بلدان الجنوب وإرهاصات العولمة

بلدان الجنوب وإرهاصات العولمة

إلى أين تتجه بلدان الجنوب في موقفها من الحضارة الغربية المعاصرة. هل تتصارع معها أم تتبنى قيمها?

من الكتابات الأساسية التي تحلل واقع البلدان النامية, أو بلدان الجنوب في علاقتها بالحضارة الغربية الحديثة كتابات صاموئيل هنتنجتون, وفرانسيس فوكوياما. وقد تبنى هنتنجتون فرضية (صراع الحضارات) مصوّراً العلاقة بين حضارات العالم, وبخاصة حضارات الجنوب, على أنها عداء وصراع ليس من جانب الحضارة الغربية التي تتميز - كما يقول - بالتسامح, والإنسانية, وتقبل التعددية الثقافية - ولكن من جانب حضارات العالم غير الغربية التي تتميز بالاستبداد, والانغلاق على ماضيها, وتراثها القديم وتجربتها الحضارية الخاصة بالرغم من الفشل الدائم لهذه التجربة في تقديم حلول حقيقية لمشاكلها المعاصرة. وتشمل هذه المشاكل الفقر, والبطالة, وتدنّي مستوى المعيشة وكثرة الإنجاب, والدكتاتورية, والفساد.

أما فرانسيس فوكوياما فقد تبنى فرضية مخالفة لفرضية هنتنجتون, هي فرضية (أهمية الرأسمالية), وبخاصة في كتابه المعروف (نهاية التاريخ وخاتم البشر) الذي يقرر فيه أن مجتمعات العالم كلها - وبدرجات متفاوتة في السرعة - تتجه في تطوّرها نحو النمط الرأسمالي الليبرالي الذي يسود في الغرب. ويمكن - في رأيه - لعديد من هذه المجتمعات أن تصل إلى علاقة تسامح, وتعاون بينها وبين الحضارة الغربية الحديثة, تحقق هذه المجتمعات من خلال ذلك مستويات ملحوظة من الرفاهية الاجتماعية, والعدالة الاجتماعية, والحريات الفردية.

الحضارات وصراعها

يرى هنتنجتون أن المسئول عن تخلف بلدان الجنوب وعدم نموّها الاقتصادي والاجتماعي ليس الاستعمار, أو التبعية, وإنما الشخصية القومية, أو الحضارية لشعوب هذه البلدان. فهذه الشخصية القومية وما تحتويه من عناصر متداخلة تحدد الاستعدادات الذهنية والتكنولوجية لهذه الشعوب, وبخاصة مدى تقبّلها للتحديث والتطوير وما يرتبط بذلك من مواقف معادية للحضارة الغربية الحديثة. وهو يؤكد أن هذه البلدان لا يمكن أن تصبح غربية حتى وإن أرادت ذلك, وسعت إليه, ويعود ذلك لطبيعة الروح الحضارية فيها. وما تنتجه من حركات محلية دينية وغير دينية تناصب الغرب العداء الصريح كما هو الحال بشكل خاص بالنسبة للحضارتين الكونفوشية والإيرانية.

ويتنبأ هنتنجتون - بالاستناد إلى أدلته وتحليلاته - أن العلاقات بين الحضارات المعاصرة تتسم خلال العقود القادمة بالصراع وليس التعاون.

وبما أن حضارات العالم تقف موقف المشاكسة والعداء للحضارة الغربية المعاصرة, يقترح هنتنجتون أن على الحضارة الغربية نتيجة لذلك أن تتوقف عن التعاون مع هذه الحضارات المعادية, وبخاصة في مجالات حل النزاعات المحلية في البلدان النامية, وعدم تصدير التكنولوجيا الحديثة إلى هذه الحضارات. كما يقترح أن تركز الحضارة الغربية على توحيد الغرب اقتصادياً وسياسياً, وتطوير إمكاناته مادياً وروحياً. وهي الإمكانات التي أعطت الحضارة الغربية تميّزاً لم تحققه أي حضارة أخرى قديمة أم معاصرة. وهو تميز يقوم على الخصائص التالية: الإرث الحضاري الكلاسيكي, أو اليوناني (وكان للعرب والمسلمين دور واضح في حفظ هذا التراث ونقله إلى أوربا), والمسيحية الغربية التي ساهمت في تشكيل هوية الغرب, والعلمانية أو الفصل بين ما هو مقدس وما هو دنيوي, وسيادة القانون, والتعددية الاجتماعية, والمجتمع المدني, والتمثيل النيابي الديمقراطي, وحقوق الإنسان, والفردية الإنجازية.

ويؤكد هنتنجتون إضافة إلى ذلك أن هذه الخصائص التي أعطت الحضارة الغربية تفرّدها, وتميّزها من الصعب أن تتحقق في الحضارات المعاصرة الأخرى, وبالتالي لن تستطيع هذه الحضارات أن تصل إلى مستوى الغرب وإن حققت بعض التحديث والتطوير - ما عدا الحضارتين اليابانية والهندية - اللتين استوعبتا, ووطنتا عدداً من هذه الخصائص فتحوّلتا إلى حضارات غربية متقدمة خارج حدود الغرب الجغرافية.

الرأسمالية تسود

يرى فوكوياما - على عكس هنتنجتون - أن مجتمعات العالم جميعها تسير نحو الديمقراطية الليبرالية, ولكن بسرعات متفاوتة, وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, والتجربة الاشتراكية بشكل عام الذي نتج عنه انتصار ساحق للديمقراطية الليبرالية. وتمر المجتمعات - في رأيه - بمرحلة سابقة على الديمقراطية الليبرالية يسود فيها الاستبداد, والقمع, والتخلف, ويعطي مثلاً لهذه المرحلة ما كان سائداً في بلدان الاتحاد السوفييتي سابقاً. ولكي تتخلص المجتمعات من سلبيات هذه المرحلة وتنتقل إلى مرحلة الديمقراطية لابد من توافر شروط سياسية وغير سياسية هي الشروط الاجتماعية الحضارية, ويعطي فوكوياما لهذه الشروط الأخيرة أهمية كبيرة في تحقيق التحوّل الديمقراطي في المجتمعات. وأهم هذه الشروط الاجتماعية - الحضارية ما يلي:

- تطور البنية الاجتماعية نحو التأكيد على المساواة بين الأفراد, وتقليل الفوارق الطبقية, والطائفية, والإقليمية بينهم, وإنتاج عادات ومفاهيم ذهنية مرتبطة بمثل هذا التطور, ومدعمة له.

- قيام المجتمع النامي بإيجاد وتدعيم مراكز للسلطة الوسيطة التي تتوسط بين الأفراد والدولة, أي إيجاد وتدعيم مجتمع مدني نشط, وفعال, يستطيع الناس من خلاله ممارسة حرياتهم دون ضرورة للاعتماد على الدولة فقط.

- عدم المبالغة بالتميز القومي, أو خصوصية الهوية الذي قد يدفع المجتمع النامي إلى العزلة الحضارية, وإلى ممارسة التعصب الثقافي, مما يجعله يرفض اقتباس وتعلم ممارسات حضارية جديدة.

- الوصول إلى تفسيرات مستنيرة للنصوص الدينية تحل محل التفسيرات القديمة. فغالبية القيم الدينية في الأديان المختلفة تدعم المساواة, والعدالة الاجتماعية, والتسامح, وهي أيضاً من القيم الأساسية للديمقراطية الليبرالية, وبالتالي من المهم التأكيد في التفسيرات الجديدة على مثل هذه القيم.

ويرى فوكوياما أن هناك أدياناً تعيق الوصول إلى الديمقراطية الليبرالية مثل الهندوسية التي ترفض التسامح والمساواة, أما الديانات السماوية التي تؤكد على التسامح والمساواة, والعدالة الاجتماعية فإنها تحبّذ الشورى والمشاركة, وتلتقي في ذلك مع قيم الديمقراطية الليبرالية وهو يقف موقفاً نقدياً من الحركات الدينية المتطرفة التي تمارس العنف والإرهاب ضد الدولة, وضد المجتمع بجماعاته وأفراده, وتطرح نموذجاً استبدادياً للحكم مناقضاً للديمقراطية.

- توجه الصفوة السياسية والاجتماعية المخلص لدعم القيم والممارسات الديمقراطية الليبرالية في الحياة اليومية بحيث تصبح هذه الصفوة قدوة لعامّة الناس. ومن هذه الممارسات: حرية التعبير, والحريات الشخصية, وحرية الاجتماع, وتكوين الأحزاب, والمشاركة السياسية في الحكم.

ويؤكد فوكوياما على الدور الحاسم لهذه العوامل الاجتماعية - الحضارية في نقل المجتمعات النامية إلى مرحلة الديمقراطية الليبرالية. فاختلاف الشعوب في هذه العوامل يفسر كيف أن الدساتير المتماثلة قد تؤدي مهمتها بكفاءة, وسلاسة في دول معينة, ولا تؤديها بكفاءة في دول أخرى. كما يفسر السبب في رفض الشعب نفسه للديمقراطية في عصر ما, وتبنيه إياها دون تردد في عصر آخر.

حضارتنا وإرهاصات العولمة

تبنّت البلدان العربية والإسلامية بشكل عام موقف الإعجاب بالحضارة الغربية الحديثة ومنتجاتها المادية والإدارية منذ عصر التنظيمات العثمانية, حيث عملت الدولة العثمانية, كما عمل محمد علي باشا في مصر فيما بعد, على استقدام الخبراء العسكريين الغربيين (الفرنسيين والألمان, بشكل خاص), وعلى إرسال البعثات إلى أوربا الغربية, وبخاصة إلى فرنسا لتعلم العلوم الغربية, وصناعة المنتجات العسكرية, وتقنيات تنظيم الجيوش على أسس معاصرة.

وساعد نجاح الدولة العثمانية في ذلك على إطالة عمرها لقرن كامل على الأقل في وجه مطامع التوسع الروسي والبريطاني على حساب الأراضي العثمانية. كما مكّن النجاح في هذه العلاقات مع الحضارة الغربية الحديثة محمد علي باشا من بناء إمبراطورية قوية عسكرياً, ومزدهرة اقتصادياً بمقاييس ذلك العصر (العقود الأولى من القرن التاسع عشر), والجدير بالملاحظة أن مصر في هذه الفترة كانت أكثر تقدّماً وقوة من اليابان التي كانت ترزح تحت وطأة الاستبداد الإقطاعي.

وفي المرحلة الحالية تتبنى البلدان العربية موقفاً إيجابياً من الحضارة الغربية الحديثة يتمثل في التعاون معها في المجالات التجارية, وفي مجالات العلوم, ونقل التكنولوجيا, لكن هناك حركات سياسية محدودة تتميز بالتطرف والعنف تهاجم الحضارة الغربية باستمرار, وتحرّض على تبني موقف الرفض والإلغاء لهذه الحضارة مما يدخل أطيافاً من الشك وعدم الثقة والتحفّظ على مواقف الدول الغربية وسياساتها الخارجية. هذه الحركات المتطرفة لا تمثل الموقف العربي الرسمي, كما لا تمثل الموقف العربي والإسلامي العام الذي يرفض هذا التطرف ويدينه, ويطرح بدلاً عن ذلك من خلال العلاقات السياسية, والتجارية, ومن خلال التواصل الفكري في مؤتمرات وندوات (حوار الحضارات) التوجه المعتدل والإيجابي الذي يميّز الحضارة العربية الإسلامية في جوهرها الأصيل فيما يتعلق بـ(الآخر) الحضاري.

فالحضارة العربية الإسلامية تعطي كما تأخذ فهي تعطي الحضارات الأخرى قيماً مقدّسة هي قيم العدالة الاجتماعية, والمساواة, والتسامح, والاعتدال, وهي قيم الإسلام العظيم, وهي تأخذ المنتجات المادية الغربية, والتنظيمات الإدارية, وتقنيات اقتصاد السوق اللازمة لتطوير مجتمع جماهيري كبير الحجم, متعدد المطالب والحاجات. وربما كانت الحضارة الغربية هي الأسبق في العصور الحديثة لتطوير الآليات الاجتماعية لتدعيم ممارسة هذه القيم السامية في الدولة, وفي المؤسسات, وفي السلوك اليومي للأفراد. بينما بقيت الآليات الاجتماعية في الحضارات الأخرى على حالها من القدم, والتقليدية, وعدم الفاعلية بعد أن تغيّرت الظروف واستجدت مطالب وحاجات لا تستطيع الآليات القديمة تلبيتها.

ومع ذلك, يسجل بافتخار بدايات النجاح العربية الإسلامية في تبني وتطوير آليات اجتماعية جماهيرية تجسّد القيم السامية للمساواة, والعدالة الاجتماعية, والتسامح تتمثل في الديمقراطية النيابية, ومنظمات حقوق الإنسان, والتعددية السياسية, والتحوّل إلى اقتصاد السوق. وهو ما يلحظه كل من هنتنجتون وفوكوياما وهما يقفان موقف المحلل العلمي من ديناميات الحضارة العربية الإسلامية المعاصرة, لكنهما يدينان في الوقت ذاته الحركات المتطرّفة التي تناصب الحضارة الغربية العداء الصريح, كما تناصب مجتمعاتها التي تنشأ فيها العداء, والإرهاب, سواء أكانت هذه الحركات في العالمين العربي والإسلامي, أو في مناطق أخرى في إفريقيا, وآسيا, وأمريكا اللاتينية.

ومهما يكن من أمر فإن الحضارة العربية الإسلامية ليست هي المستهدفة في كتابات هنتنـجتون , أو فوكوياما... ليست هي (الآخر) المعادي, أو المناقض للحضارة الغربية, هذا الآخر المستهدف بشكل خاص هو الحضارة الاشتراكية, أو بالتحديد الاتحاد السوفييتي سابقاً الذي ناصب الغرب العداء الصريح, وشكل على مدى بضعة عقود تهديداً مادياً حقيقياً للحضارة الغربية, إضافة إلى التهديد الأيديولوجي. وكان لسقوطه, وانهياره المدوي قبل سنوات قليـلة ماضية أثره الكبير في تزايد هذا السـيل من الكتابات والأطروحات التي تبشّر بانتصار الرأسمالية - وقد تحقق ذلك - وأهميتها, وعوامل النجاح في الوصول إليها.

ويشمل (الآخر) المناقض للحضارة الغربية أيضاً الحضارة الصينية, والحضارة الإيرانية. ويتخوّف هنتنجتون من قيام تحالف سياسي - حضاري صيني إيراني ضد الحضارة الغـربية المعاصرة. لكن التوجه الحالي لكل من الصـين, وإيران للتقـارب مع الغرب من خلال زيادة العلاقات السياسية, والدخول في اتفـاقات تجارية, إضافة إلى تبني عدد من اقتصاديات السوق يخفف إلى حد كبير من إمكان الصدام بين هذه الحضارات الثلاث, ويقودها إلى مزيد من التقارب, والتعاون, والحوار.

 

مجد الدين خمش