الوجوه الثلاثة للثقافة العربية

الوجوه الثلاثة للثقافة العربية

للثقافة العربية المعاصرة ثلاثة وجوه: وجه يتعلق بالماضي، ووجه يتعلق بالحاضر، ووجه أخير يتعلق بالمستقبل، وبين الوجوه الثلاثة يمكن أن نفهم أزمة الثقافة العربية الراهنة، وآفاقها المستقبلية وفقاً لطبيعة العلاقة بين وجوهها كما يستعرضه هذا الطرح.

وجه الماضي: إعادة اختراع التقاليد!

إعادة اختراع التقاليد هو أدق وصف للمناخ الثقافي العربي الراهن. ذلك لأنه - نتيجة لتفاعلات شتى دولية وسياسية واقتصادية وثقافية - تسود المجتمع العربي في الوقت الراهن موجة عارمة من العودة للدين، والذي يتمثل في انتشار مظاهر التديّن الشعبي بين مختلف الطبقات، وانتشار الفكر الخرافي الذي يستند زوراً وبهتاناً لأسانيد دينية، وشيوع الفكر المتطرف الذي يلوي عنق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تعبيراً عن رؤية مغلقة للعالم تقوم أساساً على التحريم والتكفير، وبروز الإرهاب ضد المسلمين وغيرهم، ترجمة لهذا الفكر المتطرف. نحن لا نتحدث هنا عن بعض المؤشرات الشكلية مثل شيوع الحجاب حتى في بلد مثل مصر، شهد تحرّر المرأة منذ العشرينيات، ولكن في اعتبار الحجاب بذاته هو رمز الإسلام، بالرغم من غياب آيات ملزمة بذلك. ولعل مما يكشف عن عملية إعادة اختراع التقاليد التي تقوم أساساً على اعتبار الماضي هو المرجعية التي ينبغي أن تحكم سياسات الدول وسلوك البشر. إن الحجاب أصبح هو المعركة الأساسية في فرنسا بعد صدور القانون الفرنسي الذي يحرّم ارتداء شارات دينية في المدارس العمومية سواء كانت يهودية أو مسيحية أو إسلامية.

تصاعدت صيحات الغضب من البلاد العربية حتى وصلت حدود فرنسا، وكأن معركة الإسلام المعاصر هي الحجاب، وليست السلوك المتخلف لجماعات شتى من المسلمين الذين يرفضون الانفتاح على العالم، ويصرّون على تقليد السلف تقليداً أعمى في الملبس والمأكل والسلوك، مع أن الزمان غير الزمان، والمجتمع غير المجتمع.

ولو أجرينا عملية تحليل مضمون للأسئلة التي تطرح من قبل الرجال والنساء - المتعلمين منهم والجهلة، والجامعيين منهم وغيرهم ممَن يقومون بالإفتاء - لأدركنا أننا أمام كارثة ثقافية كبرى. والواقع أنه لا يعدل تفاهة الأسئلة وهامشية ما تطرحه من موضوعات سوى جهالة الإجابات، التي تقدمها الأغلبية العظمى ممن يقومون بالإفتاء، والتي تكشف بوضوح أنهم لا يعيشون عصرهم، بل إنهم - وهذا هو الأخطر - لا يفهمون المقاصد العليا للإسلام حق الفهم، ويتزمتون حيث لا مجال للتزمت، ويحرمون حيث لا مجال للتحريم، ويقدمون على الإجمال صورة كئيبة للحياة، التي ينبغي أن يمارسها المسلمون في زعمهم حتى يكتسبوا مرضاة الله.

لا يمكن للمجتمع العربي أن يتقدم إذا تحكمت فيه هذه الرؤية الماضوية، المصممة على أن يتحكم الموتى في الأحياء. ومن المؤشرات الدالة على سيادة عملية إعادة اختراع التقاليد تراجع الفكر العلماني الذي يفصل بين الدين والدولة في ظل التشويه المتعمّد من قبل أنصار الفكر الإسلامي المتطرف، والذي يصف العلمانية بأنها كفر. وهذا التراجع الفكري العلماني تم لحساب الفكر المتطرف الذي يدعو لإنشاء دولة إسلامية أي دولة دينية، تصبح الآلية الأساسية في مجال إصدار القرارات فيها هي الفتوى وليس التشريع، الذي تقوم به المجالس النيابية المنتخبة تحت رقابة الرأي العام.

وإذا أضفنا إلى ذلك الدعوات التي تنادي بأسلمة المعرفة، بمعنى أخذ المعرفة الغربية ثم أسلمتها، لأدركنا أن هذه الدعوى الزائفة من وجهة النظر الإبستمولوجية، لن تؤدي - إذا تمت وهذا مستحيل - إلا إلى عزل العرب عن التيار المتدفق للمعرفة العلمية العالمية في مجال العلوم الطبيعية كما هو الحال في مجال العلوم الاجتماعية.

وفي الاتجاه نفسه تصب الكتابات التي تكاثرت في الحقبة الأخيرة عن «الإعجاز العلمي في القرآن»، والتي لا تفعل إلا الفخر بسبق القرآن للعلم الحديث، مع أنه ليس - كما هو معروف - كتاب في العلوم. بالإضافة إلى أن هذه الدعوات يمكن أن تضع النصوص الدينية في حرج، لأن العلم متغير. لذلك دعونا منذ سنوات إلى شعار مؤداه أن «العلم يقوم على الشك في حين أن الدين يقوم على اليقين».

وبالإضافة إلى ذلك ما هو فضل الذين يرددون شعار الإعجاز العالمي للقرآن من المسلمين، في حين أن الغربيين هم الذين ينتجون العلم، وهم الذين يبتكرون التكنولوجيا، وهم الذين يعلنون كل يوم عن اختراعاتهم النافعة للبشرية جمعاء.

أليس في هذه الدعاوى العريضة غير المؤسسة على الحقائق تعبير فج عن الإحساس بالدونية إزاء الغربيين من العلماء والمبتكرين والمبدعين؟

وإذا كانت مرجعية الحياة ستصبح هي الماضي فماذا سيفعل المسلمون في الحاضر، وما هي رؤية العالم التي سيمارسون حياتهم في ضوئها خصوصاً ونحن نعيش في عصر العولمة، حيث لا تغني المقاطعة الثقافية، ولا العزلة الدولية؟!

وجه الحاضر: العرب في مواجهة العاصفة!

يطرح على الثقافة العربية في الوقت الراهن سؤال خاص بعاصفة القرن الحادي والعشرين: كيف ستتفاعل مع العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية؟

ولابد أن نبدأ بتساؤل: هل يمكن إصدار حكم قاطع فيما يتعلق بقبول أو رفض العولمة؟ إن إصدار حكم نهائي على العولمة ينص على رفضها رفضاً مطلقاً، يكشف عن تعجّل في إصدار الأحكام بغير تأمل في منطق التطور التاريخي. وإذا كان صحيحاً أن العولمة الراهنة تكشف عن ذروة من ذرى تطور النظام الرأسمالي العالمي، فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة، وسيكشف في المستقبل المنظور أن العولمة - بغض النظر عن نشأتها الرأسمالية - ستتجاوز شروط نشأتها لتصبح عملية عالمية واسعة المدى، ستنقل الإنسانية كلها - على اختلاف ثراء وفقر الأمم - إلى آفاق عليا من التطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي.

وبعبارة أخرى ستحدث آثار إيجابية لم تكن متصوّرة لدى مَن هندسوا عملية العولمة، بل وستتجاوز هذه الآثار مخططاتهم، التي كانت تهدف للهيمنة والسيطرة على النظام العالمي، وسيثبت التاريخ أنه لن يتاح لدولة واحدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى لمجموعة من الدول الكبرى أن تهيمن هيمنة كاملة على العالم اقتصادياً وسياسياً وتكنولوجياً وعلمياً، وإلا حكمنا على شعوب الأرض جميعاً بالعقم وعدم الفاعلية.

وفي هذا الإطار، فثمة حاجة ملحة إلى منهج صحيح للتعامل مع ظاهرة العولمة بكل أبعادها، فالعولمة عملية تاريخية غير قابلة للارتداد. وبذلك يعد منطقاً متهافتاً ما يدعو إليه بعض أعدائها من ضرورة محاربتها، لأنك لا تستطيع الوقوف أمام نهر يتدفق، لأنها في النهاية تعبر عن حصاد تقدم إنساني تم عبر القرون الماضية، وأسهمت فيه شعوب وحضارات شتى. هل يمكن مثلاً محاربة شبكة الإنترنت، من خلال إصدار قرار بالامتناع عن التعامل معها، كما تفعل الآن بعض الأنظمة السياسية العربية؟ وهل يمكن الامتناع عن التعامل معها، كما تفعل الآن بعض الأنظمة السياسية العربية؟ وهل يمكن الامتناع عن التعامل مع منظمة التجارة العالمية، مع الاعتراف بسلبيات متعددة في نصوصها؟ وهل يمكن مواصلة خرق حقوق الإنسان وقمع الشعوب، في إطار من العولمة السياسية يدعو لضرورة تطبيق الديمقراطية، ونشر آفاق التعددية السياسية والفكرية؟ وهل يمكن مقاومة بزوغ وانتشار ثقافة فكرية كونية تحمل في طياتها تبلور الوعي الكوني بأخطار البيئة على سلامة الكوكب ذاته، وأهمية صياغة معايير أخلاقية كونية تضع قواعد المنهج في التعامل بين الشعوب والحوار بين الحضارات، وتحارب العنصرية والتطهير العرقي والتعصب الديني، والاستقلال الاقتصادي؟

إن المعركة الحقيقية لا تكمن في مواجهة العولمة كعملية تاريخية، وإنما ينبغي أن تكون ضد نسق القيم السائد الذي هو في الواقع إعادة إنتاج لنظام الهيمنة القديم. وهنا على وجه التحديد ينبغي تحديد طبيعة المعركة في النضال - على المستوى الدولي - للقضاء على ازدواجية المعايير في تطبيق حقوق الإنسان، وعدم فرض نموذج الديمقراطية الغربية كنموذج أوحد للديمقراطية، وإتاحة الفرصة للشعوب، لكي تمارس إبداعها السياسي. وهناك ضرورة عاجلة لتقنين حق التدخل حتى لا يشهر كسلاح ضد الشعب العربي وغيره من شعوب الجنوب. كما أن قضية حل الصراعات بأسلوب سلمي، وتحقيق السلام العالمي، وإعادة النظر في مفهوم التنمية على المستوى العالمي، كل هذه ميادين تحتاج إلى نضالات متواصلة لضمان صياغة نسق قيم عالمي يحترم حرية الشعوب، ويسهم في تقدّمها في ظل حضارة إنسانية جديرة بالتحقق في القرن الحادي والعشرين، وفي إطار هذا التقييم العام للعولمة، يظل السؤال الجوهري: ما هي تأثيرات العولمة على الوطن العربي؟

يخطئ صناع القرار العرب لو ظنوا أن تحديات عصر المنافسة العالمية هي تحديات اقتصادية بحتة، تتصل بزيادة الصادرات، أو رفع معدلات الإنتاج، أو الارتقاء بمستوى الجودة، ذلك أن أخطر التحديات جميعاً، في هذا المجال بالذات، تحديات ثقافية. وهنا تتم الإشارة - على وجه الخصوص - إلى الارتفاع الخطر في معدلات الأمية في الوطن العربي، والتي تكاد تصل في بعض التقديرات إلى 40%، ومعنى ذلك أن 40% من الشعب العربي أن يكونوا قادرين على التعامل بكفاءة مع عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، ومع حقبة ثورة الاتصالات الكبرى، ونشوء مجتمع المعلومات العالمي، والتي قد تكون شبكة «الإنترنت» رمزاً دالاً عليها. وهكذا يمكن القول إن الوطن العربي يحتاج إلى ثورة تعليمية كاملة لا تقضي على الأمية فقط، وإنما تعيد تأسيس مؤسسات التعليم العام من حيث الشكل والمضمون، وترفع مستوى الأداء في المؤسسة الجامعية، وفي المراكز البحثية.

أما بالنسبة للتجليات السياسية للعولمة، فإنه يمكن القول إنها تتركز في رفع شعارات الديمقراطية أو التعددية الفكرية والسياسية، واحترام حقوق الإنسان. وفي مواجهة كل شعار من هذه الشعارات الثلاثة، تجابه الدول العربية جميعاً تحديات خطيرة، فقد قطعت بعض الدول العربية خطوات لابأس بها في طريق الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية والتعددية السياسية، إلا أن هذه التعددية السياسية مازالت مقيدة، كما أن عدداً لابأس به من الدول العربية لم يخط الخطوة الأولى في طريق الديمقراطية. ومن المشكلات المثارة في هذا المجال ما يطرح حول: أي نظرية ديمقراطية يمكن تطبيقها بحذافيرها، وهناك معارضون لهذا التوجه يدافعون عن الخصوصية الثقافية في هذا المجال، ويرفعون شعار الشورى في مواجهة الديمقراطية الغربية، أو يطالبون بتأسيس ديمقراطية عربية تتفق مع الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية في المجتمع العربي. غير أنه ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن هناك اعترافاً عالمياً بالقسمات المتميزة للديمقراطية في أي مكان.

أما حقوق الإنسان، فهي تمثّل تحدياً للممارسات السياسية في كثير من بلاد العالم العربي، لأن بعض الدول العربية لا تريد أن تطبق المعايير الدولية لحقوق الإنسان، زعماً بأنها تتعارض مع بعض سمات الخصوصية الثقافية. وعلى الدول العربية أن تستعد لخوض حرب شرسة في هذا المجال مع الهيئات الدولية والمنظمات غير الحكومية التي تضغط لتطبيق المعايير العالمية لحقوق الإنسان.

ويمكن القول إن من أخطر تحديات العولمة السياسية ما برز في ميدان العلاقات الدولية، حيث أصبح حق التدخل، سواء لأسباب سياسية أو لأسباب إنسانية يفرض فرضاً على بعض الدول، أساساً من خلال تحكم الولايات المتحدة، وسيطرتها على مجلس الأمن الدولي، وهكذا، وإعمالاً لهذا الحق الذي يستند - كما يقال - إلى الشرعية الدولية، تم الغزو الأمريكي العسكري للعراق، وتم التدخل السياسي بطرق شتى في السودان. ويعتبر حق التدخل - من وجهة نظرنا - من أخطر التحديات الجديدة التي تواجه العالم العربي، وهو ما يدعو دولة بذلك إلى جهد متصل في مجالين هما.

أولاً- تعديل الأوضاع التي أدت إلى الغزو العسكري الأمريكي للعراق، والتدخل السياسي في السودان، بحيث تنتهي العوامل المرتبطة باستمرار الاحتلال والتدخل.

ثانياً- جهد سياسي وفكري يقع على عاتق رجال الدبلوماسية والقانون الدولي، والمفكرين، في تقديم مبادرات دولية تناقش على المستوى العالمي لتقنين حق التدخل، ومنع الازدواجية في تطبيقه، خاصة ما يتعلق بإخلاء ساحة إسرائيل في هذا المجال، وعدم تطبيق أي عقوبات عليها بالرغم جرائمها اليومية ضد الشعب الفلسطيني.

وأخيراً، فإن القضية المطروحة، في إطار تحليل التجليات الثقافية للعولمة، هي الدعوة لبناء ثقافة كونية تتضمن نسقاً متكاملاً من القيم والمعايير لفرضها على كل الشعوب، مما قد يؤثر على الخصوصية الثقافية للشعب العربي، وهكذا يمكن القول إن تحديات العولمة للوطن العربي متعددة، ومعقدة، وهي - كما تمت الإشارة - ذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية تحتاج إلى جهد كبير من قبل صناع القرار العربي، والجامعات العربية، ومراكز الدراسات العربية، للتعامل معها، لأن الطريق الوحيد أمامنا هو التفاعل الإيجابي الخلاق مع المتغيرات العالمية الجديدة.

وجه المستقبل: غياب الرؤية الاستراتيجية العربية:

الرؤية الاستراتيجية أصبحت مفهوماً محورياً يشيع استخدامه في أدبيات التنمية المعاصرة، ويعني بها مجموع السياسات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي يتبناها نظام سياسي للتطبيق خلال عقدين قادمين. وهذه الرؤية ينبغي أن تنطلق من مفهوم التنمية المستدامة، وهي تقوم على دعائم ثلاث:

الحرية السياسية، والعدل الاجتماعي، والانفتاح الثقافي على العالم.

ولو أردنا أن نصوغ تعريفاً دقيقاً للرؤية الاستراتيجية لقلنا - كما ورد ذلك في أحد المراجع العلمية الموثوق بها: لا صورة ذهنية لما ينبغي أن يكون عليه عالم المستقبل. وبلورة الرؤية الاستراتيجية ينبغي أن يسبقها التنبؤ بتطورات الواقع الحالي، لتقدير الصورة التي سيتشكل عليها المستقبل. والمفكر الاستراتيجي الذي سيناط به صياغة الرؤية لابد أن يتأمل التاريخ، ويشخص الموقف الراهن، ويفحص الاتجاهات السائدة. والاستراتيجية ليست سوى آلية العبور للتحرك من العالم الذي تنبأنا بتطوراته المستقبلية إذا ظل الحال على ما هو عليه، إلى العالم الذي صغنا ملامحه في رؤيتنا الاستراتيجية، ومن المهم التركيز على أن الرؤية الاستراتيجية تساعد في توجيه صياغة الاستراتيجية، ومن المهم التركيز على أن الرؤية الاستراتيجية تساعد في توجيه صياغة الاستراتيجية وفي تنفيذها على السواء، إنها تجعل الاستراتيجية تتسم بالمبادرة بدلاً من أن تكون مجرد رد فعل عن المستقبل». وفي تقديرنا أن هذا التعريف من أشمل وأدق التعريفات التي أعطيت للرؤية الاستراتيجية في التراث النظري المعاصر.

ولعل العنصر الأول من تعريف الرؤية الاستراتيجية بكونها صورة ذهنية لما ينبغي أن يكون عليه عالم المستقبل، يدفع إلى إثارة السؤال الأول في عملية الإصلاح العربي وهو: ما هي الصورة التي تريد للمجتمع العربي أن يكون عليها بعد ربع قرن من الآن، وضعاً في الاعتبار إعطاء مساحة زمنية كافية للإصلاحات الشاملة أن تؤتى ثمارها، بما تتضمنه من تفاعلات اجتماعية معدة، تتضمن من بين ما تتضمنه القبول الاجتماعي للتغيير، أو مقاومته من قبل بعض المؤسسات أو جماعات المصالح، ومدى النجاح في مواجهة هذه المقاومة.

غير أن العنصر الثاني يعد حاسماً، وهو ضرورة التشخيص الدقيق للحالة الواقعية الراهنة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتشخيص الواقع ليس مهمة سهلة كما يظن عديد من الناس، ذلك أن الواقع ليس مجرد معطى ملقى أمام الناس، ويمكن لهم أن يتفقوا على توصيفه! ذلك أنك لو طرحت السؤال عن الواقع العربي، فلن تعدم من أصحاب المصالح مَن يقول لك ليس هناك أبدع من ذلك! ولكنك - على الطرف المقابل - ستجد أصواتاً متعددة يشوبها اليأس والقنوط تؤكد أن الواقع مرير، وأن السلبيات تغمر كل شيء وأن الفساد دب في كل المواقع، وكالعادة سنجد أصحاب الرؤية المتوازنة الذين لا يهونون والذين يمارسون ما نسمّيه النقد الاجتماعي المسئول، فينقدون السلبيات بجسارة، ولكنهم أيضاً - سعياً وراء موضوعية الحكم - يبرزون الإيجابيات بقوة. وفي تقديرنا أننا في حاجة - في المقام الأول - إلى أصحاب الرؤية المتوازنة حتى لا تضيع الحقيقة بين أوهام الإنجازات الخارقة، وتضاعيف سحابات اليأس الخانقة!

غير أن ذلك التوجه لا يكفي بذاته، فنحن في حاجة إلى منهج علمي صارم تقوم على أساسه طريقة موضوعية للتقييم، لا تنهض على أساس الانطباعات العابرة، أو التعميمات الجارفة، وإنما على ضوء مؤشرات كمية وكيفية، ينبغي إتقان صنعها حتى لا تميل الكفة هنا أو هناك، وتكون قادرة على القياس الموضوعي.

غير أن دراسة الواقع وفقاً لمنهج علمي دقيق ليس سوى الخطوة الأولى لصياغة الرؤية الاستراتيجية.

وأيّا ما كان الأمر، فإن الفرضية التي تنطلق منها أنه ليست هناك رؤية استراتيجية عربية متماسكة، ولعل هذا أحد أسباب الاضطراب الشديد في علاقة العرب والعالم، كما تكشف عن ذلك مؤشرات ثقافية شتى في مجال الحوار الحضاري الدائر الآن، والذي يتضمن اتهامات شتى للعرب والمسلمين، وخصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بأنهم إرهابيون، وأن ثقافتهم تسودها تيارات الفكر الديني المتطرف، والذي تتبناه جماعات أصولية شتى.

وعلى ذلك يمكن القول إن مكونات الرؤية الاستراتيجية ثلاثة: وهي الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والانفتاح الثقافي على العالم.

 

 

 

السيد يسين