طَرَفة بن العبد.. الشاعر المفرد (شاعر العدد)

طَرَفة بن العبد.. الشاعر المفرد (شاعر العدد)

يضرب الشاعر في تيه الذات باحثا عن ضوء في آخر نفق العمر القصير، فلا يجد سوى القصيدة منقذة له من ظلم ذوي القربى، المتحالف مع ظلم ذوي السلطة والذي أسلمه للهلاك أخيرا.

إنه طَرَفة بن العبد، غلام الشعر العربي، القتيل في سياق القصيدة الحرة، الذاهب في فيافي الدهشة بحثا عن ربيع الحكمة الفائضة عن حاجة الشعر، فكانت معلقته الذهبية التي استحقت أن تخلد في ذاكرة الإبداع الإنساني، شاهدة على قلق الشاعر الذي انتهى راحة أبدية، ونزقه الذي اكتمل حكمة متشظية بين القوافي، وحياته التي اختار مضطرا كيف يفارقها نفسا نفساً وهو يراقب دمه المنسرب بغواية السكرة الأخيرة.

ولد طَرَفة بن العبد بن سفيان بن سعد، أبو عمرو، البكري الوائلي يتيم الأب، في البحرين قبل الهجرة النبوية بما يقرب من ستة وثمانين عاما (539م)، ومات فيها قبل الهجرة النبوية أيضا بستين عاما (564م)، لكنه بين الولادة والموت مارس حياته على مدى ستة وعشرين عاما حافلة بالأخبار والأشعار والأسفار..والشجن المقيم.

عانى طرفة ذلك اليتم المبكر الذي ساعد أقرباءه الطامعين بالثروة على السطو على ميراثه من أبيه، والنيل منه حتى لا يمنعهم عن ذلك، ولم يجد دفعا لظلمهم عنه سوى الانغماس في اللهو الذي أسلمه للإهمال في رعاية ما تبقى للعائلة من إبل، مما أغضب شقيقه معبد منه...ولما قصد ابن عمه شاكيا نهره بقسوة فلجأ للإغارة والغزو ردحا من الوقت قبل أن يعود لقبيلته مجددا، لكن ذلك لم يدم طويلا، فقد ضاقت القبيلة بتصرفات الشاعر اللاهي فحكمت عليه بالابتعاد عنها في حكم، صوّره الشاعر في معلقته بصورة تهكمية، مستمدة من ملامح بيئته الصحراوية، حيث رأى نفسه وكأنه بعير مصاب بالجرب وينبغي إبعاده، بعد تعبيده بالقار علاجا له، عن بقية القطيع حتى لا تصاب بالعدوى، فكان الشاعر ذلك البعير المعبّد.. المفرد.

حينها بدأ الشاعر الفتي تطوافه في جزيرة العرب محتميا بهجائه المهذب, دفعا لغوائل المتربصين بنزقه الملكي، باحثا عن كنزه المفقود وحكمته المتناسلة من أرحام القوافي. وبين تضاعيف ذلك التطواف نظم تلك المعلقة التي ارتفعت به إلى الصف الأول من شعراء العربية على حداثة سنه وقلة إنتاجه. لكن شعره بما فيه المعلقة التي احتلت سدس ديوانه تقريبا، تميز بذلك الحس الإنساني الفريد من نوعه في جاهلية القصيدة العربية. وأضفت نظراته العميقة للموت والحياة وتصاريفهما فلسفة شعرية قلما انتبه إليها المتقدمون من الشعراء.

بلغ طرفة في نهاية رحلة التيه مملكة الحيرة، فنادم مليكها عمرو بن كلثوم، لكن لذة الشاعر الموزعة في مثلث المرأة والفروسية والخمر.. كخلاصة لمعنى الحياة أوغرت صدر الملك عليه. فربما هجا الشاعر الملك، أو تباهى عليه بفروسيته، أو شبب بشقيقته فغضب الملك من شاعر النزق الملكي وحكم عليه بالموت. لكنه خشي من مواجهة الشاعر السليط بذلك الحكم القاتل، فاختبأ وراء صحيفة حملت الحكم أرسله الملك بها بعد أن ختمها، إلى عامله في البحرين مغريا إياه بهدايا تنتظره في موطنه الأول. ذهب طرفة برفقة خاله الشاعر المتلمس، والذي حمل صحيفته الملكية القاتلة هو الآخر تحسبا من الملك لهجاء محتمل قد يقوله المتلمس إن هو قتل ابن أخته. وفي الطريق كانت لحكمة السن امتحان نجح فيه الخال وحده، فقد توجس المتلمس بخبرته التي عركتها السنون خيفة مما يحملان، وكان توجسه في محله عندما فض الصحيفة. لكن طرفة المعتد بنسبه وشاعريته رفض ذلك مطمئنا إلى أن أحدا لا يجرؤ على المساس به.فقدم إلى البحرين يمني النفس بما يمكن أن يرد لها اعتبارها القبلي في أرضها الأولى، لكن الموت كان الجائزة الأخيرة.. ولم يكن أمامه حينها سوى أن يختار ميتته وهذا كل ما استطاع أن يوفره عامل الملك المتعاطف مع الشاعر وربما الخائف من سطوة قبيلته، للشاعر القتيل.. لا محالة.

كانت معلقته الذهبية الخالدة قد اكتملت فعلا، فربما راجعها مراجعة أخيرة، وهم يفصدون كاحله كما اختار، مرتلا لأبياتها على وقع أنفاسه التي تلاشت شيئا فشيئا إلى أن غاب في سكرته الأخيرة.
-----------------------------------
* شاعرة وكاتبة صحفية من الكويت.

 

 

 

سعدية مفرح*