تصوير: طالب الحسيني
فلنبدأ بالاعتذار. فعندما شرعنا ـ أنا وزميلي المصور ـ في الإعداد لرحلة رومانيا لم أكن أعرف الكثير من المعلومات. لم يبق في ذاكرتي إلا اسمان. تشاوشيسكو ودراكيولا. ولا أدري لماذا ارتبطا في ذهني معا برغم بعد الشقة بينهما. ربما لأن كلا منهما كان لغزاً. أولهما كان لغزاً سياسيا حتى بالنسبة لمواطنيه الرومانيين. والثاني مازال لغزاً أسطوريا برغم كل أفلام السينما والروايات والكتب التي ألفت من حوله. وقد تبينت خلال جولاتنا المختلفة في ربوع رومانيا أن حل لغز دراكيولا القديم أسهل بكثير من حل لغز شاوشيسكو الذي كان معاصراً.
خرجنا من الكويت في منتصف الليل. ولم نصل إلى بوخارست إلا مع أضواء الصباح. كان الجو حاراً بطريقة غير عادية بالنسبة لبلد في قلب أوربا. وخرجنا للتجوال في أنحاء المدينة على الضوء. كان السكان قد خرجوا إلى الحدائق العامة، ورقدوا أنصاف عرايا على حواف البحيرات. حوالي مليونين من البشر يسكنون مدينة خضراء متسعة، قليلة المعالم نسبيا. معظم الشوارع فيها محتشدة بالمساكن الخرسانية المتشابهة. بقايا المرحلة الشيوعية عندما كانت هناك رغبة عارمة في المساواة بين الجميع. لايوجد تمايز في البناء أو في أشكال المعمار أو حتى في الارتفاعات. ولكن في وسط هذا الكم المتشابه لدرجة الملل توجد بعض بقايا المدينة القديمة. بصمات من تاريخ عابر. الاحتلال المجري. وقبله التركي وأحلام عصر الاستقلال القصيرة الأمد. كل مرحلة تركت بصماتها. ولكن ضائعة وضئيلة وسط طوفان المد الشمولي الذي ساد رومانيا منذ أواخر الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الثمانينيات.
وبرغم ذلك فقد ظفرت بوخارست باسم "باريس الشرق". ففي واحد من أهم أحيائها يرتفع قوس النصر. مشابه تماما لقوس النصر الشهير وسط شارع الشانزليزيه. فقد أنشئ هذا القوس احتفالا باستقلال رومانيا. وحرص مصممه على نقل خريطة كاملة لقلب باريس بكل مافيها من شوارع بحيث لو وضعت هذه الخارطة على قلب بوخارست لتطابقتا.
وبوخارست مثل العديد من المدن تمتلك مولداً أسطوريا. فذات يوم كان أحد الرعاة يقوم برعي أغنامه على التلال عندما ضلت إحداها ودخلت إلى غابة فاليسيا. وعندما تتبعها الراعي أسرت الغابة روحه بجمالها وأصوات طيورها وبنى له كوخا في نفس المكان الذي وجد فيه الغنمة الضائعة. وحول هذا الكوخ نشأت المدينة. وهي مازالت تحمل روح الغابة في العديد من أحيائها وتجيد إخفاء قلعتها تحت ذلك الهدوء الظاهر في شوارعها.
يقول الرومانيون عن أنفسهم إنهم كانوا جزءاً من سكان روما القديمة، ولكنهم لم يطيقوا نزعتها الحربية فاتجهوا شمالا بحثا عن مكان أكثر أمنا. ولكنهم لم يجدوا الأمان فقد تعرضوا للغزو إثر الغزو.. من التتار والروس والترك والألمان. وقد تعرضت لحركات المد والجزر. فقد كانت أحيانا رومانيا العظمى التي تمتد حدودها من البحر الأسود حتى بحر البلطيق. وأحيانا لم تتعد بضع مقاطعات متناثرة. كانت دائما فريسة أطماع الدول الأوربية الكبرى. وكانت حدودها محل مفاوضات مضنية وهي لاتزال تعتبر ملودافيا حتى الآن جزءاً ضائعا من أراضيها.
ويعيش في هذه المدينة الواسعة خليط من البشر، رومانيون، غجر، أتراك، عرب، أفارقة، صينيون. كما أضافت لها حرب البوسنة والهرسك أعدادا كبيرة من الشحاذين في شوارعها. ومن العرب الذين يوجدون في بوخارست نسبة كبيرة من العراقيين الذين يعيشون في هذا المنفى الاختياري منذ سنوات. وهناك سوق لتجارة الدخان والتبغ لايعمل فيه إلا التجار العراقيون. وقد قابلت العديد من التجار العرب الذين يعمل معظمهم في سوق الأغذية. كما يعمل الصينيون في سوق الملابس. أما اليهود فيحترفون تجارة الإلكترونيات. ويبدو أنه ـ حتى الآن ـ لاتوجد مزاحمة حقيقية من التجار الرومانيين الذين خرجوا من ظل النظام الشمولي، ومازالت خبرتهم بأسواق التجارة المفتوحة محدودة.
"احترس من الغجر" كنا نسمع هذا التحذير في كل مكان، رجال الشرطة، والأصدقاء العرب، وحتى القوادة العجوز التي حاولت استدراجنا، إنهم يمثلون الدرجة الأدنى في المجتمع. وهم شريحة كبيرة يعيشون في مختلف مدن رومانيا وعندما كانت أوربا تطردهم وتقيم لهم المذابح كانت رومانيا تستقبلهم. إنهم يقومون بأعمال النظافة داخل المدن، والحدادة وصياغة الحلي، ومنهم عازفو الموسيقى، ومنهم كثير من الشحاذين. ولغجر رومانيا بالذات ملك متوج وغير رسمي يستمد سلطته العرفية من الذين يؤمنون به.
التاريخ في ميدان واحد
التجوال في شوارع بوخارست يقودنا إلى أهم ميادينها "بيتازا ريفيلوتي" ميدان الثورة، حيث يلخص التاريخ نفسه في عدة معالم أساسية، القصر الملكي، مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والشرفة الشهيرة التي ألقى منها تشاوشيسكو خطابه الأخير، فندق "أثينا" أقدم فنادق بوخارست. مبنى مدمر كانت تحتمي فيه المعارضة ودمر على رأسها. العديد من الشواهد التي تحكي من خلال صمتها الحجري وقائع التاريخ.
تمرق من حولنا سيارات قليلة. معظمها من ماركة "داشيا" النسخة المعدلة التي تنتجها رومانيا من السيارة الفرنسية "رينو12". سيارات قليلة أخرى مختلفة الطرز. ولكن تلفت أنظاري سيارة شفروليه ضخمة ذات أبواب ستة. نوافذها مسدل عليها الستائر ومكتوب عليها اسم أحد كازينوهات القمار. يقول مرافقنا "إنهم إسرائيليون. المقامرة محرمة في إسرائيل لذلك يأتون هنا للعب. وهم يفضلون الانتقال في هذه السيارات المغلقة لدواعي الأمن".. أحسست بالشماتة. أخيراً اكتشفت أن للإسرائيليين نقاط ضعف وتمنيت لو يخسرون على موائد القمار كل أموال المعونة الأمريكية التي يتلقونها.
توقفنا أمام القصر الملكي. كان مغلقا بسبب الترميمات، سيئ الحظ كحال الملكية في رومانيا. ففي العادة كان يفضل أن يحكم البلاد ملك من أصل أجنبي. وذهب رئيس وزراء رومانيا في ذلك الوقت من عام 1866 واتفق مع أمير ألمانيا فعلاً ليكون الملك "كارل الأول". وعندما اختار هذا المكان لبناء القصر لم يكن أكثر من ساحة طينية تلعب فيها الخنازير. وقرر أن يبني قصراً عظيما على النمط الألماني. ولكن القصر احترق عام 1927 وقرر خليفته الملك كارل الثاني أن يقيمه على النمط الكلاسيكي وحرصاً منه على ذلك لم ينس أن يبني داخله ممراً سرياً حتى تتسلل إليه عشيقته اليهودية "ماجدا ليوبيسكو". وقد افتضح أمر هذا الغرام بطبيعة الحال. ولكنه كان من القوة بحيث فضل الملك التنازل عن العرش والذهاب إلى إنجلترا للعيش مع عشيقته. وظلت رومانيا دون ملك لفترة من الزمن حتى سافر رئىس الوزراء إليه وأقنعه بالعودة مع وعد منه ألا يعود إلى عشيقته. وعاد الملك إلى رومانيا وامتلك زمام السلطة من جديد وسرعان ما عزل رئيس الوزراء وأعاد العشيقة مرة أخرى. وقد أثرت هذه العلاقة في مشاعر رجل الشارع العادي في رومانيا وتحولت إلى شعور جارف معاد للسامية استمر حتى الحرب العالمية الثانية. لقد ذهب الملك والعشيقة والنظام وبقي القصر ليتحول إلى متحف وطني للفنون.
أمام القصر يقع فندق "أثينا" الذي كان عام 1912 أول بناء خراساني يقام في بوخارست. تحول هذا الفندق أثناء الحرب إلى وكر حافل بالجواسيس، الـ "كي. جي. بي" الروسية، والجستابو الألماني، والمخابرات الإنجليزية. وكانت الطبقة الراقية الرومانية تقيم فيه حفلاتها الصاخبة في نفس الوقت الذي تقوم فيه الشرطة بإطلاق الرصاص على العمال المتظاهرين من أجل رغيف الخبز في مكان قريب جداً. ومنذ الحكم الشيوعي سخر الفندق كله بكل مافيه من موظفين وأثاث وبنات ليل وعمال نظافة لتقديم تقارير وافية لأجهزة الأمن عن كل الضيوف المهمين الذين يزورون رومانيا.
وإلى الشمال يوجد مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي سابقا، سقطت من عليه النجوم الحمراء وأصبح مقراً لجبهة الخلاص الوطني التي مازال البعض يعتقد أنها الحزب الشيوعي بعد أن أخذت اسما آخر. في مقدمة المبنى توجد الشرفة الشهيرة التي ألقى منها تشاوشيسكو خطابه الأخير.
لدهشتي كانت الشرفة قريبة من الأرض لحد غير آمن. ولا أدري كيف استطاع حاكم متسلط مثله أن يواجه جمهوراً غاضبا وحانقا وهو ليس بعيداً عن متناول يده. كانت آثار طلقات الرصاص التي استهدفته أثناء الخطاب مازالت غائرة في الجدران. من نفس هذاالمكان وقف تشاوشيسكو في أواخر الستينيات ليعلن إدانته للغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا ويدشن نفسه زعيما شيوعيا مستقلا عن موسكو. وقد اعتبره الجميع سواء داخل رومانيا أو في دول الغرب رجلا جديراً بالإعجاب. ومن المؤسف أنه بعد عشرين عاما لم يستطع إعادة نفس المشهد من فوق نفس الشرفة.
سقوط النسور
إن سقوط نيكولاي والينا تشاوشيسكو أشبه بتراجيديا إغريقية كاملة. فحتى صباح يوم 21 ديسمبر 1989 لم يكن يصدق أن نظامه على وشك الانهيار. وبرغم المظاهرات وإطلاق الرصاص والعصيان المدني وانضمام قطاعات من الجيش إلى الجماهير. برغم هذا كله وقف على الشرفة أمام حشد مكون من 80 ألف شخص يصرخون "تي ما شارا" منادين بسقوطه. وقد بدت مشاعر الصدمة والخوف على وجهه ونقلها التلفزيون إلى كل أرجاء رومانيا لمدة 8 دقائق قبل أن ينطلق الرصاص وينقطع الإرسال.
كان الجميع ـ ما عدا تشاوشيسكو ـ يدركون أن هذه آخر ليالي النظام. فقد خف الزحام في الميدان لتعود الجموع أكثر وأشد في اليوم التالي. لقد ضمنت تأييد الجيش لها وبرغم ذلك ظل تشاوشيسكو داخل المبنى حتى منتصف النهار قبل أن تهبط طائرة عمودية إلى سطح المبنى ويخرج منها الجنود الذين ألقوا القبض عليه واقتادوه إلى سجن بلدة "تيرجوفتشا" حيث تم إعدامه دون محاكمة يوم عيد الميلاد.
كانت مقتلته سريعة ومثيرة للحيرة حتى الآن. لماذا لم يحاكم؟ لماذا لم يسمح له بالدفاع عن نفسه؟ لماذا لم يحاول أحد أن يعرف فيما كان يفكر؟ كان هم قادة الثورة هو التخلص منه أولا وقبل كل شيء. وفي الواقع كانت هناك رغبة حارقة لقتله، فقد تقرر أن يقوم أربعون جنديا، يكونون فصيل الإعدام بهذه المهمة، وتطوع أضعاف هذا العدد. بل إن بعضهم أحضر الوسطاء للقادة حتى يسمحوا لهم بالمشاركة في إطلاق النار. وظل هو واقفاً غير مصدق، حتى والرصاصات تخترق جسده.
شعرت الجماهير بالغضب بعد ذلك حين اكتشفت أن الذين قاموا بالثورة وعلى رأسهم "لازالو" هم من الحرس الشيوعي القديم، وأن خطة التخلص من تشاوشيسكو قد وضعت بالفعل قبل ذلك بشهور. وأن الذين أطلقوا الرصاص عليه أثناء الخطاب كانوا من رجال الأمن. وفي النهاية شك الجميع ـ ومازالوا ـ في أن هناك مؤامرة دولية اشترك فيها الأمريكيون والروس والمجريون. |
والنظرة تختلف الآن بعد أكثر من سبع سنوات على هذا السقوط المأساوي. لقد هدأت حدة الثورة وأخذت الديمقراطية مجراها وانتخب رئيس جديد للجمهورية ولكن هل تغير الوضع كثيراً؟ قالت لنا إدنيا وهي فتاة شابة في الرابعة والعشرين من عمرها: "إنها الحرية. كل شيء كان ممنوعاً تقريبا، لم يكن التلفزيون يفتح إلا لمدة ساعيتن في اليوم، والأفلام التي يعرضها قصيرة ومشوهة. لقد دهشت عندما شاهدت فيلما كاملا للمرة الأولى، ليس لموضوعه أو لما فيه من قبلات ولكن لأنه كان طويلا لحد لم آلفه من قبل".
لم يكن التلفزيون فقط هوالمحدد المدة. كانت الإضاءة مقيدة والخدمات العامة وأي مظهر من مظاهر الترف، حتى نافورات الميادين كانت تعمل لمدة قصيرة، فقد انتاب تشاوشيسكو هوس قاس في تخليص رومانيا من كل ديونها الخارجية في زمن قياسي. وقد ألقت إجراءات التقشف التي اتخذها بظلالها على كل نواحي الحياة. لم تعد هناك متعة. أو حياة خارج جدران البيوت. لم يبق إلا مشهد الطوابير الطويلة وهي تقف أمام المحلات ذات الأرفف الخالية تبحث عبثا عن كيس من الزبد أو قطعة من اللحم.
ولكن السيدة كونستانين معلمة التاريخ في إحدى مدارس العاصمة تقول: "قبل الثورة مباشرة كان راتبي قد وصل إلى الحد الأقصى في جدول المرتبات ولو أن الثورة تأخرت قليلا لتمكنت من الحصول على سيارة. ولكن هذا الراتب الآن لايكفي فواتير الماء والكهرباء".
لم يكن ثمن الحرية فقط هو اشتعال الأسعار. ولكن ازدياد حدة الفروق بين الطبقات بصورة لم يألفها الرومانيون طوال أكثر من ثلاثين عاما. فقد كان مستوى الرواتب محكوما بشدة. لاتزيد النسبة بين أدنى راتب وأعلى راتب عن 1 إلى ،18 أما الآن قد انفلت العيار وخضع كل شيء لآليات السوق وأصبح حلم الحصول على السيارة ـ والتي كان يتم الحصول عليها بالدور ـ أمرا شديد الاستحالة.
ويؤكد لي أنتوني ريفيولنو وهو شاب من مدينة كونستانتا الساحلية غاضبا: "لقد كان رئىسا من الدرجة الثالثة، فقد كان قبل أن يرتفع لقمة السلطة صانعاً للأحذية. ولم ينس ذلك أبداً. لم تكن لديه أي فكرة أصيلة ولم يكف عن السعي خلف أفكار الآخرين".
يتحدث العديد من الرومانيين عن عام 1971 كعام فاصل في فكر تشاوشيسكو واتجاهه إلى ذروة الشمولية. فقد عاد في هذه الفترة من زيارة طويلة قام بها إلى كوريا الشمالية هو وزوجته إلينا وعاد مبهوراً بالعاصمة "بيونج يانج" التي أقامها كيم إل سونج بشوارعها الواسعة ومبانيها الحكومية الضخمة. وقرر أن يعيد تشكيل بوخارست على هذا الغرار لتكون "العاصمة الاشتراكية الأولى للإنسان الاشتراكي الجديد" وأصدر أوامره ببناء أضخم مبنى يجمع كل الوزارات في رومانيا "كرمز يجسد عصر التنوير الذي نعيش فيه منذ عقدين من الزمن".
في قلب بوخارست وقفت أنا وزميلي المصور مبهورين أمام هذا المبنى الضخم والحي الذي يحيط به. كان هذا هو "الكازاببيولي" أو قصر الشعب الذي مات تشاوشيسكو قبل أن يتم بنيانه. واجهته ممتدة إلى 270 متراً وارتفاعه 86 متراً. وهو أيضا أحد الألغاز في تفكيره. فقد بدأ بكل همة في هدم المنطقة القديمة في قلب بوخارست بدعوى أنها تحتوي على مساكن آيلة للسقوط بسبب الزلزال الذي ضرب المدينة.
وفي الحقيقة فقد تمت إزالة 9 آلاف مسكن كانت في حالة جيدة وطرد 40 ألف ساكن كانوا فيها إلى مناطق خارج المدينة. وبني قصر الشعب وأحيط به عشرات المساكن الضخمة المتشابهة التي يسكنها رجال الدولة.
كان "الكازاببيولي" الذي بدأ العمل فيه عام 1980 مكونا من 1100 غرفة. وهو بذلك يعد ثاني أضخم مبنى في العالم بعد البنتاجون الأمريكي. مكون من 12 طابقاً فوق الأرض وأربعة تحتها. يحتوي على بهو اتساعه 100 متر مربع ويضم 4500 من الثريات المطلية بالذهب وكان من المفروض أن يصل عددها إلى 11 ألفا. وهو مكسو بالرخام، والسجاد لون السقف. وكان تشاوشيسكو يتدخل شخصيا في كل التفاصيل حتى أنه أمر ببناء وهدم درج يؤدي إلى أعلى ثلاث مرات. بل وتدخلت زوجته أيضا في بناء الأجزاء الملحقة بالقصر. ولم ينس أن يصنع في أسفله مخبأ ضد القنابل النووية، ويقال إنه صنع عدة أنفاق تؤدي إلى خارج بوخارست.
هذا القصر يمثل الآن مشكلة معقدة. فحتى الآن لم يكتمل تشييده من الداخل وجزء صغير منه يحتله البرلمان. وبقية الأجنحة فيه معقدة من الصعب هدمها وتعديلها كما أن الإشراف عليه وتكاليف صيانته مرتفعة، هل يتحول إلى فندق؟ هل تقبل شركة أجنبية تأجيره، ماذا يمكن أن يكون بالضبط؟
قلعة أمير الظلام
غادرنا بيت تشاوشيسكو.. إلى بيت دراكيولا
كان الطريق يمتد إلى مقاطعة ترانسلفانيا الشهيرة وسط الغابات والتلال المتتابعة. ومن بعيد تلوح قمم جبال "الكاربثان". اسم المقاطعة بالرومانية يعني ماخلف الغابة. ومن الغريب أن الشهرة التي ظفرت بها لاتمت للواقع بصلة، فقد استمدتها من خلال رواية الكاتب الإنجليزي "برام ستوكر" التي كتبها عام 1897 بعنوان "دراكيولا.. أمير الظلام". إنها رواية تجمد الدماء داخل العروق. وقد ساهمت هوليوود في بقاء الأسطورة حية طوال هذه المائة عام. وقد قمت بإحصاء الأفلام التي تم إنتاجها حول شخصية دراكيولا فأحصيت أسماء 20 فيلما تتكرر في عناوينها كلمات الدم والقتل والظلام كسمات أساسية ملازمة لشخصية دراكيولا.
ولكني اكتشفت خلال الرحلة أن دراكيولا هو عنصر بسيط من عناصر الإثارة في هذه المقاطعة، فهي مليئة بالغابات المظلمة التي تسكنها المدينة المتوحشة، والأودية المنخفضة التي يرقد فيها الضباب، والمدن التاريخية التي تنتمي لأيام الساكسون والمجر. والأعراق المتنوعة من ألمان ومجر وغجر ورومانيين. كل هذا خلق فيها تنوعاً ثقافيا وجغرافيا.
على مدى البصر امتدت التلال الخضراء. يتناثر فيها الرعاة بزيهم التقليدي كما تعودنا عليهم في الحكايات الشعبية. أما الفلاحون فقد كان معظمهم من العجائز. عندما توقفنا وسألنا أحدهم قال بلا مبالاة "الأرض لم تعد تجدي شيئا لذلك فضل الشباب الهجرة إلى بوخارست. لقد انهارت المزارع التعاونية ولم نجد البديل بعد".
بعد ساعتين من الرحيل المتواصل نتوقف في أولى مدن المقاطعة "سيناي" أو بالأحرى اسمها الأصلي سيناء. فقد اشتقت هذا الاسم من مصر عندما أحضر أحد الحجاج صخرة كبيرة من جبل سيناء وبنى حول هذه الصخرة كاتدرائىة كبيرة سرعان ما انتشرت المدينة حولها.
إنها لؤلؤة جبال "كاربثيان". يوجد فيها القصر الملكي الذي بناه كارل الأول على الطراز الألماني. هذا القصر شهد أيام حزنه هو وزوجته على وفاة ابنته الوحيدة. في ساحة القصر تمثال له بزيه البروسي، وتمثال لزوجته بعد أن أقعدها الحزن وأصابها الشلل وهي ترفو ثيابا لطفلة غابت بلا عودة.
ننحدر مع الوادي إلى ثاني أكبر مدن رومانيا، "براشوف" ولعل هواة الأغاني الحديثة يعرفون هذا الاسم جيداً، ففي كل عام يقام فيها أكبر مهرجان لأغاني الشباب من كل أنحاء العالم، ويفد إلى المدينة التي لم تتخل عن طابعها السكسوني القديم آلاف الزوار. وقد ولدت هذه المدينة من أصل مستعمرة أقام فيها الجنود الألمان للدفاع عن المقاطعة ومازالت تحتفظ بشوارعها الضيقة المرصوفة بالأحجار الضخمة وأبراج الحماية والكنيسة القديمة التي تشبه القلعة. وقد ظلت إلى وقت قريب غالبية سكانها من الألمان ولم يغادروها إلا بعد أن وصل الشيوعيون إلى الحكم.
نعبر براشوف بسرعة لأن لدينا موعداً آخر يجب أن نصل إليه قبل أن يحل الظلام، موعدنا مع دراكيولا داخل قلعته الشهيرة في مدينة بران.
في الرواية يصل السائق إلى حد معين من القلعة ثم يرفض التقدم بعد ذلك. ولكننا توقفنا أسفل القلعة تماما حيث يوجد زحام السياح والباعة. الهدايا التذكارية والملابس كلها تحمل طابع دراكيولا، أسنان بارزة، ودماء سائلة وخفافيش سوداء. هناك شغف بكل مايثير الرعب ويكشف عن الأعماق المظلمة للإنسان.
نبدأ رحلة الصعود الشاقة إلى القلعة السامقة فوق التل، الغابة المظلمة تحيط بنا من كل جانب، والريح تمرق من خلال الأشجار مصدرة أصواتا مرعبة. هذا هو مسرح أحداث الرواية. ولكن القلعة تختلف عن كل الأفلام التي صورت عنها. كل واحد منها صنع قلعته الخاصة التي تثير رعبه. ولكن هذه القلعة بنيت عام 1377 وهي تتحكم في طرق التجارة لبقية المقاطعات المحيطة وفي أسفلها تبدو مدينة بران الصغيرة بأبراجها المرتعدة في مواجهة صخور الجبل كأنها تنتظر نهوض دراكيولا من إغفاءته.
يقودنا التل إلى درج القلعة الضيق المتآكل. لقد أعيد تجديدها أكثر من مرة. يقال إن أهالي بران حين عجزوا عن دفع تكاليف صيانة هذه القلعة قرروا إهداءها إلى الأميرة ماري زوجة الأمير فرديناند عندما كان ولي عهد رومانيا. كانت من أصل إنجليزي، روح طليقة تهوى المروج والصيد، لذلك فقد كرهت حياة البلاط المقيدة في بوخارست وقبلت الحياة في هذه القلعة بعد أن انفقت كثيرا من الأموال على إعادة تجديدها. لم تبال بالموقع المنعزل، لا بأصوات الغابة المرعبة أثناء الشتاء، ولا بليالي الوحدة الطويلة مع أضواء الشموع. ولكنها انطلقت تركب الجياد. وتشارك في الاحتفالات المحلية وتقوم بالصيد ولم يظهر لها مصاص الدماء في أي يوم من الأيام.
وبغض النظر عن وجود دراكيولا أم لا، فالقلعة بسراديبها والغرف الواطئة السقف والدرج الملتوي الذي لايعرف أحد متى يبدأ وأين ينتهي، كل هذا مثير للرعب. وكان تشاوشيسكو قد أصدر أوامره برد الاعتبار إلى الأمير فالد دراكيولا ومحو صفة مصاص الدماء السيئة عنه. لذا فقد تم تصويره داخل الكتب المدرسية باعتباره بطلا قوميا ساهم في رد الترك عن رومانيا. وبرغم هذه الصورة الإيجابية فلم تكن فكرة جذابة. من وجهة نظر السياحة على الأقل، لذلك فقد لجأ أهالي بران إلى ملء القلعة بالخفافيش والأوتاد ومشاهد مص الدماء والأنياب البارزة. بل ووضعوا في أحد غرف القصر تابوتا مغلقاً يشبه تابوت دراكيولا كما يظهر في السينما وفي لحظة معينة يتحرك الغطاء وتبرز من تحته يد معروقة شاحبة كيد الموتى.
وكانت الحيلة من البراعة بحيث كان يغمى على الزوار. وأصيبت أكثر من سائحة أمريكية بأزمة قلبية، وتحولت حيل الجذب السياحي إلى مأساة الأمر الذي جعل المسئولين يضطرون إلى تنظيف القلعة من كل هذه التفاصيل وليعتمد كل من يزورها على خياله.
من الذي يمص الدماء؟
ومن الغريب أن برام ستوكر الذي قام بتأليف "دراكيولا" لم يشهد هذه القلعة. ولم يقم بأي زيارة لرومانيا. فقد استقى كل المعلومات التي ضمتها روايته من صديق روماني تعرف عليه في بودابست. وقد أثاره ما قصه عليه من أساطير مصاص الدماء المنتشرة في أنحاء ترانسلفانيا. وحين عاد إلى إنجلترا عكف على دراسة جغرافية المكان، ومعالم الرحلة المفترضة من لندن إلى بران. وقد قام أستاذ جامعي من أصل روماني مقيم في الولايات المتحدة بزيارة خط سير هذه الرحلة على الواقع ووجد أن "ستوكر" كان دقيقاً إلى حد كبير.
عاش الأمير فالد دراكيولا الحقيقي في الفترة من 1431 إلى 1476 وكان حاكما لولاية "والاهيا". وقد خاض حياته في معارك لاتهدأ ضد الأتراك القادمين من خارج الحدود، وضد نبلاء الساكسون الذين كانوا يناوئونه داخل الحدود. وقد انتشرت شهرته في أوربا من خلال الكتيبات التي كان يوزعها الباعة في أوربا مع بداية انتشار الطباعة. ولم تكن شهرة مصاص الدماء قد غلبت عليه، ولكن شهرة القسوة بالتأكيد كانت معروفة.
تأثرت حياته وهو صغير بفترتين أساسيتين، أولاهما تلك السنوات التي قضاها كرهينة في بلاط السلطان العثماني. فقد أرسله أبوه الذي كان حاكما لولاية والاهيا هو وأخاه رادو ليكونا رهينتين عند السلطان إثباتا من الأمير لحسن نواياه وهو إجراء كان معروفاً في هذا الزمن. قضى في الأناضول خمس سنوات وعندما مات أبوه وحان وقت عودته ليكون أميراً اكتشف مؤامرة وضعها نبلاء الساكسون لقتله. واضطر للهرب ليعيش منفيا في مولدافيا ليحيا فيها لمدة أربع سنوات أخرى.
وقد شكلت هذه السنوات التسع شخصيته فأصبح أميل إلى القسوة والمغالاة في الانتقام، وعندما أصبح أخيراً حاكما لوالاهيا كانت طريقته في تطبيق القانون بسيطة جداً. الموت هو العقاب المناسب لكل أنواع الجرائم خاصة التي كانت تعصي سلطة هذا الأمير. أما وسيلة الموت فهي الخازوق حيث يدخل خابور من الخشب في مؤخرة الضحية ويرفع عاليا حتى يرى الجميع العقاب الذي حل به.
كان دراكيولا مبالغا أيضا في استنزاف الضرائب الباهظة من أجل حروبه التي لاتهدأ، وكانت سمعته كافية لرعب أي شخص. وعندما اشتكى إليه الأجانب من انتشار اللصوص وضع إناء ذهبيا بجانب إحدى النافورات ولم يتجرأ أحد على الاقتراب منه أو سرقته.
وكانت أشهر المذابح التي قام بها في عيد الفصح من عام 1459 أنه دعا كل النبلاء الذين كانوا يناوئونه هم وأسرهم للاحتفال بالعيد في قلعته. وعندما لبوا دعوته اعتقاداً منهم أن هذه دعوة للمصالحة قبض عليهم جميعا ووضعهم على مكانه الأثير.. الخازوق.
كل هذه الأفعال جعلت حدة العداءات ترتفع من حوله. وقد عانى منه أمراء الساكسون الأمرين عندما قطع قوافل تجارتهم التي تمر عبر بلاده وهاجم قراهم فقتل من فيها من رجال وأحرق كل مافيها من منازل. ولم يشفع له أنه قد استطاع في نفس هذه الفترة إيقاف الجيش العثماني الذي استطاع عبور الدانوب بقيادة السلطان محمد الثاني. اجتمع النبلاء وزوروا وثيقة تثبت أنه متعاون مع الأتراك وأنه اتفق مع السلطان على تسليمه مقاطعة ترتسلفانيا. وقد صدق إمبراطور النمسا هذا الأمر وعزله من منصبه وولى أخاه رادو بدلا منه. واكتملت المؤامرة حين أوقع به النبلاء الساكسون وقطعوا رأسه وأرسلوه إلى السلطان.
لم يعرف أين دفن دراكيولا. وعندما فتحوا القبر الذي كان يعتقد أنه مدفون فيه وجدوه خاليا. ولعل هذا الأمر إضافة إلى شهرته القاسية هي التي ولدت في الأذهان أسطورة مصاص الدماء وقد روج لها أعداؤه من النبلاء الساكسون ونشروها بين الجميع. وهم لم يفعلوا أكثر من استثمار حكايات الفلكلور الشعبية التي كانت واسعة الانتشار في شرق ووسط أوربا. قد تختلف بعض التفاصيل من مكان لآخر، ولكن جوهرها لايتغير. فمصاص الدماء هو جثة لاتعرف الموت ولايصيبها التحلل مهما طالت مدة بقائها في القبر. ويحدث هذا عندما يموت شخص، وتضل روحه وتعجز عن الدخول إلى ملكوت السماء أو حتى إلى الجحيم. ربما لأنه مات وهو خاطئ، عندما ينتحر أو يهرطق. ويعتقد الرومانيون أنه عندما يشنق الشخص ترغم الروح على الخروج من أسفل القدم وبذلك تضل طريقها. كما أن المرايا داخل المنزل يمكن أن تصيد الروح.
ولابد أن جذور هذه الحكايات تعود إلى زمن الإقطاع الأول وإلى عشرات النبلاء الذين كانوا يهبطون من قلاعهم العالية ليسلبوا من الفلاح المحاصيل التي تعب في جمعها والبنات العذراوات. ويجزم البعض أن عناقيد الثوم عندما تعلق على أبواب البيوت هي وحدها الكفيلة بإبعاد مصاصي الدماء. وتضع بعض القرى الأطفال الصغار حال ولادتهم وسط عناقيد الثوم حتى تحميهم إلى أن يصبحوا في سن التعميد.
وهناك عشرات الحكايات المتداولة عن الذين رأوا مصاص الدماء وهم يتجولون في شوارع القرى وسط الظلام. وهي أشبه بحكايات العفاريت والجن التي تنتشر بيننا.
وقد لصقت كل هذه الصفات بالكونت دراكيولا الذي لم يترك خلفه سمعة طيبة. وقد صدقها بسطاء الناس. فلم يتصوروا أن يكون هناك شخص بمثل هذه القسوة وتهجع روحه في قبرها وتجد لها مكانا في ملكوت السماء.
ماما.. ميا
خرجنا من قلعة أمير الظلام بحثا عن الشمس. بعيداً عن أساطير الرعب ومص الدماء، ركبنا القطار واتجهنا شرقاً إلى كونستانتا على شاطىء البحر الأسود. إنها ميناء رومانيا الأول التي تقع وسط الدلتا التي يكونها نهر الدانوب.
السهول تمتد أمامنا والنهر الأزرق يمتد وهو يجتاز مرحلته الأخيرة. هنا المصب بعد رحلة استمرت 3 آلاف كيلو متر اجتاز فيها سبع دول أوربية. وجاء إلى هنا حاملا كمية كبيرة من الطمي تراكمت عبر آلاف السنين كي تكون أرض الدلتا التي لانظير لها ويكفي أنه يوجد بها 300 نوع من الطيور لايوجد مثلها في أوربا.
عند قرية "سرنافودا" يتوقف القطار ليلتقط أنفاسه. نطلع عبر الجسر الحديدي الذي يعتبر أطول جسر في أوربا وبعد قليل ينحرف النهر قليلا لتبرز المفاعلات الخمسة التي تكون المحطة النووية. لقد بنيت بطبيعة الحال في عهد تشاوشيسكو صاحب المشاريع العظيمة، والأخطاء الأعظم. وهي تطل على النهر مباشرة. ومن حسن الحظ أن مفاعلا واحدا فقط من المفاعلات الخمسة هو الذي يعمل. ولا أحد يعلم هل ينجو منه النهر أم لا؟
لقد أطلق على هذا الجزء من النهر اسم المياه السوداء بسبب اختياره كموقع لبناء المفاعل. وقد وضعت تصميم المفاعل شركة كندية متخصصة وذهب تشاوشيسكو بنفسه إلى كندا للإشراف على إتمام الاتفاق عام ،1985 ولكن بعد فترة من العمل أخذ ينتقد مهندسي المشروع بشكل علني بحجة أنهم يستهلكون كميات كبيرة من الأسمنت. واضطر المهندسون الكنديون للانسحاب وأكمله الرومانيون، وكانت النتيجة أن مفاعلاً واحداً فقط هو الذي كان صالحاً للعمل.
ولايمضي القطار بعيداً عن سرنافودا حتى يتغير شكل النهر وينحرف بعيداً لتخرج منه قناة واسعة ومستقيمة. إنها قناة الموت كما يطلق عليها، إنها قصة أخرى جديرة بأن تروى عندما يحين مكانها.
يتوقف بنا القطار في محطة كونستانتا. خليط من الزحام والبشر. ألوان من كل جنسيات الأرض. الفرق كبير بين الضجيج والزحام هنا والهدوء الذي يسود بوخارست. المئات يقصدون هذه المدينة في كل يوم. التجار الذين يريدون إخراج بضائعهم من الميناء الرئيسي، وعشاق الراحة والاستجمام الذين يقصدون منتجعات البحر الأسود. نبحث وسط الزحام عن سائق سيارة يجيد الإنجليزية لايغالي في أسعاره ليكشف لنا معالم المدينة. لا أحد هنا يأبه بالعملة المحلية. يفضلون التحدث بالدولار ويحملون في جيوبهم رزما من ملايين "الليو" المحلية على استعداد لتغييرها في أي وقت.
كونستانتا خليط من العمارة التركية واليونانية مع بعض الحفريات التي تدل على أصلها الروماني. أطلال مدينة تومي القديمة. وبالقرب منها تمثال صغير للشاعر أوفيد ومن على مبعدة ترتفع مآذن أحد المساجد.
نتوقف أمام تمثال أوفيد. قائمة حجرية مكتوب عليها أبيات شعر باللغة اللاتينية. لعلها تشكو عن أحزانه في هذا المنفى. كان أوفيد هو أكبر شعراء الإمبراطورية الرومانية، ولكنه أغضب الإمبراطور أوجتس في القرن الثامن بعد الميلاد عندما كتب "فن الحب" الذي عد من الكتب الإباحية في ذلك الوقت. وعبثا اشتكى أوفيد من بعد المنفى ومن شمسه الحارقة. لم يكتشف أبداً مافيه من جمال فالمنفى يبقى دائماً منفى.
نواصل السير في الشوارع المنحدرة. نقصد إلى المسجد الذي رأينا مآذنه. هناك أكثر من مسجد في المدينة. كانت كلها مهملة، ولم يبدأ الاهتمام بها إلا أخيراً. أحدها وهو مسجد "كوفنان" قام بترميمه وإعادة افتتاحه تاجر لبناني يدعى محمد علي عمر على نفقته الخاصة وتقيم فيه الجالية المسلمة في المدينة صلواتها.
على باب المسجد تطلب منا المرأة العجوز أن ندفع رسما للدخول. فالمسجد مفتوح للسياحة ولكنها حين تعرف أننا مسلمون تسمح لنا بالدخول مجانا وترفع كل الأحبال أمام باحة المسجد حتى تسمح لنا بالاقتراب من المحراب.
أجزاء المدينة الأخرى تغري بالمزيد من التجوال. البحر الأسود متألق تحت الشمس. النوارس تدور فوق مياهه عبثا بحثا عن طعام. فجوف البحر المظلم لايسمح بازدهار أي نوع من الثروة السمكية. ومن هذا جاء السواد إلى اسمه. حول شاطئه تتناثر المنتجعات التي تستقبل كل المرتجفين من برد أوربا، والذين ينشدون الدعة والاسترخاء. وقد شقت هذه المنتجعات وسط الغابات السوداء وأخذت أسماء كل آلهة الأولمب. ويقول لنا مدير منتجع بنتون ساخراً "لقد أمر تشاوشيسكو ببناء هذه المنتجعات في ظرف خمس سنوات دون أن يفهم ماذا تعني هذه الأسماء".
في الجانب الآخر من المدينة يبدو أجمل هذه المنتجعات وأشهرها "ماما..ميا" الذي يبعد عن تونستانتا عدة كيلو مترات فقط. الجميع يقصدون هذا الشاطىء الرملي الناعم الأبيض الذي تغطيه أشجار الزيتون ويسترخي الماء أمامه ناعما دون أمواج. تقول الأسطورة إن الآلهة هي التي خلقت هذا الشاطىء حتى تمكن الأم المسكينة من أن تنقذ ابنتها التي كانت ضائعة وسط البحر وهي تصرخ "ماما.. ميا" وقد احتفظ الشاطئ بذكرى ذلك النداء.
قناة الموت
نتوقف عند جنوب كونستانتا أمام الفتحة الرئىسية التي تربط نهر الدانوب بالبحر الأسود. إنها نهاية قناة الموت التي كنا قد شهدنا بدايتها ونحن في القطار. الآن أصبحت الصورة كاملة حول هذا المشروع المحير. لقد بدأ كحلم، وانتهى بمأساة. وأصبح خطأ آخر يضاف إلى أخطاء تشاوشيسكو العظيمة.
بدأت فكرة المشروع بربط نهر الدانوب بالبحر الأسود حتى يمكن للملاحة البحرية أن تخترق قلب أوربا لمسافة 3 آلاف كيلو متر حتى ميناء روتردام الهولندي لتوفر كيمات كبيرة من الوقت والجهد والطاقة.
وفي الحقيقة فقد بدأ العمل في المشروع قبل تولي تشاوشيسكو السلطة بفترة طويلة. فقد أقره الشيوعيون فور توليهم السلطة في عام 1949 واعتبر أن هذا هو المشروع البطل الذي سوف يثير التحدي في نفوس الطبقة العاملة ويرفع من وعيها. وكان الهدف منه حفر قناة طولها 60 كيلو متراً أي أنها أطول من قناة السويس بحوالي خمسة كيلو مترات. وكتب الشاعر بيترو دمترو ديوانا كاملا مليئا بالأغنيات لهذا المشروع الذي سوف يحول الفلاحين المتواضعين إلى بروليتاريا واعية. وقد أعلن هذا الشاعر فيما بعد عندما تم إقصاؤه عن الحزب في عام 1960 أن هذا المشروع لم يكن إلا "قناة الموت".
لقد فرض العمل الإجباري من أجل حفر القناة. وهو أشبه بنظام "السخرة" الذي فرض في مشروع قناة السويس. وأرغم على العمل في قناة الدانوب لمدة ستة شهور كل من قبض عليهم دون محاكمة. ثم سيق إليه مئات من الفلاحين الذين رفضوا الامتثال لأوامر التجميع في المزارع الحكومية.
ثم عوقب أقاربهم وسيقوا إلى العمل. وحتى الذين فروا تم القبض على أقاربهم وتم أخذهم للعمل بدلا منهم. وقد مات في حفر هذه القناة حوالي 100 ألف مواطن سيقوا إلى هذا المكان بالإكراه.
وفي عام 1953 أي بعد أربع سنوات من بدء المشروع اكتشف أن الطريق الذي أختير لتمر منه القناة هو طريق خاطئ. فقد كانت تعترضه تلال "كانرا" التي يبلغ ارتفاعها 84 متراً وبدا أن مواصلة الحفر واختراق هذه التلال هو ضرب من الجنون. وتعطل المشروع لمدة عشرين عاما حتى قرر تشاوشيسكو معاودة إتمامه مرة أخرى بعد أن غير نمط السير بعيداً عن التلال وأصبحت المسافة أكثر طولا.
لم ينته هذا المشروع إلا منذ أربعة أعوام أي في عام 1993 بعد أن فقد الكثير من أهميته. فقد انهارت يوغسلافيا وانفصلت تشيكوسلوفاكيا واعترض المدافعون عن البيئة ضد دخول السفن الضخمة الدانوب وتلويثه أكثر مما هو، وكذلك إقامة مشروعات أخرى على نهر الراين، كل هذا حطم من أحلام تشاوشيسكو باختراق منتصف أوربا ولم يحمل المشروع إلا 10% من الطاقة المخصصة له. على أي حال فلم يعد تشاوشيسكو موجوداً.
ولاتنتهي الجولة داخل رومانيا بكل مافيها من أحلام ومتاعب. لم يكن مايهب عليها تلك الموجة الحارة فقط. ولكنها رياح التغيير التي لم تهدأ بعد. الغلاء مازال يتصاعد. والمصانع التي تقادمت تحاول أن تواصل العمل في ظل ظروف المنافسة الصعبة ولكن أهم مافي الأمر أن الديمقراطية قد ترسخت وخاضت البلاد انتخابات حرة. والأهم من ذلك أن دراكيولا قد مات. ولن ينهض من قبره مرة أخرى.