نجيب محفوظ مسرحيا

نجيب محفوظ مسرحيا

عرف نجيب محفوظ عربيا وعالميا بالروائي، والقاص، وكاتب السيناريو المبدع، وقد توج محفوظ هذا الإبداع بالحصول على جائزة نوبل للآداب ليكون بذلك أول كاتب عربي يحصل على هذه الجائزة العالمية التي تدور حولها علامات استفهام، وما يهمنا أن محفوظ قد استحق هذه الجائزة عن جدارة وأن كثيرا من المبدعين العرب الراحلين والمستمرين في العطاء الأدبي يستحقون مثل هذه الجائزة.

بدأ نجيب محفوظ رحلته الإبداعية مترجما عن الإنجليزية وذلك عام 1932 لكتاب - مصر القديمة - ولم يعد بعدها للترجمة، بل لم يفكر بها أبدا وانتهج خطا خاصا به في مسيرته الابداعية التي استمرت أربعة وسبعين عاما من العطاء المتميز.

قدم لنا باكورة إبداعه الأدبي تحت عنوان - همس الجنون- وهي عبارة عن مجموعة قصصية، وتوالت بعد ذلك الروايات التاريخية والاجتماعية ليعود إلى القصة القصيرة بعد أربعة وعشرين عاما بإصدار مجموعته القصصية - دنيا الله - عام 1962. ونلاحظ أنه بعد مرور سبع وثلاثين سنة من ولادة إبداعات نجيب محفوظ نراه يخوض تجربة الكتابة المسرحية في مجموعته القصصية - تحت المظلة.

نجيب محفوظ تاريخ كتابي وإبداعي نقل نبض الشارع المصري بكل تفاصيله وعالج قضايا اجتماعية مستمدة من مجتمع مدينة القاهرة بكل أحيائها الشعبية والارستقراطية، ولم يلتفت كثيرا إلى الريف بل استمد جميع حكاياته من المدينة، جاء بالريف إلى المدينة متمثلا بشخوصه ونماذجه ليعالج قضاياه ويبين الفوارق الطبقية بين فئات المجتمع، فأبطاله هم من الطبقتين العليا والسفلى، وتتراوح بينهما الطبقة المنتفعة والتي تحاول التخلص من ملامح السفلى لترسم بصمات العليا عليها، فبقيت دون ملامح، إنها الطبقة الوسطى التي أخذت عنده حيّزا لا بأس به كان بحاجة إلى إمكان التواصل بين الطبقتين.

لقد تناولت الدراسات الأدبية والرسائل الجامعية والمؤتمرات العربية والعالمية نجيب محفوظ روائيا وقاصا، حتى إنه ليس من السهل إحصاء عدد الكتب والدراسات التي تناولت أدبه. ولكن اللافت للنظر أن قراءة نجيب محفوظ مسرحياً كانت قليلة جدا، حتى أن المسرحيين العرب والمصريين خاصة، لم يلتفتوا كثيرا إلى مسرحياته ولم يحاولوا الاقتراب منها لتنفيذها على خشبة المسرح، وعلى العكس من ذلك فانهم تسابقوا وبلهفة على جميع مسرحيات توفيق الحكيم القاص والروائي، والذي عاش في الفترة نفسها التي عاش فيها محفوظ، وتحولت كثير من مسرحيات الحكيم إلى أفلام سينمائية وحلقات تلفزيونية إضافة إلى عرضها على خشبة المسرح.

والمتتبع للحركة المسرحية يجد أن المسرحيين قدموا أعمالا قصصية أو روائية لنجيب محفوظ على خشبة المسرح خلال إحدى عشرة سنة من 1958 وحتى 1969 كان أولها زقاق المدق وآخرها تحت المظلة وجميع هذه المسرحيات لم يقم محفوظ بمسرحتها عن قصصه ورواياته بل قام مسرحيون بإعداد المسرحية عن أعماله الأدبية. ونلاحظ أن المسرح الحر قدم خمس مسرحيات من مجموع ثماني مسرحيات نفذت لمصلحة المسرح.

من هنا نلاحظ أن المسرحيين قد انتبهوا إلى روايات محفوظ وقصصه وأعدوها للمسرح، بينما لم يفكر واحد منهم بتنفيذ مسرحية واحدة مما كتبه محفوظ بنفسه، أما لماذا ترك محفوظ الفرصة أمام غيره ليقوم بمسرحة رواياته فهذا أمر غير مستغرب، لأنه بالرغم من كتاباته لسيناريوهات عشرات الأفلام فإنه لم يفكر ولم يحاول كتابة سيناريو لرواية واحدة من رواياته التي صورت سينمائيا بل ترك المجال لغيره لكتابة السيناريو.

وقد يكون مبررا عزوف النقاد والمسرحيين عن الالتفات لمسرحيات محفوظ والاندفاع نحو مسرح الحكيم وأرى ذلك في ثلاث نقاط:

  • لم يمثل إبداع محفوظ المسرحي ظاهرة أدبية كما هي عند الحكيم أو عند ممدوح عدوان.
  • لم يفكر محفوظ في إصدار كتاب خاص بما كتبه للمسرح بل أودع مسرحياته القصيرة وذات المشهد الواحد ضمن مجموعاته القصصية وكأنه أراد لهذه المسرحيات أن تكون قصة حوارية ذات أبعاد درامية.
  • لم يكتب محفوظ المسرح من أجل المسرح وبالتالي لم يسع لمسرحياته أن تكون لوحات درامية على خشبة المسرح، ولهذا جاءت مسرحياته جميعها من فصل واحد وإن تعددت المشاهد داخله.

عشر مسرحيات

إن مثل هذه المبررات، وبالرغم من وجودها لا يمنع النقاد ولا المسرحيين من الالتفات لهذه المسرحيات التي لم تتجاوز العشر والتي وردت ضمن مجموعاته القصصية التالية:

1 - تحت المظلة- الطبعة الأولى 1969 خمس مسرحيات

2 - الجريمة الطبعة الأولى 1973 مسرحية واحدة.

3 - الشيطان يعظ الطبعة الأولى 1979 مسرحيتان. من الملاحظ لقارئ المسرحيات الواردة ضمن هذه المجموعات الثلاث وحسب صدورها زمنيا ما يلي:

1 - في المجموعة الأولى - تحت المظلة - وهي أولى المسرحيات التي كتبها نجيب محفوظ نجده قد نوّه في الفهرس بوجود هذه المسرحيات ووضعها تحت عنوان منفصل - مسرحيات من فصل واحد - وهذا الأمر لم يتبعه في المجموعتين اللاحقتين وكأنه أراد التنبيه إلى ولادة هذه التجربة.

2 - في المجموعة القصصية الثانية - الجريمة - أدخل محفوظ مسرحية واحدة لهذه المجموعة القصصية وقد حرص على ان تكون أول الكتاب وجاء اسمها في فهرس الكتاب دون الإشارة إلى أنها مسرحية.

3 - في المجموعة القصصية الثالثة -الشيطان يعظ- وضع نجيب محفوظ مسرحيتين في نهاية قصص المجموعة وكأنه نفض يديه من القدرة على شد انتباه النقاد والمسرحيين لما يكتبه مسرحيا.

4 - المسرحيات الست التي جاءت ضمن مجموعتيه القصصيتين الأولى والثانية كانت جميعها ذات شخوص مجهولة الهوية والملامح ولم تحمل اسما ذا دلالة فالشخوص مثلا -الفتى - الفتاة - الشاب - الرجل - الصديق - الأحمر. اما في المسرحيتين الأخيرتين في مجموعته القصصية الثالثة فقد كانت الشخوص محددة الملامح واضحة الأسماء حتى أن المسرحية الأخيرة اتكأت على حكاية من ألف ليلة وليلة أدخل إليها شخصيات من التاريخ وهو موسى بن نصير القائد العربي المشهور.

عودة إلى قراءة المسرحيات التي كتبها نجيب محفوظ فإننا نستطيع القول إن مسرحيات نجيب محفوظ في المجموعتين الأولى والثانية تمثل المسرح الطليعي وهو ما عرف في أوربا في الأربعينيات بمسرح العبث، ومفهوم العبث هو موقف الكاتب المبدع مما يجده في الوجود من عبث وليس كتابة العبث ذاته، وقد أدرك المسرحيون المصريون هذه المعادلة، كما يقول - شفيق مقار - في مقاله اللامعقول والعبث، وقد أطلقوا على نماذج هذه المسرحيات - بالمسرح الطليعي - فطابع المأساة المتولدة من إدراك العبث تواجهها سخرية من خلال الاحداث وتتابعها.. إنها رحلة مسرحية للبحث عن معنى جديد يواجه من خلاله الإنسان إحساسه بالعزلة عن مجتمع هو في الأساس منه وبذلك يكون المسرح الطليعي صورة من صور التمرد على القديم وعلى الراهن معا بمنظور جديد وقيم جديدة، ثم إعادة تقديم القديم بعد تقييم ما بقي منه صالحا.

ليس من المستبعد اطلاع نجيب محفوظ على المسرح الأوربي، خاصة مسرحيات يوجين أونسكو وصموئيل بيكت لأننا نلمح تأثره بهذه المدرسة المسرحية كثيرا، وذلك عند كتابته المسرحيات الست الواردة ضمن المجموعتين - تحت المظلة والجريمة - فأولى الملاحظات على هذه المسرحيات أن أبطالها لم يحملوا أسماء محددة وهذا الأسلوب اتبعه يونسكو في أكثر مسرحياته دلالة على أن الموضوع هو البطل، فالمكان والزمان والشخوص هم موظفون من أجل صياغة الحدث، والملاحظة الثانية هي الحديث عن شيء مجهول دائما وهو ما اتبعه بيكت في مسرحيته في انتظار جودو فعند محفوظ المجهول معلن عنه بصفاته أحيانا أو سلوكه أو ملامحه، وقد يكون المجهول عنده الحدث ذاته. والملاحظة الثالثة قصر الجملة الحوارية مما يؤدي إلى السرعة في إيقاع الأداء كما عند يونسكو في الممثلة الصلعاء.

الجبل، والشيطان يعظ

واستكمالا لقراءة مسرح نجيب محفوظ نصل إلى المسرحيتين الأخيرتين الواردتين في المجموعة القصصية - الشيطان يعظ - وهما - الجبل والشيطان يعظ - فهاتان المسرحيتان منتميتان إلى مدرسة مختلفة عن المسرحيات الست السابقة فمسرحية الجبل مسرحية اجتماعية تعالج قضية اجتماعية محددة ملخصها وجود مجموعة من الشباب المتحمس يشكلون اتحادا بينهم معني بتنفيذ حكم الإعدام لكل المنتفعين والمرابين والجشعين لتنتهي أحلامهم عند اكتشاف أمرهم من قبل خطيبة أحدهم فيبدأ الصراع بينهم وبالتالي يموت الكل ولا يبقى سوى أحدهم لينعيهم.

أما المسرحية الثانية فهي تتكئ على إحدى قصص ألف ليلة وليلة مع توظيف الحقيقة والواقع داخل الأسطورة وهو فيها يعالج قضية اجتماعية سياسية مهمة يصل في النهاية إلى أن العدل يحتاج إلى قوة الإيمان.

المسرحيتان ذات شخوص محددة ومعروفة وأسماؤها معروفة وبعضها من التاريخ العربي، وهاتان المسرحيتان آخر ما كتب نجيب محفوظ وذلك عام 1979، عاش بعدها سبعة وعشرين عاما لم يكتب خلالها نصاً مسرحياً واحداً وكأنه قد اكتفى بأن يكون الأب الروحي والحقيقي للرواية العربية.

 

 

 

حسن ناجي