طريق مصر إلى القدس.. للدكتور بطرس غالي

طريق مصر إلى القدس.. للدكتور بطرس غالي

نجح الدكتور بطرس غالي في أن يكتب كتابا يستحق القراءة، فهو يتناول السنوات الأربع الأولى من التفاوض المباشر مع إسرائيل من خلال مذكراته الشخصية، وهو يمضي بنا في الطريق ويحدثنا في الوقت ذاته عن انطباعاته.

ينجو بطرس غالي في كتابه "الطريق إلى القدس" من التنظير ومن روح التنظير إلى أقصى حد ممكن. وفي الحق أن ظروف حياته الأكاديمية الناجحة هي التي ساعدته على هذا، فهو قد حقق في هذه الحياة أقصى ما يمكنه من نجاح في التأليف والتدريس وتقويم جهود الآخرين والإشراف عليهم وهم يصنعون العلم أو وهم يكتبونه على أقل تقدير، وهو يعلم تمام العلم أن للعلم وللحياة الأكاديمية حدودا لا تتعداها، وهو يدرك أيضا أن السياسة قد تسبق العلم الأكاديمي، وأن العلم الأكاديمي يسير وراء السياسة ليحلل ويدقق ويصف وينظر، ولهذا فإن بطرس غالي طوال هذا الكتاب لا يقع أبدا "كما وقع غيره" في شرك التعالي على الأحداث ولا التنبؤ لها بمسارها بفضل ما يمتلك من حكمة تاريخية أو سياسية أو استراتيجية، لكنه في واقع الأمر يمضي مع الأحداث كما حدثت، لا يمنعه هذا من أن يتمنى لو أن أمرا لم يحدث، أو أن تطورا ما لم يأت في الوقت الذي أتى فيه، ولكنه مع هذا لا يندفع أبدا إلى فصل الحقب الزمنية عن بعضها، ولا إلى التسميات الطنانة الرنانة، ولا إلى لي الحقائق لكي تتوافق مع أهوائه هو، ولا إلى البحث عن الدور المفقود في تسيير الأحداث وجهة الصواب وضبط هذا الدور على آرائه هو.

مرة ثانية فإن بطرس غالي يقرأ الأحداث معنا على نحو ما حدثت بالفعل، وهو يعتبر نفسه جزءا من الأحداث وينجو من أن يجعل الأحداث جزءا منه.

وفي هذا الكتاب كثير من العبارات المهمة والآراء السياسية البارزة التي تدلنا على مذهب بطرس غالي في السياسة القومية والسياسة الدولية على حد سواء، ومن الجدير بالذكر، وبالثناء أيضا، أن هذه الآراء تأتي في نعومة شديدة وكأنها جاءت بالمصادفة، كما أن بطرس قد ألقاها علينا دون خطابة ولا مقدمات طويلة، ولم يلجأ إلى إبراز خلفيات ثقافية مذهلة كي يذهلنا بها قبل أن ينطق بحكمته وحنكته على نحو ما يفعل الصحفي الأوحد، ومن هذه الآراء المهمة ما يعتقده بطرس غالي من أن الأيديولوجية هي البديل الطبيعي للقوة في المجتمعات النامية وهو يقول: "إن الأيديولوجية بالنسبة للبلدان التي تفتقر إلى القوة الاقتصادية أو التكنولوجية أو العسكرية هي بديل للقوة. فالأيديولوجية تقدم تفسيرا لتخلفها، وهي أداة في علاقاتها الدولية، وعون لها في السياسة العالمية، وحلم بالنسبة للمستقبل. ودون حلم كهذا تكون حياة الفقراء غير محتملة".

ومن أهم ما في هذا الكتاب تلك الفقرة القصيرة التي استطاع أستاذ العلوم السياسية فيها أن يتمكن من بلورة الفرق بين السادات وعبدالناصر بأسلوب جديد، ودون أن يلجأ إلى تخوين هذا أو ذاك، وإنما هو يرى الفارق أبعد من ذلك الفهم الضيق المرتكز على فكرة طرفي النقيض!! يقول بطرس غالي: "كان هناك اختلاف ملحوظ بين السادات وسلفه جمال عبدالناصر. فعبدالناصر، مثل قيصر، كان يفضل أن يكون "الأول في قريته"، بمعنى قرى العالم الثالث. أما السادات فيقبل أن يكون "الثاني في روما"، أي في عواصم دول العالم الكبرى. كان عبدالناصر معاديا للاستعمار وللغرب بشدة. أما السادات فيعجب بالثقافة والتقاليد الغربية، وعلى استعداد للتحالف مع أعداء الشيوعية. فقد جاء ناصر إلى السلطة في وقت المواجهة مع الدول الاستعمارية، وجاء السادات في وقت المصالحة معها. وهكذا كانا يمثلان فترتين مختلفتين بوضوح في تاريخ مصر. وقد شاركت مشاركة إيجابية في الحياة السياسية في كل من هاتين الفترتين المختلفتين".

انتقاد الإدارة المصرية

أما على المستوى المحلي فإن بطرس غالي لا يخفي أبدا انتقاده لتفكك الإدارة المصرية وضعف الاتصالات فيما بينها، وهو يضرب أمثلة كثيرة على هذا المعنى في مواضع متعددة من كتابه، وهو يفعل هذا بإخلاص وانتماء ومن دون أن يصل إلى جلد الذات، وهو يقول مثلا: "في اليوم التالي، الأول من فبراير، قابلت وزير خارجية يوغوسلافيا الذي قال لي إنه قرأ النص الحرفي للقائي بالرئيس تيتو. وانتقل ذهني على الفور إلى أن تسجيلات مقابلات الرئيس السادات تصل إلى الوزارة المعنية بعد أسبوع على الأقل أو عشرة أيام، هذا إذا وصلت أصلا. وأغضبني أن عدم كفاءة النظام المصري تجعلني في وضع أضعف من نظرائي".

وفي موضع آخر يقول: "وبينما كان مؤتمر القاهرة معرضا لهذا الهجوم، كان البيروقراطيون في الحكومة المصرية ـ ومن بينهم بعض الوزراء الذين لا ترتبط مسؤولياتهم بأي شكل بالموضوع ـ يحاولون إقحام أنفسهم في كل التفاصيل المتعلقة بالمؤتمر. وبينما كان الاستنكار يتصاعد في الخارج، كان سوء التنظيم يتصاعد في الداخل".

وفي موضع ثالث يعترف بصراحة: "وهكذا كنت أتعرف على قرارات اتخذها الشاه والرئيس السادات، ليس من حكومتي بل من السفير الإيراني. وعندما اكتسبت مزيدا من الخبرة في وضعي الجديد، عرفت أن الطريق الفعال لاكتساب المعلومات يأتي من خلال المصادر غير الحكومية، فالسادات لا يحرص على اطلاع مستشاريه على الحقائق، أما زملائي فيعتبرون المعلومات مصدرا للقوة، وبالتالي فإنهم يكتنزونها".

وفي مناسبة رابعة يحكي فيقول: "وفي 24 أبريل استقبلت في مكتبي جوشوا نكومو قائد جبهة التحرير الوطني في زيمبابوي، وكان وزن نكومو يبلغ نحو 270 رطلا. وقد أنهار الكرسي الذي جلس عليه تحت وطأة وزنه، وكاد يقع على الأرض لولا أني أمسكت به. واعتذر الزعيم الأفريقي عما أحدثه من ضرر، وكان من شأن البيروقراطية المصرية أن استغرق إصلاح الكرسي ستة أشهر". وهكذا..

أما أكثر هذه المواضع تشويقا فهي تلك التي يعترف فيها بطرس غالي بالتشوق إلى أن تكون له سكرتيرة جيدة، ولنقرأ القصة: "وفي اليوم التالي استقبلني الملك بودوان في قصره بإحدى ضواحي بروكسل. وأهديته تمثالا فرعونيا صغيرا، كنت قد وجدته في المكتب الذي آل إليّ من وزير الخارجية السابق بمبنى وزارة الخارجية. وحرصت على الحصول على موافقة الرئيس السادات قبل تقديم هذه الهدية القديمة الثمينة إلى ملك البلجيك. وأبدى الملك إعجابه بالهدية، وطلب أن أسرد عليه تاريخ التمثال وترجمة الحروف الهيروغيلفية المنحوتة عليه. واعتذرت واعترفت بجهلي التام، وقلت إنني لا أعرف شيئا عن التمثال. وقلت لنفسي إنه لو كان لديّ سكرتيرة جيدة، لكانت اتصلت بالخبراء في المتحف المصري وحصلت على الحقائق الخاصة بهذا التمثال الصغير، ولاستطعت حينذاك الحديث مع الملك عن أهمية الهدية التي بعث بها الرئيس السادات إليه. ولكن العمل بوزارة الخارجية كثيرا ما كان ضربا من اللامبالاة والارتجال. وبدا الحرج الشديد على وجهي حينما وجدت الملك يبتسم ويقول بلباقة: "على أي حال، يا سيدي الوزير، إذا كانت معلوماتك ناقصة بعض الشيء فإنني على ثقة من أن معلوماتك عن التاريخ الحديث كاملة تماما".

إهداء دون دفاع

أما موقفه من جده بطرس غالي وقضية تسليم السودان فهو في رأيي موقف يتسم بالغرابة، حيث لا يتبنى وجهة نظر جده ولا حتى يدافع عنها، وتبدو عباراته وكأن بطرس غالي يدعم ويشجع الديماجوجية دون أن يدرى، وذلك على الرغم من أن بطرس غالي كان في منتهى النبل والشجاعة والسمو الخلقي حين أهدى كتابه إلى هذا الرجل العظيم الذي لم يحظ بعد بالتقويم الموضوعي لدوره في السياسة المصرية، ويكفيني أن أطلب إلى القارئ أن يطالع ما كتبه الخديو عباس حلمي في مذكراته عن هذا الرجل العظيم. ومع هذا فإن بطرس في لحظة سرعة لا يجد حرجا في أن يروي فيقول: "فقد كان اهتمامي بالسودان يرجع إلى أمد بعيد، لأنه كان يقال لي وأنا صبي صغير إن جدي بطرس غالي باشا هو الذي سلم، أثناء توليه وزارة الخارجية، السودان إلى البريطانيين عندما وقع في سنة 1899 الاتفاقية التي أقامت الحكم الثنائي بين مصر وإنجلترا في السودان، الذي كان المصريون يعتبرونه من الأراضي الخاضعة لسيادتهم الخالصة. وكان ذلك من الأسباب التي دفعت من اغتالوا جدي في أحد شوارع القاهرة، وقد حوكم القاتل، واسمه الورداني، وثبتت إدانته وتم إعدامه، ولكنه تحول إلى بطل وطني، وكان الطلبة يهتفون في الشوارع: الورداني! الورداني! إللى قتل النصراني!".

وفي صفحة 28 يروي بطرس غالي ما قد يمكن لنا أن نعتبره السبب في اختيار هذا الاسم لهذا الكتاب، وذلك حيث يقول: "وعاد إلى ذاكرتي موقفي وأنا صبي صغير، أراقب أمي "صوفي" وهي تعد حقيبتها للحج من القاهرة إلى القدس، وهي رحلة تعتبر بالنسبة للقبطي في أهمية الحج إلى مكة بالنسبة للمسلم. وشعرت بانفعال أسرتي عندما استقلت أمي القطار المتجه إلى يافا في فلسطين، ومن المحطة هناك تصعد إلى المدينة المقدسة. واستعدت ذكريات عودتها وشعورها بأنها قد بوركت بالحج الذي قامت به".

أما الخطأ الرهيب جدا في هذا الكتاب فهو حديثه عن الإشراف الإداري لمصر على قطاع غزة على أنه كان احتلالا، وهو يقول بالنص في ص 170: "فمصر لا ترغب في ممارسة السلطة على الفلسطينيين، وأهل غزة لا يريدون ارتباطا مع مصر. فمصر احتلت غزة من عام 1949 إلى عام 1967، ولم يكن أي من الطرفين سعيدا بذلك".

فهل من المعقول أن تقع مذكرات وزير مصري معني بالشئون الخارجية في مثل هذا الخطأ؟

السادات وديان

وتحظى علاقة السادات وديان بتحليل وتعقيب بطرس غالي الذي لا يستطيع أن يخفي رأيه الخاص بأن السادات كان يشعر بنفور طبيعي تجاه ديان، فضلا عن النفور الشخصي والاستخفاف بقدرات الرجل، ويعطينا بطرس تفسيره الأقرب للصواب وذلك حيث يقول ضمن كتابه: "ولكن اللقاء لم يُذب الثلوج بين الاثنين. ولدى مغادرته الاجتماع أعلن السادات أن ديان رجل متشائم وغير قادر على استيعاب الآثار بعيدة المدى لمبادرته السلمية. ولم أتفق مع تقييم السادات. فإن الرجل بالرغم من شخصيته الصعبة قادر على الرؤية البعيدة، وقد دأب على تقديم حلول خلاقة لمشكلات معقدة. أما سبب هذه العداوة فلا يرجع إلى استخفاف السادات بقدرات ديان، كما أنها لا تعود فقط إلى الكيمياء الشخصية السيئة. ويبدو أن السادات كرجل عسكري مصري كان يشعر بأن ديان يتصرف بغطرسة نظرا لهزيمة اسرائيل لمصر في المعركة".

ومن المهم أن نذكر أن بطرس غالي كان مقدرا كل التقدير لموقف محمد إبراهيم كامل في كامب دافيد، رغم تحفظه على عصبيته في أكثر من موضع، ويبلغ هذا التقدير مداه حين يثني بطرس غالي على قرار استقالة محمد إبراهيم كامل بعبارات واضحة وصريحة ويقول: "وبالنسبة لمحمد إبراهيم كامل فقد أظهرت استقالته المدى العظيم لقوة الشخصية. ففي العالم الغربي يستطيع الفرد أن يستقيل معترضا بينما الحياة تسير قدما. أما في العالم الثالث فإن الاستقالة هي خيانة للزعيم، وقرار يؤدي بصاحبه ـ كما يقول الرومان ـ إلى "الوفاة المدنية". كان محمد كامل دبلوماسيا محترفا. وإذا لم يخدم حكومته بهذه الصفة فليس هناك عمل آخر يتناسب والمهارات التي أمضى الجانب الأكبر من حياته في تحصيلها".

كذلك كان بطرس غالي حريصا على أن يلفت نظر قارئي كتابه سواء في الغرب أو في الشرق إلى حرص كثير من المسئولين المصريين على النزاهة التامة في التصرفات المالية، وقد قدم بطرس غالي هذا المثل بطريقة عفوية حين روى ما تبين له من حرص مصطفى خليل على سد ذرائع الفساد "ص218" مما دعاه إلى الاقتداء به: ".. وفي المساء هدأت الأمور بعض الشيء. ووافقت "ليا" على مرافقتي إلى حفل العشاء الذي يقيمه الدكتور مصطفى خليل تكريما لعزرا وايزمان. وكانت السيدة جيهان السادات ضمن الضيوف. وأدار المضيف تسجيلات من الموسيقى الكلاسيكية مما وفر خلفية لطيفة لأحاديثنا. وبدت جيهان السادات مبتهجة، وكان الجو مفعما بالصداقة والتناغم. وكنت أنا وزوجتي آخر المنصرفين، والتقطت أذني طلب رئيس الوزراء بأن توافيه إدارة المراسم بفاتورة الأطعمة التي جاءت من نادي التحرير. وعلقت على ذلك قائلا إن هذا الحفل لقاء رسمي وأن على وزارة الخارجية أن تتحمل التكاليف. ولكن مصطفى خليل رفض قائلا: "إنني أريد إرساء قواعد لمثل هذه الأمور، وموقفي ينبغي أن يكون درسا للجميع. فلو كانت هذه المناسبة قد تمت في نادي التحرير التابع لوزارة الخارجية لكانت مناسبة رسمية، وبناء علىه تتولى وزارة الخارجية تغطية تكاليفها. ولكن الحفل أقيم في بيت خاص، ولذلك فإن على المضيف أن يتحمل التكلفة مهما كانت الظروف أو أوضاع الضيوف وأي تصرف آخر سيفتح الباب للانحرافات ـ أي الفساد". وقررت تطبيق نفس القاعدة في وزارة الخارجية".

كلمات عاصفة

بقى أن أذكر أن أهم فقرة في هذا الكتاب تأتي عرضا حيث يتحدث بطرس غالي عن حوار جانبي مع الدكتور عبدالله العريان في أثناء محادثاتهما مع ديان في أمريكا، حيث يقول: "وفي إحدى النقاط تبادلنا، ديان ونحن، كلمات عاصفة. وهمست في أذن الدكتور عبدالله العريان قائلا: "إنني لا أستطيع تحمل هذا الرجل أكثر من ذلك. إنني سأترك هذه المباحثات!". ولكن الدكتور عبدالله وضع كلتا يديه فوق ركبتي لإبقائي جالسا، وهمس في أذني ببطء، وهو يؤكد كل كلمة: "لابد أن نتحمل يا دكتور، لأن أرض مصر محتلة". وشعرت بضعف موقفنا ومهانتنا. وتراءى لي الريف في صعيد مصر، وتبدد غضبي، ومن أجل هذه الأرض أمكنني مواصلة المناقشة ساعات بلا انقطاع".

وتساوي هذه الفقرة في قوتها تلك التي يرويها لنا بطرس غالي في موضع آخر حين يقول في صفحة 285: "وأبلغت السادات بمخاوفي من أن مصر أخذت تصبح معزولة دبلوماسيا. وأنصت السادات إلى حديثي بهدوء لبعض الوقت ثم قاطعني قائلا: "أريد منك نقل مقعدك". ولم أفهم ما يقصده. فإن أفكاري كانت بعيدة تماما عن مقعدي. وعندما استفسرت منه، كرر العبارة ذاتها: "أريد منك يا بطرس أن تنقل مقعدك من مكانه حتى تستطيع أن ترى الضفة الشرقية لقناة السويس".

ونفذت تعليمات الرئيس. ومن موقعي الجديد، استطعت رؤية صحراء سيناء المجيدة على الضفة المواجهة لنا. وأمامي، كانت هناك أشجار خضراء وحدائق تحوط استراحة الرئيس الخاصة، ووراء ذلك، كانت المياه في القناة تلمع وتعكس ضوء الشمس. ومن بعدها، كانت تبدو رمال الصحراء الصفراء.

وقال الرئيس، وهو ينطق في تباطؤ متعمد: "إنني لا أرغب في الاستهانة بحجم المشاكل والهموم التي تواجهها الدبلوماسية المصرية. غير أن كل هذه المشاكل والهموم تتضاءل بالنسبة للأرض التي استعدناها. إنها لا تساوي مترا مربعا واحدا من هذه الأرض التي استرددناها دون إسالة دماء أبنائنا. بطرس، إنني لا أريد أن أنتقص من الجهود التي تبذلها. ولكنني أؤكد لك أن مترا مربعا واحدا من هذه الأرض المصرية أهم كثيرا من الصعاب الدبلوماسية التي تواجهها. إنني لا أخشى الإدانات. وأنا لا أخشى البلدان التي تقطع علاقاتها الدبلوماسية معنا. وظل السادات يتكلم طوال الساعات التالية وأنا أنصت إليه، ولم يترك لي الفرصة للرد أو التعليق على ما قاله.

والحقيقة، أنه عندما انتهى الاجتماع، كنت على اقتناع كامل برأي السادات، إذ ليس هناك مجال للمقارنة بين طرفي المعادلة، إذ إن العزلة السياسية سوف تنتهي بعد فترة، لكن الأرض المستعادة ستظل أرضنا إلى الأبد".

ومن أهم وألطف ما يمكن في هذا الكتاب تلك الأوصاف التي يسبغها الدكتور بطرس غالي على زملائه حينما تتاح له الفرصة للحديث عنهم، أو حينما يأتي ذكرهم في مجرى الأحداث العام.

وعلى الرغم من أن بطرس غالي يميل إلى أن يركز الوصف في كلمة أو جملة، فإنه ينجح تماما في خلق صورة مميزة عن كل من هؤلاء الذين يتناولهم بالوصف، وهو في أوصافه حريص على الصفات الجسمانية "البدنية" بنفس الحرص على الصفات الشخصية. ومن حسن الحظ أن بطرس غالي قد تناول عددا كبيرا من أعلام مصر والعالم في هذه الفترة، وسوف نجتزئ للقارئ بإيراد الأوصاف التي أسبغها بطرس على عدد من السياسيين المصريين على مدى صفحات هذا الكتاب.

1ـ أنور السادات "ص16": في انطباعاته عن أول لقاء به في عام 1954: "كان السادات شديد الذكاء ولكنه غالبا يريد أن يخفي دهاءه وحدة ذهنه، كان يقرأ كثيرا على الرغم من شهرته بأنه لا يجد أبدا وقتا للقراءة".

2ـ الرئيس حسني مبارك "ص21": عن رئاسته للجنة التاريخ: "وأدهشني مع ذلك دأبه بصبر على جمع مجموعة من الأفراد ـ يحاول كل منهم أن يغلب وجهة نظره ـ وأن يصنع منهم كيانا موحدا ومنتجا".

3ـ ممدوح سالم "ص12": "رجل طويل القامة ذو شخصية مؤثرة، معروف بالأمانة وضبط النفس وقلة الكلام واختيار الكلمات بعناية ـ وهي مجموعة صفات يندر اجتماعها في العالم العربي".

4ـ المشير الجمسي: "كان رجلا نحيلا متوسط القامة مستقيم الظهر، يبدو واثقا تماما من نفسه، مباشرا في حديثه، يتجنب الأساليب الملفوفة التي يتبعها الدبلوماسيون، ذهنه متفتح، وهو مشهور بالنزاهة التامة في جميع الأمور".

5ـ جيهان السادات: "الأنيقة الجميلة والذكية".

6ـ محمد إبراهيم كامل: "وجدت من البداية أن التعامل معه لن يكون صعبا، شخصية لطيفة ومتسامحة، وهو يتكلم بإخلاص ووضوح في عبارات تكشف عن قلب كبير.. اجتماعي مما جعلني أشعر بأننا نستطيع أن نعمل معا بأمانة وإخلاص لبلدنا".

7ـ مصطفى خليل "ص188": "سريع البديهة حاد الذكاء".

8ـ الدكتور عصمت عبدالمجيد "ص38": "عرفته منذ الأربعينيات عندما كان يعد رسالة للدكتوراه في باريس وكنت على ثقة تامة بكفاءته وقدرته على إدارة المؤتمر".

9ـ عمرو موسى "ص203": "وبفضل شبابه وطموحه وديناميكيته تقدم الصفوف ليصبح وزير خارجية مصر في التسعينيات".

الدقة التاريخية

وينبغي لنا أن نشيد بالدقة التاريخية التي تعم صفحات هذا الكتاب، وفي واقع الأمر فإن هذه الدقة ليست مستغربة على أستاذ قدير كهذا الأستاذ ولا على أسلوبه في الكتابة، وفي كتابة المذكرات كجزء من أسلوبه العام في الكتابة، ومع هذا فإن في كتاب الدكتور بطرس غالي عدة مواضع تحتاج منه إلى مراجعة في الطبعات القادمة ليكون قد وصل بكتابه إلى الدرجة التي لابد أن يصل إليها:

1ـ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن بطرس غالي يتحدث عن مجدي وهبة في صفحة 24 على أنه كان عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة "الأكاديمية المصرية حسب الخطأ في الترجمة"، وفي الواقع فإن مجدي وهبة كان عضوا في هذا المجمع، ولكن فيما بعد ذلك وبالتحديد في عام 1979 بينما نحن لا نزال في هذه المذكرات في عام 1977 حين ورد ذكر هذا النص.

2ـ لبطرس غالي العذر في أن يخطئ في عدد المرات التي أدى فيها اليمين الوزارية في عهد الرئيس السادات، فهو عندما يأتي إلى تشكيل الوزارة في مايو سنة 1980، يذكر أن هذه كانت المرة الرابعة التي يؤدي فيها اليمين، وفي حقيقة الأمر فقد كانت هذه هي المرة الخامسة، وقد وقع بطرس غالي في هذا الخطأ نتيجة أنه نسي تماما وزارة ممدوح سالم الخامسة التي تشكلت في مايو سنة 1978، بينما تذكر بالطبع دخوله الوزارة في وزارة ممدوح سالم الرابعة "أكتوبر سنة 1978"، ووزارتي مصطفى خليل ووزارة السادات الأخيرة.

3ـ وفي الجزئية السابقة ذاتها فقد فات الدكتور بطرس غالي أن ينبه إلى حقيقة مهمة وهي أن وزارة الرئيس السادات الأخيرة "مايو 1980" قد رأسها السادات بنفسه، وقد أسندت إلى الدكتور أحمد فؤاد محيي الدين فيها مهام رئيس الوزراء بالنيابة.. وقد حدث في تشكيل هذه الوزارة ما رواه بطرس غالي بالفعل من أن تشكيلها بدأ على أن الذي سيتولى رئاستها هو الرئيس حسني مبارك بالإضافة إلى منصبه كنائب لرئيس الجمهورية، لكن الذي حدث بالفعل "والذي فات الدكتور بطرس غالي أن يذكره" أن الأمور قد تغيرت وتولى السادات رئاسة هذه الوزارة بنفسه، وتولى نائب رئيس الوزراء فؤاد محيي الدين طبقا لقرار التشكيل مهام النيابة عن الرئيس السادات في رئاسة الاجتماعات وتقديم برنامج الوزارة إلى مجلس الشعب.. إلخ.

 

 

محمد الجوادي