إحياء الآثار التاريخية لجذب تيارات السياحة العالمية سامي منصور

السياحة بقدر ما هي صناعة في عالم اليوم، فهي بالدرجة الأولى فن. وأهم مواصفات الفن ليس فقط الجمال، ولكن الإبداع. والجمال يصبح في هذا الإطار مسألة نسبية أو وجهة نظر، فالمهم هو الإبداع والتجديد المبتكر.

لا يكفي أن تملك آثار الدنيا حتى تأتي إليك السياحة، بل ربما لا تملك منها شيئًا وتأتي إليك تيارات كاسحة من أفواج السائحين.

ودون نقد أو إساءة تقول الأرقام مثلاً إن دولة مثل مصر على سبيل المثال فقط تملك من الآثار والطبيعة ما لا تملكه دولة غيرها في العالم، ومع ذلك فهي لم تستطع أن تجذب أكثر من 1.5 مليون سائح فقط.

بينما دولة مثل سنغافورة - وهي مجرد جزيرة صغيرة، لا تملك أي آثار، بل ورغم اعتدال المناخ فيها على مدار العام فهي مصابة بارتفاع الرطوبة باعتبارها جزيرة، وسكانها حوالي 2.2 مليون نسمة - قد استطاعت أن تجذب أكثر من 5.3 مليون سائح في عام 1990 مما حقق لها دخلاً تجاوز 5.6 مليار دولار.

والصين الشعبية التي لا تملك إلا القليل جدًا من الآثار مقارنة بالدول الغنية في هذا المجال، جذبت في العام نفسه - 1990 - حوالي 27.5 مليون سائح منهم 4.25 مليون سائح في مجموعات سياحية وحققت دخلاً من السياحة وصل إلى 2.2 مليار دولار.

الإبداع والابتكار

صحيح أن السياحة ليست آثارًا، تاريخية فحسب، بل هناك سياحات كثيرة مثل سياحة المؤتمرات والرياضة وغيرها، ولكن المهم في ذلك كله هو عنصر الإبداع والابتكار.

وأقدم إليكم نماذج للإبداع من الصين الشعبية وسنغافورة، ففي بيتجين - بكين - دعيت لزيارة سور الصين على أطراف العاصمة، وعظمة هذا السور في طوله، ولكن السائح لا يرى من هذا الطول إلا أمتارا مهما طالت أو قصرت فهي في إطار مدى البصر الإنساني. وكان لابد من البحث عن وسيلة تجعل من هذا الأثر نقطة جذب للسياحة، والحقيقة أنه سور لا يختلف في كثير أو قليل عن سور القلعة في القاهرة مثلا، أو سور القلاع القديمة ببعض الدول العربية، خاصة دول الخليج، ولكن الفارق في كيفية التعامل مع الحجر.

فقد وصلت إلى السور مع المرافق، فكانت نقطة البداية هي استخدام إحدى الساحات به سوقًا للمنتجات البيئية، ودخلنا السور وسط زحام مخيف، والساحة بين الحائطين للسور لا تزيد على ثلاثة أمتار، ولكن الصين حولت الحجارة إلى حركة حية والأثر التاريخي إلى واقع معاصر.

فالحرس داخل السور كلهم من الشباب في ملابس هي ملابس الحرس القديم نفسها في العصر الإمبراطوري، ومعهم الرماح الخشبية والقوس الشهير الذي لا نراه إلا في السينما ومسابقات الرياضة.

وفجأة تنجذب الأنظار نحو دخان يتصاعد من أحد المواقع بالسور، ثم سرعان ما يرتفع دخان من مكان ثان ثم ثالث، والجماهير تسرع ليس بعيدًا عن الدخان خوفًا من حريق، ولكنها تتجه نحو منطقة الدخان، فهي الإشارة القديمة بوجود خطر يطلقها جنود المراقبة وسرعان ما تتناقل المدافع الإشارة. وتبدأ دقات الطبول تعلن الخطر وقيام العدو بالغزو وتعلن الطوارئ بين الجنود ويقف كل منهم في موقعه وبسلاحه، بينما القائد يعطي أوامره للمدفعية بالانطلاق. وبالمناسبة: المدافع مثل مدافع شهر رمضان بالقاهرة وهي صغيرة وتعمل "بالبمب" الصوتي.

يجري ذلك كله في تسلسل متتابع مرة كل ساعة وفي أيام الإجازات كل نصف ساعة، والسياح يتسابقون للوقوف بجوار الجنود والمدافع لأخذ الصور التذكارية، حتى أن الحصول على فرصة تصوير أصبح في حاجة إلى الوقوف في طابور.

ولم يكن ذلك أسلوبًا نمطيًا، بل نجد مثلاً في القصر الإمبراطوري - حيث يتعذر إيجاد إمبراطور - أنه وضعت في بعض المواقع ملابس ذلك العصر. ويمكن للسائح اختيار ما يناسبه من ملابس حرس أو وصيفة أو أمراء للتصوير بها ثم وضعها في مكانها. ولا أحد يأخذها معه أو يمزق قطعة منها أو يفعل شيئا من هذه السلوكيات الغريبة.

عام التحدي

والصين تستعد هذا العام لدخول عام التحدي السياحي والذي تستهدف به تحقيق طفرة ضخمة في الحركة السياحية، وقد أطلقت عليه عام "الصداقة والسياحة".

وإذا كانت الصين تملك مجموعة من الآثار، إلى جانب المعبد الرئيسي لبوذا، مما يساعد على جذب السياحة الآسيوية على وجه خاص، فإن بلدا مثل سنغافورة لا تملك شيئا على الإطلاق، ومع ذلك استطاعت أن تحتل المركز الأول في العام الماضي بين الدول الآسيوية، والمركز العاشر بين دول العالم، وجعلت من نفسها مركزًا لسياحة المؤتمرات والمعارض، ووفرت لذلك كل ما يمكن. والإبداع هو في إدراك غياب مراكز الجذب الداخلية مثل الآثار أو المسارح التي تشتهر بها لندن أو غير ذلك، فإذا بها تستغل المكان بمعنى الموقع الجغرافي بالنسبة للدول المحيطة بها وحركة الملاحة البحرية والجوية بين آسيا والعالم حتى الحديقة الوحيدة التي تملكها، مع العلم بأن نسبة الخضرة بين المباني يحددها القانون، فإنها أقامت "تلفريك" لرؤية الحديقة التي لا تزيد مساحتها على مساحة أصغر حدائق القاهرة، وفي داخل الحديقة قطار يسير على قضيب واحد، وغير ذلك من وسائل ذكية لتسلية الزائر ليدفع. ورغم أنها واحدة من أغلى المدن تكلفة في العالم، فإنها استطاعت أن تزيد من حركة السياحة عاما بعد آخر.

وتدرك هذه الدول أن الإبداع وحده لا يكفي، بل لابد من توفير البنية الأساسية للسياحة من فنادق وطرق وخدمات، مثل وسائل الاتصال بل ومحلات الشراء، أضافت إليها الصين مثلا فنون تناول الطعام المحلي في مطاعم مقامة على الطرز المعمارية القديمة هي في الأغلب مبان قديمة يتم تجديدها وصيانتها. هذا إلى جانب المطارات، فدولة مثل سنغافورة على رغم كثافة حركة السفر عبرها فإن الوقت الذي يستغرقه الدخول إليها أو الخروج منها لا يزيد على دقائق بأي حال. فهي قد افتتحت منذ عامين مطارها الثاني الجديد، وتستعد بعد خمسة أعوام لافتتاح مطار ثالث لاستيعاب حركة السفر المتوقعة خلال العشرين عاما القادمة.

سلوك مجتمع

وتؤمن هذه الدول. بأن السياحة ليست فنادق أو خدمات فقط، بل هي بالدرجة الأولى سلوك مجتمع فمثلما تقوم في التنمية بتوزيع الدخل بحيث لا تكون هناك فوارق شاسعة، فهي أيضا توزع المسئوليات على كل مواطن، فليس هناك شخصا لا يتحمل عبئا من المسئولية في عملية السياحة، ابتداء من أول مضيفة تلتقي بها في المطار حتى سائق التاكسي، بل والبائع في المحلات. الكل يقوم بدوره وكأنهم أعضاء فريق موسيقي والمايسترو الذي لا يراه أحد هو في داخل كل إنسان. إنه الإحساس بالانتماء والمسئولية وترجمته العملية هي المصلحة لكل فرد حيث يدرك أن كل دولار جديد يأتي سوف يكون له نصيب فيه.

والمسألة ليست شعارات بل واقعًا يشعر به أي زائر. وأذكر حادثة وقعت لي في سنغافورة. فقد كنت أنتظر على باب الفندق صديقًا سوف يأخذني بسيارته إلى المطار. وجاء موظف الفندق ليعرض خدماته وسألني: لماذا لا تأخذ تاكسي؟ وحين أوضحت له أن صديقًا سوف يأتي، رد بلباقة: ولماذا تتعب صديقك والتاكسي موجود، مع أنك لن تدفع أجرة التاكسي، فهو جزء من تكاليف إقامتك، وأنت لا توفر لا لنفسك ولا لنا، ولكنك فقط تتعب صديقًا لك. فالرجل حريص على تشغيل التاكسي وهو لن يحصل على عمولة، ولكنه يرى أن لكل شخص وظيفة، ولابد من عدم خلط هذه الوظائف حتى يسمى المجتمع نحو أهدافه.

وقد تأكدت من أكثر من مصدر من عدم وجود مسألة العمولة أو كما نسميها البقشيش، فهو أمر غير مألوف في هذه الدول سواء في سنغافورة أو الصين، رغم حركة السياحة الضخمة. ربما كانت هونج كونج هي وحدها التي تعرف هذا المرض في آسيا وذلك لظروف اجتماعية خاصة بها.

والغريب أننا مازلنا نتعلم السياحة من أوربا بينما مدارسها الجديدة هي في آسيا.