كن شجاعاً واستخدم عقلك محمـد الرميـحي

كن شجاعاً واستخدم عقلك

حديث الشهر
التسامح وظلمة التعصب

يؤرقنا موضوع التعصب اليوم كما أرق آخرين من قبلنا منهم ابن منظور في لسان العرب الذي يشرح التعصب فيقول: " وتعصب الرجل أي دعا قومه إلى نصرته والتآلب معه على من يناوئه سواء كان ظالما أو مظلوما. والناقة العصوب هي التي لا تدر لبنا. والعصوب هو الجائع الذي كادت أمعاؤه أن تتيبس من شدة الجوع. وجاء في الحديث أن العصيب هو من يعين قومه على الظلم "ولا تنتهي معـاني هذه الكلمة ومشتقاتها في صفحات هذا المعجم القديم .. كأن هذه الكلمة كانت تؤرقه قديما بنفس القدر الذي يؤرقنا الآن. وكأنها كانت تضرب في جذور عالمه المستقر كما تفعل في عالمنا المعاصر الذي لا يكف عن التحولات ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين.

لقد عادت الكثير من الأمراض الوبائية. تحوصلت الجراثيم وغيرت من صفاتها وبذلك استطاعات أن تقاوم موجات المضادات الحيوية وأن تعود لفرض سطوتها من جديد .. فهل اكتسبت جرثومة ا لتعصب نفس هذه الخصائص؟.. يبدو أن ذلك قد حدث بالفعل.. وإلا ما تفسير تلك الموجات المنتشرة من حركات التعصب والتطرف والإبادة التي تغمر كل مكان في العالم الآن بدءاً من الحركات المتطرفة في العديد من أقطارنا العربية.. إلى صراعات التمييز العرقي في الهند وكشمير. إلى عمليات الإبادة الجماعية في بورندي ورواندا وسياسات الاقتلاع في فلسطين المحتلة وحرب الإبادة الدينية والعرقية التي مازالت تدور رحاها بشكل يومي في البوسنة والهرسك. صراعات دامية لا تهدأ ولا تريد أن تهدأ إلا بعد أن ترى الآخر مقتولا أو مسحـوقا أو مبددا. إن موجـة التعصب التي تلطمنا الآن تأتي بعد أن فقدت روحها الإيجابية حـين كانت دفاعا عن النفس وتجمعا لا مفر منه للذوات البشرية الضعيفة في مواجهة طبيعة قاسية أو تسلط طاغ في محاولة للبقاء والوجود. وهو التعصب الإيجابي الـذي أنبت العديد من القوميات وحافظ على ثقافتها من الضياع. وتحول إلى تعصب سلبي يهدف إلى تحقير الآخـريـن وسلبهم حقهم في العقيدة التي يؤمنون بها والأرض التي يعيشـون عليها. هذه السلبيـة انبعث معها العديد من صيحـات القومية الانفعالية التي تمثل خطراً داهما على بقـاء الجنس البشري مثلها مثل التلوث البيئي والانفجـار النوري. فالحزازات العرقية التي نشهدها الآن هي تعبيـر عن عواطف الكراهية العميقة التي كان يكنها كل عرق في مواجهة الآخـر والتي فشلت محاولات بناء الـدولـة المعاصرة في دفنها أو محوها.

التعصب إذن هو حركة رجعية متخلفة عن عقلانية القرن التاسع عشر. وهو في حركته العشوائية المدمرة يمكن أن يضرب خلاصة القوانين والأعراف والقيم التي يقوم عليها تماسك أي مجتمـع من المجتمعات ويصيبـه بالشروخ العميقة. وما الأفكار المتعصبة التي نسمعها إلا مجرد حجج ضبابية لتبرير عدم العقلانية والجهل والخوف من مواجهة الآخر وعدم تقبله.

مفكرون عرب .. ضد التعصب

وعلى مستوى الفكر العربي الحديث شغلت هذه القضية بال المفكـرين العرب على اختلاف البيئات التي جاءوا منها. وقـد وقع في يدي أخيراً وأنا ابحث في هذه الظاهرة كتاب صغـير ولكنه مهم في مـوضوعه تحت عنوان " أضواء على التعصب " يحتوي على نصوص كتبها مفكرون عرب عاشها في أحقاب مختلفة. بدءاً من أديب إسحق الذي عاش في النصف الثاني من القرن الماضي إلى فؤاد زكريا وحسن حنفـي وناصيف نصار الذين مازالوا يمارسون. دورهم التنويري حتى الآن.

عنـد قـراءة هـذه النصوص يتبين لنا كـم كانت قضية التعصب والتسامح مهمة بالنسبة لهم كما هي بالنسبة لنا الآن . وكيف أن هذا الموضوع لايزال في حـاجـة إلى بحث ونقاش عميقين لفحص هـذه الظاهرة الاجتماعيـة التي أصبحت تتخـذ أشكالا عدوانية غاية في الخطورة. ولعل اختـلاف المراحـل الزمنية لهؤلاء الكتـاب العشرة واختـلاف مـواقعهم الفكرية مع اتفـاقهم على بحث ظاهرة التعصب يؤكد لنا مدى خطورتها كما تظهر من درجة اهتمامهم. فأولهم هـو أديب اسحق الذي ولد في لبنـان وعاش في مصر يكتب من منتصف القرن التاسع عشر والعقول لم تتفتح بعد على التيارات الفكرية الحديثة ولم يتأكد للعالم - كما تـأكد لنا بعد ذلك - مدى الخسـائر التي يمكن أن يحدثها التعصب.

يقول أديب إسحق : " حد التعصب عند أهل الحكمة العصريـة غلو المرء في اعتقاد الصحـة بما يراه ، وإغراقه في استنكار ما يكون على ضد ذلك الرأي، حتى يحمـله الإغراق والغلو على اقتياد الناس لرأيه بقوة، ومنعهم من إظهار ما يعتقدون، ذهابا في الهوى في ادعاء الكمال لنفسه وإثبات النقص لمخالفيه من سائر الخلق "

إنه إذن عـدم قبول "الرأي الآخر " كـما نفهمـه اليوم. ويـدلل أديب اسحق على المضرة الناتجة من ذلك الموقف الفكري حيـث يقع معتنقوه في إسار وهم من امتلاك الحقيقة الكاملة.

دليل أديب اسحق أن التشبث بالرأي الواحد وتأكيد صحتـه المطلقة هو خطأ كبير لأن الإنسان ولكـونه إنسانا يعجـز فهمه عن إدراك الكثير من أسرار هذا الوجود، وأنه ككائن بشري ممتنع عن الكمال، فقد كانت هنـاك (حقائق) فيعصر ما تبين أنها (أوهام) في عصر آخر، ويدلل على ذلك بالقول بسكون الأرض أو بانقسام البسيطة إلى سبعة أقاليم، هذه كانت حقائق في وقتها، ظهـر عدم صحتها في وقت لاحق .. ويقول في تعبير تشوبه السخرية : ماذا تقول أمم الذين تعصبوا لهاته الأوهام على من كان في ريب منها فألزموه الصمت والخسف".

وفي التساهل أو التسامح يحدد أديب اسحق فهمه له بهذا المعنى : " ورضاء المرء اعتقاد الصحة فيه (الرأي) مع احترامه لرأي سواه "إن هذا المفهوم "ترشد الحكمة إليه ولسوء الحـظ تغلـب الشهوة عليه" ويلمح الكاتب في صعـوبة الأخذ به عند بني البشر، فالتسامح كالحرية يشتاقها الإنسان مرءوسا وينكرها رئيساً".

ولقد تنبه الكاتب إلى منعطف خطـير في موضوع التعصب والتساهل،وكأنه يدعو إلى محاولة ضبطه وإلا أصبح الأمر سجالا فهو يقول: "فلكم رأينا من فئة مستضعفين يطلبون التساهل ويدعون إليه بكل لسان ويثبتون له الوجوب من كل الـوجـوه، فلما أن قامت دولتهم وقويت شوكتهم وصـار إليهم الأمر والقوة كانوا من الغلاة المتعصبين، ومخرجه من ذلك أن التسـامح يجب ألا يكـون صادراً من اللسـان أو من عاطفة مـؤقتة ولكـن من واجـب يتم " تقييده بمبدأ متين من الحق وتأييده بعماد مكـين من اليقين".

وعندما ننتقل إلى مفكر آخر هو جمال الدين الأفغاني الذي أنتقي نصه من مجلة " العروة الوثقى " - التي أصدرها في باريس بالتعاون مع الشيخ محمد عبده وعاشت ثمانية أشهر من مارس في أكتوبر 1884 - نرى أن معالجة الأفغاني لموضـوع التعصب والتسامح تأتي في إطار حـركة إصلاح أحوال المسلمين وقتها ومقاومتهم للاستعمار، كان الشيخ محمـد عبده مصريا معتدل المزاج، إلا أن الناس اختلفوا في الأفغاني ومازالوا ، ولكنه كان ميالا إلى التغيير عن طريق السياسـة. وفي معالجته للتعصب تراه يحبذ المعتدل منه فهو يقول: " التعصب وصف كسائر الأوصاف له حـد اعتدال وطرف إفراط وتفريط "وبعد هذا نراه يحبذ التعصب بقوله : " في التعصب وصف للنفس الإنسانية تصدر عنه نهضة لحماية من يتصل بها والذود عن حقه " لان التعصـب في رأيه يؤدي إلى التنافس. "والتنافس بين الأمم كـالتنافس بين الأشخاص أعظـم باعث على بلوغ أقصى درجات الكمال في جميع لوازم الحياة بقدر ما تسعه الطاقة".

وعند إبحـارنا في النص الذي وضعه الأفغاني حول الموضـوع نجد أنه يرى أن التعصب الديني هو أحد شروط النضـال ضد المستعمر فهو يستهجن قول المخالفين لذلك بكلمات قوية : "ثغثغ جماعة من متزنـدقة هذه الأوقـات في بيان مفاسد التعصب الديني، وزعموا أن حمية أهل الدين لما يؤخذ به إخوانهم من ضيم لدفع ما يلم بدينهم من غاشية الوهن والضعف، هو الذي يصدهم عن السير إلى كمال المدنيـة، ويحجبهم عن نـور العلم والمعـرفـة ويحملهم على الجور والظلم والعدوان على من يخالفهم في دينهم، ومن رأي أولئك المثغثغين أن لا سبيل لدرء المفاسد واستكمال المصالح إلا بانحلال العصبية الدينية .."

وبرغم نظرة الأفغاني تلك التي تبدو كـانها دفاع عن التعصب، فإننا سرعان ما نراه يعـود للدعوة إلى الاعتدال فهو يقر في إكمال نصه السابق بالقول: " قد يطرأ على التعصب الديني من التغالي والإفراط مثل ما يعرض على التعصب الجنسي(العـرقي) فيفضي إلى جـور وظلم وربما يـؤدي إلى قيـام أهل الـدين لإبادة مخالفيهم".

بمقـارنة النصين نجـد أن الأفغاني لـه هـدف واضح من الدفـاع عن التعصب وذلك لنيل حقـوق النـاس ودرء المخـاطر، لا في إلحاق الأذى بالآخـرين أو إرهابهم، فهدفه في ذاك النص واضح عندما يوجه خطـابه المباشر إلى الأمة :" أيتها الأمة المرحومة، هذه حياتكـم فـاحفظوها ودماؤكم فلا تـريقوها، هذه روابطكم الدينية لا تغرنكم الوساوس ولا تستهويكم الترهات، ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم واعتصموا بحبل الرابطة الدينية، التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركـي بالعربي بالفارسي بالهندي، والمصري بالمغربي".

من هذا المنطلق وفي ضوء الفروق الموضوعية والسيـاسية القائمة في ذلك الوقت نظر الأفغاني إلى التعصب المعتدل كوسيلة لإنقاذ الأمة، وفسر عناصر التعصب المذموم والمغالاة فيه، وأظهر مساوئها وما تتركه من آثار سلبية.

الريحاني والتساهل الديني..

نص آخر في مطلع القـرن لأمين الريحاني، وهو محاضرة حول التسـاهل الديني ألقاها في جمعية الشباب المارونيين في نيويورك في عام 1900. والريحاني الذي أصبح كاتباً معروفاً بعد رحلاته الشهيرة إلى جزيرة العرب ومؤلفـاته عنها في كتاب " ملوك العرب " الذي ترجم إلى العربية وذاع صيته وكذلك من خلال كتابه الأشهر " كتاب خالد " الذي لقي إقبالاً لدى قراء الإنجليزية. هذا الكاتب الشهير يحدث بعض قومه من المهاجرين عن التسامـح الديني فيقول : " التساهل هو التسامح بوجود ما يخالفك، وهذا تحديد عام أما الخاص فهو إجازة العقائد والطقوس التي تخالف العقائد والطقوس المألوفة. التساهل الديني هو الاعتبار والاحترام الواجب علينا إظهارهما نحو المذاهب المتمسك بها آخرون من أبناء جنسنا، وإن كانت هذه المذاهب مناقضة لمذاهبنـا "ثم يذهب إلى القول : " إن التساهل غير مطلـوب في الأمور الدينية وحـدها بل في كل الأمور التي تطرأ على عقول البشر ويعمل بها الكبار والصغار".

ويقارن الريحاني بذهنية ثاقبة بين التعصب والتساهل فهو يراهما أنهما" ضد انوثنيوية من ثنيويات الطبيعة كالنور والظلمة والخير والشر والعـدل والظلم.. فلولا أحدهما ما كان الآخر".

وفي مقارنة أخرى يقول: " التساهل هو الابن والتعصب هو الأب وليس في العائلة البشرية برمتها أب وابن غير منسجمين إلا هذان الاثنان، فاستعرت بينهما نيران الفتن وحمي وطيس القتال، وكان الفوز أحيانا لهذا وأحيانا لذاك".

وينتقل إلى مجال آخـر من التعصب فيقول : ابتلينا في أيامنا هذه بتعصب سياسي أو دولي - إذا شئتم - لم نر له مثيلا في التاريخ بأسره، فما هذه الحروب التي تشهرهـا الدول الأوربية على الشعوب الضعيفة والصغـيرة إلا نتيجة التعصب الدولي "، ثم يضيف:" التساهل الديني يشمل الآن الدول الأوربية بمعاملاتها مع بعضها البعض ولكنه لا يشمل الشعوب التي يدعوها الأوربيون متوحشة، فالدول لا تتساهل مع هؤلاء المساكين الضعفاء".

ترى ماذا كان الريحاني سيقول لو شـاهد على شاشـة التلفاز الملـون كيف تبقر البطون وتسبى النساء وتهتك الأعراض في البوسنة علي سبيل المثال لا الحصر؟!

ويعود الريحاني من جديد إلى الفكـرة التي ناقشها أديب اسحق وهي محدودية المعرفة الإنسانية ويستشهد - وهو المسيحي الماروني - بكتابات المسلمين كالسيوطي وابن دريد والأصمعي والأخفش وغيرهم الـذين ناقشوا محدودية القـدرة الإنسانية ويروي الرواية التراثية الآتية : ( قال الزعفرافي : كنت يوماً بحضرة أبي العباس ثعلب فسئل عن شيء فقال لا أدري، فقيل : وكيف لا تدري واليك تضرب أكباد الإبل ، فقال : لو كان لأمك تمر بقدر ما لا أدري لاستغنت، سئل "الشعبي " عن مسألة فقال : لا أدري فقيل له : فبأي شيء تأخذ رزق السلطان؟فقال : لأقول فيما لا أدري لا أدري .)

وتتواصل نصـوص الكتاب، المقالات المعاصرة لكتاب يشغلهم نفس الهم وتثيرهم تداعيات أزمة التعصب التي لم تعد تجدي فيها الكلمات.

التاريخ الدامي للتعصب..

كان تـاريخ التعصب هو تـاريخ من كـان يصر دائما على احتكـار الحقيقة واحتكار الحق الأوحد في الحياة والبقاء. وربما كان ما مر في التاريخ البشري من آثار هذه الأزمنة هو بمثابة الإرهاصات الأولية للمجازر التي يشهـدها عالمنا المعاصر، فقد أثبتت الاختلافات الدينية والعرقية أن للثأر ذاكـرة عنيدة لا يمحوها مرور الوقت ولا تبـدل الدول ولا تراكم القوانيـن. كان دائما هنـاك احتكار للحقيقة في وقت التحولات الدينية الكبرى، وكان هنـاك احتكار للبقاء في وقت الأزمات الاقتصادية والمجاعات.. وخلال هذه التحولات القسرية ارتدى التعصب مختلف الأقنعة وزين نفسه بمختلف الشعارات كي يبرر الطغيان الذي تقوم به جماعة ضد أخرى.

ولعل أقدم تاريخ للتعصب الديني يعي إلى مصر القديمة عندما مارسه كهنة آمون سدنة الدين الرسمي ضد المتمردين عليهم من أنصار " آتون "أول دين قديم نادى بالتوحيد . منـذ ذلك الوقت تشكلت ملامح التعصب الديني بـين الذين يحافظون على سطوتهم ومكتسباتهم ويأخـذون من الـدين ستارا للسلطـة، وبين الثائرين الذين يطمحـون إلى التغيير والتجديد . حـدث هذا أيضا عندما ألقى أباطرة الرومان بالمسيحيين الأوائل للأسود الجائعة. ومارسـه المسيحيون الأوربيون بعد ذلك ضد من خـالفهم في العقيدة وأبادوا الهنود الحمر في العـالم الجديد بحجة إدخالهم في الكاثوليكيـة. ونهضت محاكم التفتيش وسط ظلمات العصور الوسطى على أثر سقوط الأندلس لحرق الهراطقـة وإرغام بقايا المسلمين في إسبانيا على التنصر.

وشهد التاريخ الإسلامي في فتنتـه الكبرى أقصى أنواع الصراع المتعصب حين رفعت كل فئـة القرآن على أسنة السيـوف وهي تـزعم أنها وحـدهـا صاحبة الحق المطلق. ومازالت هذه السيوف بشكل أو بآخر مشرعة حتى اليوم.

وقد اتخذت أشكال التعصب الديني طابعاً مؤسسياً ودوليا حـين سارت جيوش الفرنجة تحت راية الصليب كي تحرر الأراضي المقدسة في فلسطين من " الكفرة " ،وشنت فرنسا حملتها ضد رعاياها من البروتستانت المناهضين للمـذهب الرسمي للدولة كي تجلوهم عن أرضهم وتنزع عنهم ممتلكـاتهم. وفعلت إنجلترا العكس فأجلت الآلاف من الأيرلنديين الكاثوليك عن مـوطنهم كي تحل بدلا منهم رعاياها البروتستانت الطيبين.. ودائما كان التعصب الديني قنـاعاً تربض خلفـه تلك الأطماع البشرية التي لا تقنع إلا بالاستيلاء على ما يمتلكه الآخرون.ولم تهدأ أيضا الصراعات التي أثـارها التعصب العرقي بل لعلها كانت أشد عنفا حين اتخذت من الإبادة وسيلة أساسية لتدمر الأخر دون أي فرصة للتقارب بين الأعراق المتناحرة.. ولعل أول تعصب عرقي في التاريخ هو الذي قام به الملك الآشوري بتجلاست في القرن السابع قبل الميلاد حـين قام بترحيل نصف سكان الأراضي التي غزاها ليحل بدلا منهم اقواماً من عرقه تابعين له ومازالت عمليات الصراع العرقي تمارس في نفس المكـان مع الأسف الشديد عنـدما جففت بحيرات الأهواز لتهجـير من يسكنون فيها.. وأبيدت القرى الكردية بـالكيماويات على يد النظام العراقي.

لقد أبيدت بسبب التعصب العرقي حضارات كاملة كانت تمتلكها قبائل الانكاواليوكي والكوماتشي بعد اكتشاف أمريكا على يد الغزاة البيض، وشهـدت أوربا موجات متعاقبة من الصراعات شملت كل الأعراق والجنسيات التي عاشت في دولها وشارك الأتراك أيضا في هـذا التاريخ الدامي عندما حاولـوا إبادة اليونانيين والأرمن والأكراد.

وارتفعت درجة التعصب العرقي إلى أقصى مداهـا مع اشتعال الحرب العالمية الثانية حين أعلن الجنس " الآري " عن تفوقه مؤكداً ذلك من خلال الجيوش الألمانية التي انتهكت كل الحدود وبواسطة أفران الغاز التي حولت أجساد كل من يخالفهم في العرق أو الرأي إلى رماد لم يكن اليهود هم فقـط وقود هذه الأفران . ولكن لا بد أن أثار هذا التعصب الأعمى قد أصابتهم هم أيضا بلعنة العمى فأخذوا يسعون لنيل هذا الثأر من أجساد أطفال فلسطـين الأبرياء .

إبادة واغتصاب..

وبرغم الثمن الذي دفع أثناء الحرب العالمية الثانية فلم تبرأ أوربا بعد من داء التعصب . وما يحدث في البوسنة شاهد على ذلك. فقد امتزجت في هذه الحرب التي تدور رحاها الآن عوامل التعصب العرقي والديني معاً. ومنذ ثلاث سنوات والأعراق التي كـانت تضمها دولة واحدة لوقت قريب تتصارع بلا هوادة فتحرق القرى وتقصف المدن وتبيـد السكـان. إن الصرب الـذين كانوا دوما محاطين بإمبراطوريات كبرى تشل طاقتهم العدوانية قد وجدوا الفرصة أخيرا لتفجير كل هذه الطاقـات بأقصى قـدر ممكن من الغضب ضد بني وطنهم.. فقط لأنهم مخالفون لعقيدتهم.

أضاف " الصرب " لمسـتهم الخاصة لتاريخ الحـروب العرقيـة حين طوروا حرب " اغتصاب النساء ". وقد كانت النساء دوماً من أبرز ضحايا الصراعات العرقية. ولكن هذه هي المرة الأولى التي أقيمت فيها معسكرات خاصة للاغتصاب. وعلى حـد تعبير الجنـدي الصربي بـوريسلان هيراك الـذي تم أسره بواسطة البـوسنيـين: " لقد كان الأمر اليومي هو قتل الجنود واغتصاب النساء .. وكـانوا يكـررون علينا دائما حتى لا ننسى ". وقـد بلغ عدد النسـاء اللائي تم اغتصابهن حـولي 50 ألف امرأة وتم حبس معظمهـن تحت رقـابـة مشـددة حتى لا يجهضن أنفسهن، ولكي يلدن اطفالاً يحملن الـدماء الصربيـة. وهكذا شهد الصراع العرقـي محاولة زرع السـلالة المعاديـة في البطون التي ترفضهـا. وعلينا أن نتخيل صـورة هذا الجيل من الأطفال الـذين جاءوا إلى الحياة قسراً بهذه الوسيلة المروعة. وقد وجـد " الصرب "إنهم أمام العديد من القرى التي لا يجدي مما معها استخدام المدافع في تهجير السكـان فيكون الاغتصاب سـلاحاً أكثر فاعليـة، وهو الدرس الـذي تعلموه وطوروه بعد أن مارسته العصـابات الصهيونية من قبل مع سكان مدينة بئر سبع الفلسطينية.

بقعة ضوء للتسامح ..

وسط هذا الوبـاء من التعصب بكل أشكاله وأنواعه.. هل توجـد بقعة ضوء" للتسامح " ؟.. هل يوجد صوت خافـت في صندوق "باندورا " الذي ألقى علينا كل هذا القدر من الآلام؟. يقول د . حسن حنفي في تفسيره للتسامح : " إنه نقطة البداية للتعامل مع البشر. حين تـوجد أذهان متفتحة تمارس التسامـح من تلقاء نفسها وتشعر بضرورة تجاوزه إلى درجة أعلى . وأكثر درجـات التسامح إيجابية هو أن نترك للشخص حرية التعبير عن آرائه.. "

ولكن التسامح أمر صعب، فـالنفس البشرية التي جبلت على الصراع من الصعب إن تسلم به كحقيقة بديهيـة.فلا يمكن أن تكون متسامحاً وسط مجتمع لا يتسامح معك، أو في مواجهة بيئة طبيعية تناصبك العداء .إن محاولات الفلاسفة والمفكرين لإرساء قيم التسامح هي نفس المحاولات الدءوب لتحويل حياتنا خارج إطار الغابة البدائية التي لا تخضع إلا لقانون البقاء للأقوى . ونحن في أمس الحاجة إلى التسامح، ذلك التسامح القوي، ذلك التسامح الذي لا يتحول فيه قبولنا للرأي الآخر إلى عجـز عن مـواجهته، والتعـايش مع العرقيـة في نوع من الإذعان لسيطرتها.

إن الدين الإسلامي من أكثر الأديان حضاً على التسامح وهو الدين الوحيد الذي يعترف بالأديان التي تخالفه ويطلق على أهلها " أهل الكتاب "إلا أن المجتمع الإسـلامي قد شهد، ومازال يشهـد، صوراً من أسوأ أنواع اللا تسامح التي اقترنت بالعنف الدموي . وكـما يؤكد الدكتور جابر الأنصاري أن المشكلـة أساساً( ليست مشكلـة العـربي والمسلم في التسامح مع غيره بقـدر مـا هي مشكلته أولا وقبل كـل شيء في التسامح مع نفسـه ومع أبناء،جلدته وقومه ودينه، ومنذ القدم والعربي يتألم من " ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة على النفس. ").

إن البيئة تفرض ضرورتها على الناس وتشكل طباعهم . في نظرتنا لمجتمعات التسـامح يجب أن نفرق بين عربيين - على حـد تعبير د . الأنصاري - عرب البيئـة الصحراوية الذين تعـودوا الصراع اليومي من اجل البقاء بحيث يصبح التسامح هنا شيئاً من التهاون في حق الذات وحق الجـماعة. فهناك صراع دائم على الماء والكلأ ورغبة عارمة في الثأر حتى لا تضيع هيبة القبيلة وتهون على الناس. وقـديماً سئل أعرابي : أيسرك أن تـدخل الجنة وتتسامـح مع من أساءا ليك. فقال : بل آخذ ثأري وأدخل النار.

وهناك عرب البيئات الحضرية أي الذين سكنها تجمعات المدن الصغرى في الوديان والـواحات وعلى حـواف الصحـراء وكذلك عـرب الطبيعـة النهريـة التي يتعامل فيهـا الناس مع نهر يمر عليهم قبل أن يمر على غيرهم. وعليهم جميعاً أن يتفاهموا على تقسيم هذه المياه ولا بد أن يسـود بينهم منـاخ من التسامح والتآلف يفرضه انتظار الفيضان ومواقيت الغرس والبذر والحصاد .

إن اقتنعنا بهذا المنطق فإن المجتمع المصري العربي هو أقدم الأمثلة لحضارة النهر التي تؤمن بالتسامح والتكـافل منذ آلاف السنين.. فكيف يمكن أن نجد التبرير لتلك الحركـات المتعصبـة وحوادث العنف التي أصبحت في ازديـاد مستمر والتي تهدد بالانتشار إلى دول عربية أخرى. هل أحدثت الأزمات الاقتصادية والضغوط الاجتماعية والعنت السياسي أنواعا من التشـوهات على تلك الشخصية بحيث جعلها تخرج عن طبيعتها؟ هل تآكلت في داخلها خلايا التسامح التقليدية بحيث أصبحت أضعف من أن تقاوم جرثومة التعصـب فانقادت له.. بل وبالغت في هذا الانقياد ..؟ إنه علامة إنذار خطيرة علينا أن ننتبه لها جميعاً. فطبيعة الوادي الضيق في مصر لم تعد متسامحة كـما كانت وعلينا ألا نأخذ طباع الناس التاريخية نوعا من المسلمات ..بل علينا أن ندرك أن كل شيء قابل للتحول . وللتشوه أيضا.

وطريق التسامح طويل. لا يبدأ فقط من إعادة النظر إلى المسلمات التي تتحكم في سلوكنـا كبالغيـن. ولكنها تبدأ أيضا من مراقبة السلوكيـات العسكرية التي نزرعها في نفوس أطفالنا وتزرعهـا مناهج الدراسة وكـذا وسائل الإعلام . إن حب العرقيـة والاستعلاء قـد يصيبهم بمشاعر من التفوق الزائف بحيث يتعاملون مع الآخرين كأنهم ينتمون إلى جنسيات أو أعراق أقل منهم.

إننا في حـاجة ماسـة إلى مراجعة مناهجنا الدراسية والى استئصال الخطابات الإنشائية الوطنية الساذجة وألا نشجع نمو مشاعر العزل العنصري بين الأطفال من جنسية وجنسية أخرى . كـما أننا يجب أن نحثهم على تفهم الثقافـات الأخرى وتذوق ما فيها من قيم جماليـة وأخلاقيـة. فالتسامح في حقيقته تربية مستمرة .فمشاعر ضبط النفس وقبول الآخر والإدراك بـأننا نعيش في عالم واحـد تشترك فيه الأفكار المختلفة وتتعايش فيه الأعراق والجنسيـات جنبا إلى جنب هو نـوع من التسامي فوق المطـامع والمصالح الضيقة.. إن التسامح يقضي بأن نـرى مصالحنا في إطار مصالح الآخرين .

فالعصاب - كـما قال ابن منظور في لسان العرب - هو الرباط الذي يشد على العين فلا نرى من خلاله إلا الظلام.. ونحن في أمس الحاجة إلى بقعة من الضوء .

لم أكتب ما كتبت كي أقارن فقط بشكل نظري بين التعصب والتسامح ومنزلة هذا وذاك من الفكر والحضارة. بل لأؤكد أن الشجاعة في استخدام العقل هي تحكيم بين الإفراط والتفريط، وأن دعوة التسامح هي الأكثر قدرة والأقوى منطقاً لسبب بسيط وواضح هو أن التعصب يـولـد التعصب والتسامح يولد الألفة والمحبـة والتعـايش.

 

محمـد الرميـحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات