مكتبات سور الأزبكية

مكتبات سور الأزبكية

كانت جولاتي الهائمة على الأقدام تنتهى، دائما، إلى حديقة الأزبكية لاستراحة قصيرة من التجوال الذي كان يأخذنى إلى العوالم التي تفتحها أسماء شوارع عدلى وثروت وسليمان باشا ومحمد فريد وغيرها، متوقفاً عن تأمل الطرز المعمارية التي لم يتوقف إعجابي بها إلى اليوم، فإذا انتهى بي المطاف إلى حديقة الأزبكية جلست للراحة في الحديقة التي قيل لي إن الخديو إسماعيل استقدم المهندس الذي قام بتصميم حدائق التويلري الفرنسية لتخطيطها.

لم تكن الحديقة التي كنت أرتاح على إحدى «الدكك» المتناثرة في جنباتها هي الحديقة التي كانت في عهد إسماعيل باشا، فقد اقتص منها الكثير التخطيط المعماري الجديد لمدينة القاهرة، ونالت منها يد التحولات العمرانية، لكن بقيت منها الخضرة التي يفصل ما بين قسميها الشارع الذي هو امتداد لشارع فؤاد الذي انقلب اسمه إلى شارع يوليو، كما انقلب شارع نازلي إلى شارع رمسيس، وإبراهيم إلى الجمهورية، وشارع فاروق إلى شارع الجيش، وسليمان باشا، إلى طلعت حرب، وعماد الدين إلى قسمين قسم ترك باسمه القديم، والثاني باسم محمد فريد، ويبدو أن الذين فعلوا ذلك لم يكن يحمل اسم عماد الدين لهم سوى دلالة شارع الملاهي والمسارح والخمارات، مع أن عماد الدين اسم شيخ له ضريح، لا يزال قائما بالقرب من شارع الشيخ ريحان الذي هو شيخ آخر، والطريف أن الجزء الذي يضم مقامه هو الذي أطلق عليه محمد فريد.

المهم أنني كنت عندما أنتهي من تجوالي في شوارع القاهرة الإسماعيلية وأرتاح في حديقة الأزبكية، أتركها إلى ميدان الأوبرا الذي كان ميدان إسماعيل باشا وأحيانا كنت أتأمل الذاكرة الجمعية التي كان يصعب عليها تغيير الأسماء التي ألفتها، بعيداً عن كراهة النظام السياسي الجديد لأصحابها الأصليين، ولا نزال، إلى اليوم، نستخدم اسم الملك فؤاد دلالة على شارع يوليو وميدان سليمان باشا وأطرف مثال على ذلك شارع مصدق في الدقي، الذي أطلق على الشارع الذي أسكن فيه أيام الثورة في الخمسينيات، عندما قام مصدق بتأميم البترول ومحاولة التخلص من النفوذ الأمريكي، وهو الأمر الذي ألهم عبد الناصر فكرة التأميم، وظل الشارع باسم مصدق، طوال أيام عبد الناصر، حين ظللنا ننظر إليه بوصفه بطلا مقاوما للاستعمار، ومدافعاً عن استقلال وطنه واسترجاع ثروته القومية من مغتصبيها، وعرفنا أن مصدق هو لقب محمد بن هدايت (1881 1967) السياسى الإيرانى الذي تولى رئاسة الوزارة، في عهد والد الشاه محمد رضا بهلوي، وهو صاحب قرار إلغاء معاهدة النفط الإيرانية البريطانية سنة 1951. وهو الأمر الذي أدّى إلى غضب الدول الاستعمارية المحتكرة للبترول العربي، فأجبرت شاه إيران على عزله سنة 1953 وسجنه لثلاث سنوات وقد تحول مع سجنه إلى أحد أبطال ثورات التحرر الوطنى التي سطع في تيار صعودها نجم عبد الناصر، الذي أصبح زعيم الأمة العربية، بل زعيم العالم الثالث الساعي إلى الاستقلال في الوقت نفسه ومن الموافقات العجيبة موت مصدق في العام نفسه الذي حدثت فيه هزيمة 1967وسرعان ما توفي عبد الناصر قبل أن يستطيع أن يمحو آثارها، وجاء السادات الذي نقض السياسة الناصرية القومية والتحررية، خصوصاً بعد أن استخدم انتصار أكتوبر 1973 لدعم الأهداف التي كان ظاهرها الديموقراطية والسلام، وباطنها التحالف مع الولايات المتحدة وأتباعها في المنطقة، وعلى رأسهم شاه إيران الذي صدرت الأوامر بتغيير اسم شارع مصدق ليصبح باسم الشاه الذي أصبح حليف السادات، واستمر الحال إلى أن سقط حكم الشاه، وقتل السادات، فعاد اسم الشارع إلى ما كان عليه. وأعود من هذا الاستطراد إلى ما كنت فيه من إشارة إلى تأبي الذاكرة الشعبية على الأسماء التي تطلقها التغيرات السياسية على أسماء الشوارع، فقد ظل شارع مصدق يحمل الاسم نفسه بالرغم من المتغيرات، ولا يزال اسم شارع فؤاد باسم شارع فؤاد، ونادراً ما أسمع أحدا يشير إليه بوصفه شارع 26 يوليو إلى اليوم.

أمام السّور

وعندما كنت أرتاح من عناء السير في شوارع القاهرة متأملاً عماراتها القديمة التي شوّهت الكثير منها العمارة الحديثة في السنوات اللاحقة، وعناء تأمل المكتبات التي كنت أراها في شوارع وسط البلد، كنت أتجه إلى سور الأزبكية، وكان - وأظنه لا يزال - مجموعة من الأكشاك الخشبية التي تلاصق سور حديقة الأزبكية، ابتداء من تقاطع الشارع الصغير الذي يفصل بين العمارة القديمة التي كانت تقع عليها قهوة (مقهى) متاتيا، حيث كان يجلس جمال الدين الأفغاني وتلاميذه، وسور مسرح الأزبكية الذي تنتهي قبله، مباشرة، سلسلة الأكشاك الخشبية التي تبيع الكتب القديمة والمرتجعة، وقد حملت هذه السلسلة اسم سور الحديقة التي شيدها الخديو إسماعيل، والتي ظلت بمنزلة مغناطيس يجذبنى إليها دائما، مهما طال تجوالي في الشوارع الموصلة إلى الأزبكية وإلى ميدان العتبة بعدها وكنت أبدأ بتأمل الكتب المعروضة على أرفف الأكشاك، وعلى المناضد الموضوعة أمامها، وأتوقف عند كل كشك لفترة تقصر أو تطول، حاملاً في جيبي، عادة، ما يعينني على شراء ما يستحق الاقتناص من كتب، ولم أكن أترك كشكاً واحداً دون أن أتأمل ما يعرضه كتاباً كتاباً، وأقف لفترات متأنياً إزاء العناوين المعروضة، وما أكثر ما تمنيت الغنى كي أشتري كل ما أشتهي، فقد كنت، ولا أزال، مهووساً باقتناء الكتب والحصول عليها ووضعها مع غيرها من الكتب التي كنت أملكها، وأضعها في صفوف متراصة في ركن من أركان كل حجرة سكنتها منذ مجيئي إلى القاهرة، وكنت أحملها معي في إجازة الصيف التي أقضيها في المحلة الكبرى لأضعها في سحارة «كنبة طويلة» كنت أنام عليها، عندما أعود إلى أسرتي في مدينتي، قبل أن تنصلح أحوال الأسرة، وتستأجر بيتاً صغيراً بأكمله، تعيش معنا فيه شقيقتي المتزوجة وأولادها الصغار ومع الأسف، كان ابنها الكبير من زوجها الأول، وكان صغيراً، يكره المدرسة التي سرعان ما هجرها، وكان يحتاج إلى نقود ينفق منها على السجائر التي بدأ في إدمانها، فلم يجد أسهل من كتبي التي كنت أقوم بتخزينها في السحارة، وكدت أفقد عقلي، عندما اكتشفت في إحدى الإجازات الصيفية أنه باع أغلبها للبقالين بثمن بخس، كي يشتري السجائر اللعينة التي أدمنها ومن يومها، لم أعد أحمل كتبي إلى المحلة، وكنت أتركها عند زملائي القاهريين إلى أن تنتهي الإجازة، وأعود إلى القاهرة لأستأجر غرفة جديدة، فقد كان من الصعب، مالياً، أن أحتفظ بالغرفة التي أستأجرها أيام الدراسة، وأتركها في أشهر الصيف، كي أعود لأجد أخرى مع بدء الدراسة في العام التالي.

مباهج الستينيات القاهرية

كانت المساكن ميسورة، وكان العثور على شقة أشترك فيها مع زملائي أمراً غاية في اليسر والسهولة، فقاهرة مطلع الستينيات كانت مختلفة عن قاهرة اليوم كل الاختلاف في كل مجال، فقد كانت كوناً لا تنفد عجائبه ومباهجه التي أغوت الفتى القادم من مدينة صغيرة إلى عالمها الذي تعلقت به منذ أسبوعي الأول، وشعرت بأن القاهرة هي المكان الذي أنتمي إليه حقاً، صحيح أنني كنت أتعاطف، أحياناً، مع قصائد حجازي عن المدينة التي رآها «مدينة بلا قلب» حين فارق قريته، ولكني سرعان ما كنت أنسى مثل هذه الشكوى، وأستغرق في مباهج القاهرة، وعلى رأسها، المكتبات العامة والخاصة، إلى جانب الكتب التي يعرضها سور الأزبكية.

ولا أزال إلى اليوم أذكر بعض الكتب التي اشتريتها من سور الأزبكية، وقد ضاع بعضها، لكن البعض الآخر، لا أزال محتفظاً به، ومعتزاً به كما لو كان كنزي الخاص، ومن هذه الكتب الترجمة العربية لكتاب اللورد كرومر عن مصر الحديثة، وديوان عائشة التيمورية، وبعض أجزاء مختارات البارودي، وديوان حافظ إبراهيم في طبعته الأولى، والشوقيات القديمة، وكتاب «أبي شوقي» لحسين شوقى، ابن أحمد شوقي، وكتاب سكرتير أحمد شوقي بعنوان «اثنا عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء» والكتاب مليء بعدد من الصور بالغة الأهمية، وغير ذلك من الكتب والمجلات القديمة التي هي في ذاتها ثروة قيّمة. لكن الكتاب الذي لا أنساه، ولا أزال أحتفي به هو كتاب «هدية الإلياذة»، وقد اشتريته بقرشين ولو كنت فاصلت البائع لكان من الممكن أن أحصل عليه بمبلغ أقل، والكتاب صدر من مطبعة المعارف ومكتبتها وهي التي أصدرت ترجمة سليمان البستانى لإلياذة هوميروس نظماً، وقد حرر الكتاب نجيب متري صاحب مطبعة المعارف ومكتبتها، وجمع فيه كل ما قيل في الاحتفالات المتعددة بصدور ترجمة البستاني سنة 1904، وكل ما قيل في هذه الاحتفالات من كلمات، وكل ما كتبه أرباب المقامات السامية وأصحاب الصحف والمجلات والأدباء والشعراء بمناسبة صدور الإلياذة ووضع نجيب متري عنوان كتابه «هدية الإلياذة» تحية إلى سليمان البستاني وهدية له، وتركه لنا وثيقة من وثائقه ولا يزال يبهرني في هذا الكتاب المغزى الفكري لكلمة الشيخ محمد عبده، وتجمع أصحاب العمائم والمطربشين، وممثلي الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية، احتفالا بترجمة أصبحت من عيون تراثنا الحديث، وقد شعرت أننا ننحدر في مسيرتنا الثقافية عندما قارنت بين عظمة الاحتفاء بصدور ترجمة الإلياذة وصدور ترجمة الكوميديا الإلهية لدانتي، تلك الترجمة التي نهض بها العالم الجليل حسن عثمان، وأنجزها بعد عشرين سنة من العمل الذي صدر عن دار المعارف دون حسّ أو خبر.

عالم السدود والقيود

ولا أنسى كذلك كتاب العقاد الذي اشتريته من الحاج إبراهيم الذي أصبح صديقاً لي لكثرة مروري عليه، وأنزلته منزلة العم كامل الذي تركته في المحلة الكبرى وأذكر أنني رأيت الحاج إبراهيم مبتسماً في يوم من الأيام التي مررت عليه فيها سنة 1962، إن لم تخنّى الذاكرة، وبادرني بقوله: عندي لك هدية للأستاذ العقاد، أصبحت نادرة وقَدّم لى كتاب عباس العقاد «عالم السدود والقيود» وهو كتاب أصدره العقاد بعد أن صدر ضده حكم بالسجن بتهمة العيب في الذات الملكية، وكان ذلك بعد أن صرخ العقاد صرخته الشهيرة في البرلمان الذي عقد اجتماعاً خاصاً للنظر فيما يدبر للحياة النيابية: «إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس يخون الدستور أو يعتدى عليه»، وعرفت «السراي» أنها المقصودة، ولكنها لم تكن تملك محاكمة العقاد وهو يتمتع بالحصانة البرلمانية، فدبرت له قضية العيب في الذات الملكية من مقالاته التالية التي كان يكتبها عن الذين يعملون ضد مصلحة البلاد، فتم تقديم العقاد للمحاكمة، وقضت المحكمة بحبسه تسعة أشهر وداخل السجن، ونتيجة التجربة، كتب العقاد هذا الكتاب الذي سبق به كل ما كتب من روايات وذكريات عن السجون، وأصبح العقاد رائد أدب السجون بهذا الكتاب الفريد، وقد فرحت بالكتاب وأخرجت من جيبي «الشلن»، خمسة قروش الذي طلبه الحاج إبراهيم ثمناً للكتاب، وذهبت إلى المنزل بعد الجولة المعتادة على سور الأزبكية، ولم يأت الصباح إلا وكنت قد فرغت من قراءة هذا الكتاب الذي لا يذكره النقاد، عادة، وهم يتحدثون عن أدب السجون، وقد عرفت، فيما بعد، من ديوان العقاد أنه بعد أن خرج من السجن محاطا بمحبيه، ذهب إلى ضريح سعد زغلول، وألقى قصيدة حماسية في الجمع الذي أحاط به، معلنا ثباته على المبدأ، وإصراره على محاربة أعداء الأمة المصرية مهما بلغت قوتهم أو مكانتهم، وأذكر قوله في هذه القصيدة:

وكنت جنين السجن تسعة أشهـر
فهأنذا في ساحة الخلد أولـــدُ
ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجى
وفي كل يوم ذو الجهالة يلحــد
وما أفقدت لي ظلمة السجن عزمة
في كل ليل حين يغشاك مرقــدُ
وما غيبتني ظلمة السجن عن سني
من الرأى يتلو فرقدا منه فرقدُ
عداتي وصحبي لا اختلاف عليهم
سيعهدني كلٌّ كما كان يعهــدُ

وقد أصبحت بمرور الوقت طوال سنوات الدراسة مدمناً على سور الأزبكية، وعرفت أغلب باعة الكتب فيه وعرفوني، ولذلك كان بعضهم يعاملني معاملة خاصة، ولا يجادلني كثيراً في السعر، وأذكر واحداً منهم، فتح الله عليه، فاستأجر محلا في شارع كلوت بك، فكنت أذهب لزيارته والحصول على بعض ما عنده، خصوصاً أنه كان خبيراً بقيمة الكتب، ويحتفظ بالنفيس منها، لذلك لم أكن أذهب إليه إلا بعد حصولي على مكافأة التفوق التي أصبحت منتظمة، منذ عامي الثالث في الجامعة، وكنت قبل أن أذهب إليه أمر على مكتبات الفجالة التي كان شارعها عامراً بالمكتبات، ففيه مكتبة نهضة مصر التي أسسها سعيد السحار شقيق عبد الحميد جودة السحار الذي جلب إلى المكتبة أصدقاءه وأولهم نجيب محفوظ، وكانت مكتبة المعارف في الشارع نفسه، وإلياس، والبستاني وغيرها من المكتبات الذي لا يزال بعضها قائماً، حتى بعد أن زاحمته المكتبات المتخصصة في بيع الأدوات المكتبية.

ضحية القرار الأبله

ومع الأسف، لم تدم السعادة التي كان يمنحنى إياها سور الأزبكية، طوال أيام الدراسة، العليا وما قبلها، فقد صدر قرار من أحد الموظفين الكبار، الذين لا يعرفون أن هناك ما يشبه سور الأزبكية على نهر السين في مدينة باريس، وآخر على نهر التيمز في مدينة لندن، وصدر قرار أبله بنقل سور الكتب إلى أطراف حيّ الباطنية بجوار الأزهر (ربما ليجاور تجار الكتب تجار المخدرات) وبالطبع أصبح من الصعب الإكثار من زيارة السور كما تعودت قديماً، ذلك على الرغم من تيسر الحال، بعد أن أصبحت معيداً ثم مدرساً في القسم الذي تخرجت فيه، وأخذت في الإسهام بالكتابة في المجلات الثقافية العربية، وبالأحاديث والمناقشات في البرامج الأدبية في البرنامج الثاني بالقاهرة، ولكن قطع الطرق وركوب المواصلات إلى أقصى حي الأزهر كان من الصعوبة بمكان، ولكني لم أتخلَّ عن زيارة سور الأزبكية بعد انتقاله، وكان إحباطي هائلاً فقد تغيرت معالمه تماماً، وأصبح صورة مصغرة مشوهة لمعرض الكتاب، كل الفرق أن التركيز كان على الكتب القديمة والمرتجعة، مع بعض الكتب الجديدة واختفى البائعون القدامى الذين يعشقون الكتب، ويقدرون قيمة المعرفة، ويجلبون لك نوادر الكتب إذا كنت تبحث عنها، وكان حافزهم، دائما، حب الكتاب وتقدير المحبين له، ولكن تغير الوضع في المكان الجديد، فأصبح الحافز هو الربح واستغلال المثقف الذي يقوده حب الكتاب إليهم. وأذكر أن واحداً من هؤلاء اللصوص خدعني وباعني كتاباً بمبلغ ضخم، بعد أن رأى فرحتي بالعثور على العنوان الذي كنت أريد أن أكمل به مكتبتي البلاغية، ودفعت ما طلب، وخرجت حاملا الكتاب، وخرجت من الناحية الأخرى، فوقعت عيناي على الكتاب نفسه في ممر قصيّ نسبياً قرب الشارع، وكان صاحب المحل الذي يبيعه يعرضه بعشر الثمن، فخرجت مهموماً مغتاظاً لاعناً الذي تسبب في انتقال سور الكتب الذي تربينا عليه، وتجولنا في جنبات بقايا الحديقة الملاصقة له، واسترحنا فيها من عناء النزهة والتجوال على الأقدام، فقد كنت من عشاق المشي.

ولا أذكر أنني عدت إلى هذا المكان مرة أخرى، ويبدو أن محافظة القاهرة، قامت بإلغائه بعد حملات عديدة عليها من المثقفين، فأعادته إلى حديقة الأزبكية، ولكن بعد أن اقتطعت من الحديقة جزءاً، مواجها لمسرح الطليعة والعرائس، وجعلته في مربع مغلق، يمكن الدخول إليه من جوار مسرح الأزبكية، أو من امتداد الشارع الذي يصل ميدان العتبة بميدان رمسيس، وبالرغم من قرب المكان، ووجود قلة من الباعة الذين احتفظوا بالتقاليد القديمة، فقد اختلف الحال، ولم يعد السور القديم كما كان عندما عرفته، وأصبحت مدمناً للتردد عليه في مطالع الستينيات، وكان ذلك قبل أن يفقد سحره الذي تناقص مع الزمن، خصوصاً بعد أن دخلنا عصر التلفزيون، وانتقلنا منه إلى عصر النت الذي جعلنا نعرف كيف نقرأ الكتب on line.

مع الدوريّات

وأذكر أن المكان الوحيد الذي كان ينافس سور الأزبكية لفترة، كان سوراً تكوّن في ميدان السيدة زينب في منطقة محاطة بخطوط الترام، وقد تعودت زيارته في السنوات المعدودة الذي ظل باقياً فيها، خصوصاً بعد أن اختفى «صوان» الكتب الذي كانت تقيمه وزارة الثقافة كل رمضان، أو في مولد السيدة زينب وقد نفعني هذا السور في استكمال المجموعات التي كنت أحرص على اقتناء ما ينقصني منها، وكانت تضم مجلة «المجلة» و«الهلال» و«المسرح» التي كان يرأس تحريرها رشاد رشدي و«القصة» التي نسيت من كان يرأس تحريرها، و«الشعر» التي كان يرأس تحريرها، ويخوض معاركها ضد أنصار الشعر العمودى عبد القادر القط، الذي فتح صفحات المجلة لشعراء الشعر الحر، فنشر لصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى وبدر توفيق، بل لبدر شاكر السياب وأقرانه من الشعراء العرب، وكنت أعرف مجلة «المجلة» أيام أن كنت طالبا في ثانوية المحلة الكبرى أما المسرح والقصة والشعر فقد عرفتها في القاهرة، جنباً إلى جنب مجلة «الآداب» التي كانت الأكثر شهرة في الستينيات بسبب اتجاهها القومي الذي كان يدفعها إلى مهاجمة مجلات «شعر» و«أدب» و«حوار» وغيرها من المجلات التي اكتسبت سمعة رديئة بسبب ما تردد عن دعم المخابرات الأمريكية لها بشكل غير مباشر، وقد أدى ذلك إلى رفض يوسف إدريس لجائزة منحتها له إحدى هذه المجلات، وقد أمر جمال عبد الناصر بصرف قيمة الجائزة له، تقديرا لموقفه الوطني والقومي على السواء، وما أكثر الروايات ومجموعات القصص القصيرة التي اشتريتها من سور السيدة زينب، وكانت لكتَّاب من جيل الخمسينيات، وسرعان ما انضم إليهم أسماء سرعان ما خفت ضوؤها واختفى، مثل إسماعيل ولي الدين وغيره، ولم يكن جيل الستينيات بهاء طاهر والغيطاني والقعيد والبساطي وصنع الله إبراهيم قد ظهر نتاجه في السنوات الأولى من الستينيات، إذ لم يبدأ هذا الجيل في الظهور واجتذاب جيل جديد من القراء إلا بعد هزيمة 1967، ذلك على الرغم من أن مجلة «المجلة»، في عهد يحيى حقي، قد نشرت عدداً خاصاً سنة 1965 أو 1966يضم عدداً من الذين أصبحوا نجوماً بارزة لأبناء هذا الجيل، وأذكر منهم يحيى الطاهر عبد الله الذي أخذ يلفت الانتباه إلى أعماله بالقصة التي نشرها هذا العدد الخاص من «المجلة».

ولكن كان ذلك بعد أن اختفى سور كتب السيدة زينب نتيجة تعديلات تخطيطية للميدان، وبقي سور الأزبكية يواجه متغيرات الزمن إلى أن أجبر على الرحيل إلى أقصى الباطنية، ثم عاد إلى حديقة الأزبكية، بعد أن أصبح الزمن غير الزمن، وأحوال الثقافة غير أحوالها في الحقبة الناصرية.

-----------------------------------------

لَعَمْرُكَ، ما أمْري عَليّ بغُمّةٍ
نهارِي ولا ليلي عَلىَّ بسَرْمَدِ
ويومَ حبستُ النفس عِندَ عِراكه
حِفاظاً على عَوْراتِهِ والتّهَدُّدِ
على مَوطِنٍ يخْشى الفتى عندَهُ الرّدى
متى تَعْتَرِكْ فيه الفَرائِصُ تُرْعَد
وأصفرَ مضبوحٍ نظرتُ حواره
على النّار واستودعْتهُ كفَّ مُجْمَدِ
سَتُبْدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهِلاً
ويأتِيكَ بالأخبارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
ويَأتِيكَ بالأخْبارِ مَنْ لم تَبِعْ له
بَتاتاً، ولم تَضْرِبْ له وقْتَ مَوعِدِ

طرفة بن العبد

 

 

 

جابر عصفور