون الأسواق لبيع المفرق والخانات لبيع الجملة، وقد سكنت هذه الخانات طوال قرون عدة عائلات أوربية كانت تستوطن حلب، وكان لكل جالية خان خاص بها توجد فيه قنصلية دولتها، أما أشهر خانات حلب فهو خان القاضي والبنادقة ويرجع تاريخه إلى القرن الخامس عشر، ثم خان القصابين وخاير بك ثم خان الوزير، وكان من أجمل خانات حلب، وسكنه الرهبان الأوربيون، وخان الجمرك وهو من أكبر خانات حلب، حيث تبلغ مساحته نحو نصف هكتار، وكان فيه 52 مخزناً أرضياً و77 غرفة في الطابق الأول بالإضافة إلى الجامع وأسبلة مياه وخدمات عامة أخرى، وكان فيه مركز لشركة الهند الشرقية البريطانية وقنصليات فرنسا وإنجلترا وهولندا.

ومن أشهر هذه الخانات خان الشونة والذي أصبح الآن سوق المهن اليدوية، ويعود تاريخه إلى عهد الوالي العثماني خسرو باشا منذ نحو 450 سنة، وهو يقع جنوب باب القلعة، وقد بني هذا السوق عام 1541 وتولى بناؤه المعماري العثماني الشهير سنان باشا، ويعد الأثر الوحيد لهذا المعماري المبدع في المنطقة، وفي عام 1821 تعرضت مدينة حلب لزلزال مدمر تسبب في أضرار كبيرة للمدينة والسوق مما أدى إلى إغلاقه، وبقي كذلك حتى نهاية القرن التاسع عشر عندما حوله القنصل الإيطالي في حلب لآل ركوبلي إلى مستودعات للحبوب والغلال، وأطلق عليه اسم خان الشونة ـ والتشوين لغة تعني التخزين ـ وقد بقي الخان حتى عام 1982 وتم استملاكه من قبل وزارة السياحة. ويقول مدير السوق باسم الخطيب: لقد وضعت وزارة السياحة خطة لتمويل هذا السوق وتحويله إلى سوق للمهن اليدوية، وتهدف الخطة في الأساس إلى المحافظة على الصناعات اليدوية الحلبية ومنعها من الاندثار، فقامت مديرية السياحة بحلب بالإشراف على أعمال الترميم، وتم اختيار مجموعة من الحرفيين المتميزين، تم توزيع المحلات عليهم بأجور رمزية مع تأمين جميع الخدمات والإعفاءات دعماً للعمل ومحافظة على هذه المهن.

حمام يلبغا الناصري

ومن المرافق السياحية في مدينة حلب حمام "يلبغا الناصري"، وهو من أجمل حمامات حلب قاطبة، ويقع أمام البرج الجنوبي لقلعة حلب، ويرجع بناؤه إلى أوائل حكم المماليك في منتصف القرن الرابع عشر، ولايعرف اسم بانيه الأصلي. وعندما تولى حكم حلب الأمير المملوكي سيف الدولة يلبغا الناصري قام بترميم الحمام ووضع اسمه عليه، وبعد هجوم تيمور لنك على حلب هدم الحمام وأهمله وكان يستخدم في بداية هذا القرن كمكان لإعداد اللباد، لذلك سماه أهالي حلب حمام اللبادين، وكان للحمام ثلاثة سراديب توصله بالقلعة والمدينة.

يتألف حمام "يلبغا الناصري" من ثلاثة أقسام، الخارجي وتعلوه قبة عالية جميلة بزخارف جدارية بديعة مع بركة ماء وأماكن لنزع الثياب مع تجاويف حائطية للقباقيب والأحذية، أما القسم الأوسط فيحوي عددا من الخلوات وعقود القباب والقمريات، أما القسم الداخلي وهو أكثر أقسام الحمام حرارة ففي وسطه قبة واسعة مثمنة الأضلاع ويوجد فيها قمريات متناسقة، وقد قامت مديرية الآثار بحلب عام 1980 بترميم الحمام وتحضيره وفرشه وإعادة تجهيزه بما يلزم من تمديدات لإعادة وظيفة هذا الحمام الأصلية والمحافظة عليه، كما أضيفت إليه بعض الأقسام الجديدة مثل المواقد الحديثة وحمام السونا، وجرى افتتاحه عام 1985 وتقوم إحدى الشركات المختصة باستثماره.

صناعة عريقة

امتازت حلب بصناعتها التقليدية العريقة، والمتنوعة التي اعتبرت قمة الصناعة السورية، وتحتل حلب مركز الصدارة في هذا المجال. حيث يتمركز نحو 40% من الصناعة السورية في مدينة حلب كماً ونوعاً، فقد نشط المستثمرون في إقامة مشاريع صناعية متطورة، كما قاموا بتحديث بعض الصناعات التقليدية والموروثة التي اشتهرت بها محافظة حلب وبرءوس أموال كبيرة، وهذه الصناعة بالإضافة إلى ماتقدمه من سلع متنوعة تسد حاجة سوريا، فإنها أخذت في السنوات الأخيرة تصدر إنتاجها إلى مختلف أنحاء العالم، كما تقوم بتشغيل عدد كبير من الأيدي العاملة المهرة وتكسبهم الخبرة في كل المجالات.

أما أهم الصناعات في حلب فتنحصر في مصانع الغزل والنسيج وغزل الخيوط وصناعة المراجل البخارية والمشعات والتدفئة المركزية وصناعة الأدوية والفورمايكا، والصناعات الخشبية والزجاجية والجلدية، ونشر كتل الرخام والحجر. وحلب معروفة بحجرها المشهور، وهي المدينة الوحيدة في سوريا التي تبني بالحجر، وقد نبغ الحلبيون في صقل ونشر الأحجار كما اكتسب العامل الحلبي الخبرة الفنية في هذا المجال، وكذلك نبغ الحلبيون في صناعة النسيج، فهناك أنواع من النسيج الفاخر ارتبط اسمه بمدينة حلب، بالإضافة إلى صناعة البطاطين أو مايطلق عليه السوريون بالحرامات وأخيراً صناعة صابون الغار.

وقد قمنا بزيارات ميدانية لمجموعة من هذه المصانع لنطلع عن كثب على ماتنتجه هذه المصانع، وبداية زرنا مصنعا لصناعة الخيوط والأقمشة. استقبلنا المهندس هيثم ديري قائلا: هذا المصنع من أحدث مصانع نسج الخيوط في حلب وقد بدأ إنتاجه عام 1995 وجميع آلاته مجهزة للغزل الحلقي وإنتاج الخيط الصناعي والخيوط التركيبية والممزوجة والقطنية بطاقة إنتاجية يومية تبلغ 25 طناً.

والمعروف أن في حلب وحدها مابين ستة وثمانية آلاف منشأة نسيج عدا منشآت الصباغة والطباعة وتحضير الأقمشة ومعالجتها.

وقمنا كذلك بزيارة شركة "شفا" للصناعات الدوائية والتي تأسست عام 1990 على نظام يعرف باسمG.M.D وذلك فيما يخص صناعة الأدوية ورقابة نوعيتها حسب توصيات منظمة الصحة العالمية، وتقوم شركة "شفا" بتصنيع الأقراص بأنواعها الملبسة وغير الملبسة والأقراص الفوارة والكبسول، بالإضافة إلى الأشربة بأنواعها، كما تتوافر في المصنع خطوط لإنتاج التحاميل والمراهم الجلدية ومراهم العيون.

يقول المهندس عبد الكريم صابوني الذي قام باستقبالنا: إن شركة "شفا" تقوم حالياً بإنتاج نحو 87 صنفاً من الأدوية المتنوعة، كما تقوم بتصنيع المستحضرات السائلة المعقمة المعدة للحقن والمعروفة بالإبر على أحدث التقنيات وقد تم تجهيز هذه الخطوط بكمبيوتر مركزي لضبط عملية الإنتاج من بدايتها إلى نهايتها إلكترونياً ويشمل هذا معالجة المياه والتعقيم والتعبئة والمراقبة، كما يقوم المصنع بإنتاج المضادات الحيوية من أقراص وكبسولات وشراب وبودرة معقمة للحقن، وتقوم الشركة بإجراء التحاليل اللازمة ضمن مختبراتها الفيزيائىة والكيميائية والبيولوجية المجهزة بأحدث التقنيات العالمية وبالمخابر الدوائية وإشراف المختصين.

كما زرنا مصنعا لصناعة صابون "الغار" وهو نوع من الصابون اشتهرت به حلب منذ القدم، وهناك مجموعة كبيرة من المصانع لإنتاج هذا النوع الذي يمتاز بأنه جيد لضمان نعومة الجلد والشعر وقد حاز شهرة كبيرة لدى السيدات الأوربيات وأصبح الصابون المفضل لديهن، حيث إن مكوناته تحتوي على زيت الزيتون وزيت الغار أو زيت المطراف وهو زيت ثمرة موجودة في الجبال حول الساحل السوري وفي تركيا، كما أن مواده القلوية لاتتجاوز 15% بينما هي في أنواع الصابون الأخرى تتجاوز 25% أما رطوبته فلا تتجاوز 6% وقد تتدنى إلى 2% بعد سنة، أما نسبة زيت الغار في هذا النوع من الصابون فتبلغ نحو 25% ويصدر هذا النوع من الصابون إلى الكثير من بلدان العالم.

شوارع حديثة

أما القسم الحديث من مدينة حلب فيمتاز بشوارعه الطويلة المنسقة وحدائقه الواسعة الغناء والجوامع والمساجد والساحات الواسعة، ومن أشهر هذه الساحات "مستديرة الكرة الأرضية" التي تستقبل القادم إلى حلب من المدن السورية الرئيسية كدمشق وحمص وحماة واللاذقية، وقد سميت بهذا الاسم لوجود نصب تذكاري للكرة الأرضية وسط هذه الساحة، ومن فوق هضبة من الأرض يمكن رؤية جزء كبير من المدينة، وتظهر قلعة حلب وسط هذا المشهد، وخلف هذه المستديرة يظهر مبنى الإذاعة المحلية ثم الملعب الرياضي ثم مقبرة المجاهدين الوطنيين "إبراهيم هنانو" و"سعد الله الجابري" ونصب الجندي المجهول، أما شارع "شكري القوتلي" وهو أول رئيس للجمهورية السورية بعد الاستقلال فهو من الشوارع المهمة في مركز المدينة وهو يصل بين باب الفرج وساحة سعد الله الجابري وتنتشر على جانبيه محلات بيع الألبسة الرجالية وبيع الساعات والنظارات أما في الطوابق العليا من مباني الشارع فتتزاحم عيادات الأطباء ومكاتب المحامين والمكاتب التجارية، ومن الشوارع المهمة في حلب شارع البارون ويتقاطع مع شارع القوتلي من وسطه، وهذا الشارع له تاريخ عريق فقد كان في الماضي يعج بأماكن اللهو والتسلية والمقاصف ويوجد فيه فندق البارون وهو فندق مبني في نهايات القرن الماضي، ونزل فيه بعض مشاهير الأوربيين من سياسيين وموسيقيين وشعراء ورجال فكر أثروا تاريخ المنطقة بنتاجاتهم.

ومن الساحات المهمة في حلب ساحة الجابري والتي تقع في الجهة الغربية الشمالية من مركز المدينة وفي جهتها الشمالية تقع الحديقة العامة. وسعد الله الجابري الذي سميت الساحة باسمه هو أحد أعضاء الكتلة الوطنية التي قاومت الاستعمار الفرنسي، وقد أصبح رئيساً للوزراء بعد الاستقلال عام 1946، أما ساحة الرئىس "حافظ الأسد" فتقع إلى الجنوب من ساحة الجابري، ويقع في الجهة الغربية منها مبنى القصر البلدي الذي يعد من أعلى المباني في المدينة، إلا أنه لم يكتمل بعد، ثم مبان حديثة لفنادق، ثم البنك المركزي ومبنى المتحف الوطني. أما ساحة حلب فتقع في منطقة باب الفرج وقد أقامها العثمانيون في أواخر القرن الماضي في زمن الوالي مدحت باشا الذي طبقت شهرته المشرق العربي قاطبة. وإذا ابتعدنا قليلاً عن مركز المدينة باتجاه الشمال نكون قد وصلنا إلى شارع الملك فيصل وهو من الشوارع الجميلة والحديثة وتقع على جانبيه أبنية حديثة مبنية بالحجر الحلبي المشهور ومعظم ساكنيه من الموسرين والأغنياء، ويتفرع من شارع النيل والذي يحوي مباني سكنية قامت بها الجمعيات التعاونية السكنية، وفي وسطه يقع جامع الرحمن ذو البناء المميز والمكسو بالسراميك الملون وبزخرفاته الإسلامية، وهذا المسجد به ست مآذن ويحوي مستشفى خيريا إلى جانب جناح خاص للصناعات اليدوية والتقليدية، وفي نهاية الشارع توجد حديقة "السبيل" الشهيرة والتي أنشئت في عام 1900 وهو من المتنزهات القديمة بنيت أيام الانتداب الفرنسي لسوريا وتحوي الحديقة منصة للفرق الموسيقية، حيث تعزف الأناشيد في المناسبات الوطنية أو القومية، وامتداد شارع الملك فيصل يفضي إلى خارج المدينة وإلى المناطق الصناعية، ثم منها إلى الطريق المؤدية إلى مدينة إعزاز ثم إلى الحدود السورية ـ التركية.

فستق حلبي وزيتون

ارتبط اسم حلب بشجرة الفستق التي تعد حلب موطنها الأصلي، وقد ذكرت شجرة الفستق الحلبي في العديد من الكتب التاريخية، ومن حلب انتشرت زراعة الفستق، ثم انتقلت إلى المناطق التي تقع إلى الشرق منها حتى بلاد التركستان ومناطق البحر المتوسط ثم دخلت إلى أمريكا حديثاً، وتعتبر محافظة حلب من المحافظات الشهيرة بزراعة هذا النوع من الفستق وتتمركز زراعة تلك الشجرة بصورة خاصة على الهضاب الكلسية التي تحيط بالمدينة حيث مازالت توجد أشجار عمرها مئات السنين. يقول المهندس غسان ايمش مدير الزراعة والإصلاح الزراعي في محافظة حلب: إن شجرة الفستق الحلبي من الأشجار متساقطة الأوراق وحيدة الجنس ثنائىة المسكن، أي أن هناك أشجارا مذكرة وأخرى مؤنثة مثل نخيل البلح، وهي ذات جذور وتدية يمكنها الحصول على الماء والغذاء من الأعماق المختلفة وقد تمتد جذورها إلى عمق 15 متراً في التربة، أما ثمارها فبيضاوية قابلة للانفتاح يحيط بها غلاف خارجي أخضر محمر أو أحمر قرمزي ذو ملمس جلدي وغلاف داخلي متخشب سميك أملس ينفتح أحياناً عند النضج وبداخله اللب وهو الجزء المأكول من الثمرة وهو غني بالمواد الدهنية والبروتينية.

وقد شهدت سوريا ومحافظة حلب بالذات تطوراً كبيراً في زراعة شجرة الفستق الحلبي وانتشرت زراعته في أغلب المناطق السورية، لما تتميز به هذه الشجرة من تحملها للجفاف والظروف البيئية القاسية، إضافة إلى عمرها الذي يتجاوز مئات السنين، وكلما ازدادت شجرة الفستق عمراً ازدادت عطاء كما يمكن تسويق ثمارها خضراء أو مجففة، والطلب على ثمارها كبير سواء في الأسواق المحلية أو العربية أو العالمية.

ويقول المهندس غسان ايمش: لقد لاحظنا اعتباراً من عام 1990 تراجعاً في زراعة شجرة الفستق الحلبي لحساب أنواع الأشجار الأخرى وخاصة الزيتون. أما أصناف الفستق الحلبي المنتشرة في محافظة حلب فهي العاشوري والعينابي والبانوتوري والعليمي وناب الجمل، أما أكثر الأصناف انتشاراً في المحافظة فهو العاشوري ويشكل 70% من إنتاج المحافظة، والذي تتميز ثماره بأنها متطاولة وذات حد أحمر أو أن الثمرة تميل إلى الاحمرار، كما أن نسبة تفتح ثمارها كبيرة، وهو الصنف المفضل من حيث الأكل والتسويق، وهو يفوق الأصناف التركية والإيرانية طعماً وتسويقاً، أما بقية الأصناف فتشكل حوالي 30% من إنتاج حلب.

معاصر وأشجار الزيتون

ومن المعروف أن حلب تتميز عن سائر محافظات سوريا كونها منبتا أصيلا لأشجار الكرز والفستق والزيتون، وشجرة الزيتون المباركة تكثر زراعتها في المناطق الواقعة غربي حلب، وتمتاز بتحملها لقساوة الطبيعة إضافة إلى طول عمرها، وسوريا تعد سادس دول العالم من حيث مساحة وعدد أشجار الزيتون بعد إسبانيا وإيطاليا واليونان وتركيا وتونس، حيث يبلغ عدد الأشجار نحو 52 مليون شجرة. يقول المهندس غسان شريف الذي استقبلنا مرحبا: تعد محافظة حلب الأولى بين المحافظات من حيث مساحة وإنتاج الزيتون، فقد بلغت المساحة المزروعة 150600 هكتار، أما أشجار الزيتون فهي في حدود 17 مليون شجرة منها 12 مليون شجرة مثمرة، أما إنتاجنا من الزيتون لعام 1996 فقد بلغ نحو 20 ألف طن زيت زيتون، ولكن مع الأسف الشديد نتوقع أن ينخفض إنتاجنا لعام 1997 بسبب موجة الصقيع التي مرت على محافظة حلب في الشتاء الماضي حيث أدى إلى حدوث أضرار تراوحت بين سقوط الأوراق وتشقق الغلف وموت الأفرع.

مع المحافظ

وكان لابد لنا من لقاء مع محافظ حلب محمد مصطفى ميرو الذي استجاب شاكرا لرغبتنا كي يجيب عن بعض ما شغل تفكيرنا من أسئلة أثناء وجودنا سألناه بداية: هل وضعت المحافظة خطة لاستيعاب هذا التوسع الكبير الذي شهدته حلب في مجال الخدمات من طرق وكهرباء وصرف صحي؟

فأجابنا قائلا: إن المخططات التنظيمية هي الأرضية المهمة التي تنظم حياة السكان، وتنظم أنشطتها، ونحن الآن نعمل بتوسيع المخطط التنظيمي لمدينة حلب بحيث نهيئ مساحة من الأرض تقدر بـ 8500 هكتار للأنشطة السكانية المختلفة، وبحيث يكون التوسع السكني باتجاه المنطقة الغربية من المدينة، وتكون المدينة الصناعية الجديدة في المنطقة الشمالية الشرقية، ومع إنجاز هذا المخطط التنظيمي يكون هناك برامج معدة لتوسيع شبكة المياه وتوسيع شبكة الصرف الصحي وتوسيع شبكة الكهرباء. وبالطبع فإن هذه النشاطات تهيئ الأرضية المناسبة لإقامة المصانع المتعددة في المنطقة الصناعية الجديدة، إن لدينا خطة بدأنا تنفيذها منذ خمس سنوات لمضاعفة مياه الشرب، فنحن الآن نقوم بتنفيذ خط جر رابع لمياه الشرب لمدينة حلب من نهر الفرات، حيث سيزود حلب بعد تنفيذ المشروع بنحو 800 ألف متر مكعب من المياه يوميا، وسوف تتضاعف الكمية، وقد نفذ من هذا الخط حتى الآن نحو 41 كيلو مترا، ومن المعروف أن هذا المشروع يقوم بتمويله الصندوق العربي للتنمية، بالإضافة لمشروع محطة المعالجة لحل مشاكل التلوث الناتج عن الصرف الصحي وهو قيد الإنجاز الآن. وهناك اهتمام كبير بتنفيذ هذا المخطط يرافقه اهتمام بتقليل التلوث والقضاء عليه ما أمكن، وبخاصة التلوث الصناعي الناشئ عن الفضلات الصناعية الصلبة والسائلة والغازية.

نحن نعتقد أن هذا البرنامج يسير طبق المخطط له وسيحقق نتائج إيجابية. لقد فرضنا على الصناعيين أن يقوم كل منهم بوضع محطة معالجة صغيرة للفضلات التي تلقى في شبكة الصرف الصحي ولعدم تلويث مياه الصرف الصحي بالفضلات الناتجة عن الاستعمالات المختلفة للصناعات وبشكل خاص الصناعات الكيماوية، وقد خطونا مراحل في هذا الطريق، فقد أُنجزت محطة الصرف الصحي ومحطة المعالجة، وقد أشرفت الأعمال المدنية على الانتهاء، كما أن التجهيزات الميكانيكية قيد الشحن والوصول إلى الموقع.

إن لدينا منطقة للصناعات الحرفية تقع شرقي حلب، وقد انتهت أعمال الصرف الصحي لهذه المنطقة بنسبة 07% وقد بدأنا تنفيذ شبكة الكهرباء، وسوف يبدأ الحرفيون تسلم المواقع المخصصة لهم وهي عبارة عن قسائم صناعية صغيرة وسوف تكتمل الخدمات خلال السنتين القادمتين.

الحفاظ على المدينة القديمة

وكان سؤالنا الثاني: تشتهر مدينة حلب بأنها من المدن القليلة في عالمنا العربي التي تحوي أسواقا إسلامية مسقوفة وكذلك خانات ومرافق أخرى، وهي ثروة تاريخية قيمة، فما هي الخطوات التي قامت بها المحافظة للإبقاء على هذه الأسواق وهذه المرافق؟

فأجابنا قائلا: إن حلب بالإضافة إلى ما ذكرت من احتوائها على مبان أثرية من مساجد وكنائس ومشاف ودور سكن وخانات وحمامات فإن المدينة يقيم فيها نحو 250 ألف نسمة من المواطنين، وتعد من المدن التي تحمل الطابع الإسلامي، ومازال هذا التراث يستخدم في معظمه لنفس الأغراض التي كان يستخدم بها قبل 700 سنة، حماماتها تعمل بشكل جيد، وكذلك مساجدها وكنائسها وأسواقها وبيوتها، ولا تزال منازلها وأسواقها المغطاة والموزعة، بالأحياء السكنية تعمل في التجارة وتشكل مركزا تجاريا مهما وسط المدينة، الواقع أن خطتنا لإحياء المدينة القديمة وتحسين العمل فيها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول يقع على عاتق الدولة بالتعاون والتمويل الجزئي من منظمات معينة مهتمة، وقسم يقع على المواطنين. أما ما يقع على عاتق الدولة فهو تبديل شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء والهاتف بحيث يستبدل القديم منها، وقد بدئ بهذا المشروع والذي يقع في منطقة تشرين وهو من أشهر أبواب حلب وجميع مستلزمات الاستبدال جاهزة، والمشروع رصدت اعتماداته المالية بالإضافة إلى مخططات الارتقاء بمدينة حلب القديمة.

حكايات حلب الجميلة لا تنتهي.. لكن نسائمها العطرة هي التي تظل عابقة.. داعية إيانا الى حكايات أخرى أكثر جمالا.. عن تلك المدينة العربية.. الزاهية.

 

 

صادق يلي