الإرادة والـتـأويل: بول ريكير وفن القراءة

الإرادة والـتـأويل: بول ريكير وفن القراءة

يعتبر بول ريكير واحدا من أهم مفكري فرنسا المعاصرين, وإن لم تتح له من الشهرة ـ على الأقل في العالم العربي ـ مثلما أتيح لكثيرين غيره. وترجع أهميته إلى حد كبير إلى أنه يجمع في تفكيره بين أكثر من اتجاه فلسفي يحاول التوفيق بينها.

من التعبيرات الرشيقة التي التصقت بذهني عبارة جاءت في مقال كتبه منذ سنوات الناقد البريطاني جون ويتمان عن الحياة الفكرية في فرنسا ويقول فيها إنه رغم كل ما مرت به فرنسا في السنوات الأخيرة من تغيرات جذرية وسريعة فإنها لا تزال تحتفظ بقدراتها الفائقة على (إنتاج) الشخصيات الكاريزمية التي يمكن وصف أصحابها بأنهم (أبطال الفكر) بنفس الطريقة ونفس المعنى اللذين يقال بهما إن روسيا (تنتج أبطال الشطرنج). ويلاحظ جون ويتمان بهذا الصدد أن عبارة ديكارت المشهورة (أنا موجود ما دمت أفكر) لا تزال قائمة وتمثل إحدى ركائز العقل الفرنسي وأحد مبادئه العامة الأساسية. فقبل الحرب العالمية الثانية كان هناك ثالوث رائع من كبار (أساتذة الفكر) وهم أندريه جيد وبول فاليري وألان, ثم ظهر بعد الحرب ذلك (الثنائي المتعادي) المؤلف من جان بول سارتر وألبير كامي. ولو سرنا نحن في هذا الطريق الذي حدده ويتمان لأمكن لنا القول إنه جاء من بعد ذلك مزيج من الكتاب والعلماء والفلاسفة يضم ليفي ستروس وجاك لاكان وميشيل فوكوه ورولان بارت وجاك دريدا وغيرهم من المفكرين الذين حملوا ـ ولا يزال بعضهم يحمل ـ لواء البنائية وما بعدها, كما لحق بهم بعد قليل رعيل آخر من (أبطال الفكر) الذين يعطون أهمية قصوى للغة والبناء اللغوي ويهتمون بتأويل (النص) وتفسيره فيما يعرف باسم الهرمنيوطيقا, وهي حركة فكرية ترتبط بالفكر الألماني وإن كانت أصولها الأولى ترجع إلى عصور سابقة. وتضم هذه الحركة الفكرية في فرنسا أعدادا من المفكرين ـ من أمثال بول ريكير ـ الذين يغلب عليهم الطابع الأكاديمي الذي يختلف تماما عن الطابع الذي كان يميز حياة المفكرين السابقين عليهم والذين كانوا يشغلون أنفسهم بمشكلات الإنسان والمجتمع ويشاركون في أحداثه الاجتماعية والسياسية.

هرمنيوطيقا

وتطلق كلمة (هرمنيوطيقا) في العادة على الاتجاهات المختلفة التي يعتنقها بعض الفلاسفة والمفكرين الذين يعطون اهتماما خاصا لمشكلات (الفهم) و(التأويل) أو التفسير. فالكلمة تصدق إذن على نظرية التفسير ومناهجه. واللفظ اليوناني المستمدة منه الكلمة يشير في وقت واحد إلى عملية الكلام وعملية التفسير مما قد يعني أن الكلام هو طريقة (يفسر) بها الشخص أفكاره للآخرين ـ وإن كانت الهرمنيوطيقا تعني في الاستعمال الفلسفي والأكاديمي تفسير النصوص.

وقد ارتبطت الهرمنيوطيقا في البداية بمحاولات تفسير أعمال هوميروس والشعراء الإغريق, وبذلك ارتبط التفسير بالفيلولوجيا (علم اللغة) وبنقد النص ثم انتقلت المحاولة إلى تفسير النصوص المقدسة. فالحركة بدأت إذن على أيدي علماء الكلاسيكيات واللاهوت الذين حاولوا وضع قواعد تحكم التفسير الصحيح للنصوص الكلاسيكية والدينية الأساسية, ولكنها لم تلبث أن اتسعت وامتدت لتشمل النصوص الأدبية وغيرها, بل وتجاوزت هذا المجال إلى مجالات علم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ وبقية العلوم الإنسانية على أساس أن الحياة الإنسانية عملية تضفي معنى على الأشياء ولذا تحتاج إلى أن تقرأ بقصد الفهم والتأويل والتفسير.

وبقول آخر أبسط وأوضح فإنه يمكن تعريف الهرمنيوطيقا بأنها (فن القراءة) أي فن حل النصوص وتفكيكها وتفسيرها والكشف عن معانيها. والذي أضافه المفكرون الهرمنيوطيقيون المحدثون ـ ومنهم الفيلسوف الاجتماعي الديني الفرنسي بول ريكير ـ هو أنهم عملوا على مد فكرة (النص) إلى كل مجالات الوجود الإنساني واعتبار الحياة الإنسانية ذاتها نوعا من النص ـ أو على الأصح شيئا يشبه النص ـ الذي يمكن قراءته, على أساس أن الحياة تجسد معنى يمكن ـ من حيث المبدأ ـ توضيحه وإبرازه, وأن ذلك يتم بطريقة تشبه الطريقة التي يفسر بها التحليل النفسي معنى الأحلام.

ويقوم منهج التفسير في أساسه على افتراض أن الكلام له معنيان أحدهما هو المعنى الظاهر والآخر هو المعنى الخفي أو المستتر أو الباطن, مما يعني أن اللغة لها هي أيضا وظيفتان إحداهما هي التعبير والأخرى وظيفة رمزية تتطلب البحث عما ترمز إليه. وقد أدت هذه التفرقة إلى قيام اتجاهين كبيرين في التفسير: الاتجاه نحو استرجاع المعنى وإعادة بنائه وهو الذي يتبعه رجال الدين الذين يهتمون باسترجاع المعنى الأصلي للرموز في (العهد الجديد). والاتجاه الآخر يقوم على الشك ويضم مفكرين من أمثال نيتشه وماركس وفرويد وغيرهم ممن يهتمون بتحليل ـ أو تجزئة ـ المعنى, وليس تجميع الأجزاء كما هو الشأن في الاتجاه الأول, ورد ذلك المعنى إلى عوامل ودوافع كامنة وخفية.

أصالة ريكير

تكشف أعمال الفيلسوف بول ريكير عن تأثره بالوجودية والفنومنولجيا والبنائية, وإن كان اسمه ارتبط ارتباطا وثيقا بالاتجاه التأويلي أو الهرمنيوطيقي. وقد اهتم اهتماما كبيرا بدراسة وتقديم فكر الكثيرين من الفلاسفة السابقين عليه, لدرجة أنه كثيرا ما كان يخصص أثناء تدريسه بالجامعة سنة كاملة لتقديم فكر فيلسوف واحد فقط من الفلاسفة الذين تأثر بهم من أمثال هايدجر وهوسرل وياسبرز. ومع ذلك فإن كتاباته تتميز بالأصالة والتجديد الناجمين عن موقفه النقدي من أعمال الآخرين, كما تغطي هذه الكتابات مجالات متنوعة تتراوح بين الدراسات الفلسفية والاجتماعية والدينية والثقافية العامة, بل إن بعض المقالات التي كتبها أثناء فترة رئاسته لجامعة نانتـيـر تعرضت لمفارقات القوى السياسية والعلاقة بين الدولة والمواطن, وبين الحياة والفن, وبين الحياة والموت واكتشاف مناطق الالتقاء بين الدين والفلسفة.

كان مولد بول ريكير في فالانس بغرب فرنسا في السابع والعشرين من فبراير عام 1913. ومع أنه تجاوز الآن الثامنة والثمانين فإنه لا يزال نشيطا ومنتجا بنفس القوة والقدرة والدقة تقريبا. وقد اشتغل بعد تخرجه في جامعة باريس عام 1937 بالتدريس في المدارس الثانوية, حتى شارك في الحرب العالمية الثانية, ووقع أسيرا في أيدي القوات الألمانية وظل في المعتقل من عام 1940 حتى نهاية الحرب, وبعدها عمل في المركز القومي للبحث العلمي بباريس حتى عام 1948, ثم انتقل ليعمل أستاذا بجامعة ستراسبورج حتى عام 1957 ثم انتقل إلى السوربون, ثم شغل بعد ذلك ـ بناء على طلبه ـ منصب العميد لجامعة باريس العاشرة المعروفة باسم نانتير التي لعبت دورا كبيرا في أحداث الطلاب عام 1968. وقد دفعته تلك الأحداث إلى الاستقالة من منصبه لكي يعود بعدها إلى نفس الجامعة كأستاذ متفرغ, وفي الوقت ذاته تم تعيينه أستاذا غير متفرغ بجامعة شيكاغو.

وقد تأثر منذ أيام الدراسة بتفكير جابرييل مارسل الذي كان يقود تيار الوجودية (المسيحية) كمقابل لوجودية سارتر, كما تأثر بتفكير ياسبرز وبالفنومنولوجيا الألمانية (هوسرل وهايدجر). وقد انعكست هذه التأثيرات الفكرية في كتاباته, إذ ظهر تأثير جابرييل مارسل في اهتمامه بالكتابة عن المشكلات الدينية واللاهوتية, كما ظهر تأثره بالفنومنولوجيا ومشكلات التفسيرات في اتجاهه الهرمنيوطيقي الذي يعرف عموما باسم الهرمنيوطيقا الفنومنولوجية. وكما يقول الأستاذ جون طومبسون ـ وهو أحد المهتمين بدراسة فكر ريكير ـ إن بول ريكير كان خلال كل حياته الفكرية يهتم بمشكلة الذات الإنسانية الفاعلة أو الشخص الإنساني الفاعل وأن الدافع الأساسي وراء كل أعماله الفلسفية كان هو الاقتناع الوجودي بأن الوجود الإنساني له معنى, وأنه بصرف النظر عن وجود الشر والألم والاستعباد (أو عدم الحرية) فإن ما في الوجود (مما له معنى) يفوق بكثير جدا (ما ليس له معنى), فالمعنى والوجود هما الطرفان اللذان يلخصـان مشـروعه الفلسفي مما يعني أن فكره الفلسفي فكر وجودي إلى حـد كبير لأن موضوعه هو الوجود الإنـساني, كما أنه فكر فنومنولوجي تأويلي بفضل المنهج الذي يتـبعه في حل وفك وتفسـير طلاسم (العلامات) التي تستخدم في التعـبيـر عن نظرتنا وتصورنا بل ورغبتنا في وجود تلك العلامات.

الإرادة.. الشك والإيمان

وتمثل مشكلة الإرادة موضوعا محوريا في الفكر الوجودي والفنومنولوجي على السواء ولذا كان ريكير يوليهـا أهمـية كبرى منذ أوائل إنتاجه بحيث كان يعتزم تكريس عمل ضخم لدراسة المشكـلـة ونتـج عن ذلك كتـابـه (فلسفة الإرادة). وكان ريكير ينوي في أول الأمر أن يصدر هذا الكتـاب في ثلاثة أجزاء, وظهر الجزء الأول بالفعل عام 1950 عن (الإرادي واللاإرادي) ثم توقف عن العمل في المشروع ووجه اهتمامه إلى تعريف مجال الوجدان والمشاعر والاختيار وظهر حول ذلك كتابه عن (الإنسان المعرض للخطأ) وهو دراسة في الأنثروبولوجيا الفلسفية, ومن بعـده كتابه عن رمزية الشر الذي يعتبره البعض البداية الحقـيقية لاهتمامه بالهرمنيوطيقا, أو بالأحرى البداية الحقيقية لمسيرته في ذلك الطريق التي بلغت ذروتها في كتابه عن (التفسير: دراسة عن فرويد) وقد ظهر الكتاب عام 1965 وتمت ترجمته إلى الإنجليزية عام 1970 تحت عنوان (فرويد والفلسفة) وقد اهتم فيـه بتبـيين الجوانب النقدية واللانقدية في التفسير من خلال وضعهما في نوع من التقابل الجدلي المتمثل في تقابل ما يسميه هرمنيوطيـقا الإيمان وهرمنيوطيقا الشك. فإذا كانت نظرية التأويل ارتبطت في أول الأمر بقراءة الكتـاب المقدس ـ على ما ذكرنا ـ وهو ما يطـلق عليه ريـكير اسم هرمنيوطيـقا المقـدس ويرد إليه إدراك المعنى أو تذكر المعنى بقصد تفسيـر الإيمان وهو الأمر الذي يهم رجال الدين في المحل الأول, فإن هرمنيوطيقا الشك ترتبط بأعمال فئة معينة من المفكرين الذين يعتبرون النص مجرد واجهة أو (سطح علوي) تكمن تحـته الحقيقة الجوهرية, مما يعني أن هرمنيوطيقـا الشك تهتم بالبحث عن المعنى الأصلـي أو الأساسي عن طريق (نزع القناع) والكشف عن (الوعي الزائف) وهو ما يتحقق في عمليات نقد الأيديولوجيات ـ كما هو الشأن في التحليل الاقتصادي عند ماركس, والتحليل النفسي عند فرويد.

ويعتبر ريكير هذه الهرمنيوطيقا نوعا من التأويل (الأركيولوجي) لأنها (تنقب) في الماضي للكشف عن المعاني (التحتية) البدائية والمتخفية وراء الأغراض المدركة شعوريا والدفينة تحت المظاهر السطحية وذلك على العكس تماما من هرمنيوطيقا الإيمان التي تتجه نحو المظاهر ذاتها لمعرفة قدرتها على الكشف وليس على الإخفاء.. فهي تهدف إلى الكشف عن ما يعنيه صاحب النص في الحقيقة حتى وإن لم يفصح عنه بوضوح. وعلى ذلك فإنه بدلا من أن تـتـوغل هرمنيوطيقا الإيمان في (الأسرار المظلمة) للنص فإنها تحاول أن ترى النص في ضوئها هي ذاتها, ولذا تتجه تأويلاتها نحو المستقبل, فهي تأويلات (غائبة) وليست تأويلات (أركيولوجية).

ولقد اتهم بعض النقاد ريكير بأن أعماله لا تتبع خط تفكير واحدامستقيما منطقيا ومحددا وأنه لا تكاد توجد علاقة منطقية في تتابع هذه الأعمال التي زادت على المائة (منها اثنا عشر كتابا أساسيا). وينفي ريكير عن نفسه هذه التهمة في حوار أجرته معه جريدة (الموند) الفرنسية ونشر في أول فبراير عام 1981, وذهب فيه إلى أن كل عمل من أعماله الكبرى كان يهييء الأذهان في نهايته للعمل الذي يليه, مما يعني أن ذلك الإنتاج الضخم صدر عن عملية فكرية متحركة ومتطورة ينتقل فيها الذهن بشكل طبيعي, ليس فقط من موضوع إلى آخر, ولكن أيضا من مجال لآخر في ترتيب معقول ومقبول. فنهاية كل عمل من تلك الأعمال كانت تترك وراءها مساحة خالية تحتاج إلى استكمال. فحين انتهى مثلا من كتاب (الإرادي واللاإرادي) وجد أنه يتعين عليه أن يعالج مشكلة الإرادة الشريرة فكتب (الإنسان المعرض للخطأ), وهذا بدوره ترك في نهايته الباب مفتوحا لدراسة مشكلة الرمز (رمزية الشر) وظهر له أثناء ذلك أن هنـاك أسلوبين لدراسة تلك المشكلة, إما من خلال الأساطير وإما من خلال التحليل النفسي أي من منظور باثولوجي وأنه توجد بناء على ذلك قراءتان مختلـفتان لفهم الرموز وتفسيرها, إحداهما تتوخى البحث عن ما في هذه الرموز من إشارة إلى معاني الارتفاع والارتقاء والسمو والأخـرى ترمي إلى الكشف عن ما تشير إليه هذه الرموز والأساطير من انحطاط وتدهور. وهذا معناه أن إحدى القراءتين تسلـك الخط الديني اللاهوتي الذي يتلاءم مع هرمنيوطيقا الإيمان, بينما تسلك القراءة الثانية طريق هرمنيوطيقا الشك التي تجدها في أعمال نيتشـه وفرويد. وثمة صراع بين هذين الاتجاهين كرس له ريكير كتابه عن (التأويلات: مقالات في الهرمنيوطيقا).

السؤال القديم

وعلى أي حال فإن بول ريكير ظل طيلة الوقت وفي كل كتاباته يهتم اهتماما خاصا بالنواحي الأخلاقية والسياسية للوجود الإنساني, وببعض المشكلات الأساسية المتعلقة بهذا الوجود مثل مشكلة العدالة ومشكلة المسئولية. وكما يقول الأستاذ جون طومبسون إن أهم إسهام باق أسهم به ريكير في الفلسفة هو الطريقة التي استطاع بها أن يجعل قراءه يفكرون من جديد في السؤال المركزي القديم في الفلسفة وهو: من نحن?

وحياة بول ريكير هي حياة الأستاذ الأكاديمي الخالية من الإثارة ومن المفاجآت والبعيدة حتى عن المشاركة في الأحداث الكبرى التي تحدث في المجتمع, فهو يختلف عن جان بول سارتر مثلا وعن بعض الفلاسفة البنائيين وما بعد البنائيين من أمثال دريدا الذين شاركوا في حركة الطلاب عام 1968, وهو نفسه يقول في ذلك إن حياته كانت دائما حياة عقلية داخلية وباطنية. وقد وصف نفسه في الحوار الذي أجرته معه صحيفة (الموند) بأنه ابن يتيم لأحد ضحايا الحرب العالمية الأولى التي قتل فيها أبوه وهو طفل صغير, وأنه نشأ لذلك في بيت أجداده الذي يصفه بأنه بيت كان فيه كثير من الصرامة ولكنه لا يخلو من الحب. وذهب في ذلك الحديث إلى حد القول: (ليس هنا من قيمة لحياتي.. فحياتي كانت دائما هي عملي, أعني كتبي ومقالاتي.. إن كتبي هي آثاري الباقية, وقد يكون تاريخ آرائي الفلسفية طريقا ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة لتاريخ حياتي).

 

أحمد أبوزيد