الرّحلة الجزائريّة الحديثة إلى المشرق

الرّحلة الجزائريّة الحديثة إلى المشرق

يلاقي العديد من الدارسين صعوبة عند محاولة إيجاد وتقديم مقاربات دقيقة للّغة، لكثرة تداولها بين الناس، حتى جعلوا منها حدثا طبيعيا، لا يحتاج إلى التحديد، لكن لا أحد يعارض فكرة كون اللغة أداة، ووسيلة إبلاغية، تستخدم للتواصل بين الإنسانية، وهي ذات نظام جمعي له قوانينه، ومعاييره وثوابته.

اللغة في الأدب خطاب، ومكون أساسي في العملية الإبداعية، وهي الوسيلة التي يستخدمها الأدباء، ويسعى كل واحد منهم إلى توظيفها.

ولا تختلف اللغة في الرحلات عن اللغة الأدبية، في واقعيتها، وفي اغتنائها من مجالات، وأساليب متنوعة من اللغة الجمعية، غير أن المميز للرحلات، أن كتابها قبل أن يشرعوا في تدوين رحلاتهم يحملون مشروعا لاستذكار أحداث ولّت، لا أن يتوهموا ما سيحدث، وهو ما يقوّي واقعية العمل وتاريخيته، دون مطابقتهما.

وكذلك تمتاز اللّغة في الرحلات بالتعدد، والاختلاف في مستوياتها، وانفتاحها على لغات، وأساليب أنواع قصصية أصيلة، كالمقامة، والسيرة، والقصص الشعبي،.. وغيرها، كما أن خطاب الرحلة يتكون من حوار، وجدال بين لغة أدبية إبداعية، وجمالية، وأخرى علمية، تقريرية، تتقارب مع لغة التاريخ، والدين، والفكر. وستركز هذه الدراسة على ظاهرة توظيف التاريخ في الرحلة الجزائرية إلى المشرق خلال القرنين الميلاديين التاسع عشر والعشرين، وهي التي ألّفها نخبة من أعلام الجزائر، وهم: أبو راس الناصر الجزائري، الأمير عبد القادر الجزائري، ومحمد المنصوري الغسيري، وعثمان سعدي، ومحمد علي دبوز، وأحمد توفيق المدني، وأبو القاسم سعد الله، ومحمد ناصر، وأحمد منور.

تقاطع التاريخي مع الأدبي

يعرف التاريخ، على أنه خطاب: «ينمي الوعي الإنساني بما يدور حوله من أحداث».

ولم ينكر أغلب الباحثين وجود علاقة وطيدة بين التاريخ والإبداع الأدبي، حتى أن الفصل القاطع بين التاريخ والأدب عند العرب كان منعدما، كما أن انفصال الحقلين في الغرب خلال القرن التاسع عشر لم ينف وجود التحاور بينهما، وتبادل الاستفادة: «فقد ساوى الفيلسوف لايبنتز (1646-1716) بين غايات الشعر والكتابة التاريخية، وناشد المؤرخين أن يرتقوا إلى مصاف الشعراء، ورأى الفرنسي ديدرو عام 1962، في رواية ريتشارد سون تقدما في وعي التاريخ قصر عنه المؤرخون، ولم يختلف موقف المؤرخ الإنجليزي الشهير ر.ج.كولنجوود، حين وزع في ثلاثينيات القرن الماضي، «الخيال الجبار» على الروائيين والمؤرخين معا».

استدعاء التاريخ

جَعلت استفادةُ كتاب الرحلات من التاريخ الماضي، والرغبة في التأريخ للوقائع الآنية من مؤلفاتهم، مصادر غنية، للمؤرخين، خلال بنائهم لتاريخ المجتمعات، وإن لم تكن المادة المقدمة الهدف الأول لديهم، وإنما صيغت، واستغلت بعقلانية، ضمن محاولات التفسير، أو التوضيح، أو تكملة معلومات محصل عليها في آن الرحلة، بأخرى مستقاة من المصادر التاريخية المختلفة، وتظهر اللغة التاريخية في كثير من الحالات عن طريق الاستحضار، واسترجاع الوقائع، والأماكن، والشخصيات، ذات البعد التاريخي، بلغة تقترب من لغة المؤرخ، لكنها لا تخلو في حالات كثيرة من التعبير، والتقويم الذاتي للكاتب الرحالة، وانتقاء المناسب من التاريخ لأحداث الرحلة، وقد جرى توظيف التاريخ في أكثر الحالات على شكل شواهد منقولة عن المؤرخين، ومصادرهم، موثقة توثيقا دقيقا، أو غير محددة المصادر، كالإحالة إلى مؤرخ مجهول الاسم، أو سردها على لسان الرحالة، وبتصرف كامل منه.

وكمثال على عناية الرحالين المعاصرين، بزيارة الأماكن التاريخية، والبحث عن العريق في البلدان المقصودة ما نجده في رحلات: أحمد توفيق المدني إلى دمشق، وأبي القاسم سعد الله إلى الجزيرة العربية، وأحمد منور إلى مصر، فبالرغم من شدة انشغال الرحالة الأول بالمهام السياسية المكلف بها في تلك الرحلة-وهي إحراز الدعم المادي والمعنوي من البلدان العربية للثورة التحريرية المجيدة- إلا أن ذلك لم يمنعه من زيارة أشهر مآثر المدينة، الجالبة للنظر، فقال: «بعد جولة قصيرة في أرجاء دمشق والاطلاع على مآثرها ومساجدها، ومدفن صلاح الدين العظيم فيها، توجهنا نقرأ الفاتحة ونتعظ على قبر بطلنا العملاق العظيم، الأمير المجاهد عبد القادر بن محيي الدين (المدفون قبل نقله للجزائر بعد الاستقلال) إلى جانب قبر الصوفي الشهير محيي الدين بن عربي»، وبيّن سعد الله غرضه في زيارة الأماكن المشهورة في المدينة المنورة، ثم مكة المكرمة، فقال: «وفي المدينة.. اهتممت بشيئين الأول التعرف على الأماكن الأثرية التي قرأنا عنها في الكتب القديمة كأماكن الغزوات ومساكن الصحابة والمساجد التاريخية ونحو ذلك..»، وقال في مكة كما في المدينة: «عكفت على تحقيق أمرين، الأول إشباع فضولي الديني والثاني إشباع نهمي العلمي، وقد حققت الأول عن طريق مجاورتي للحرم.. ثم إنني أجرت سيارة حملتني إلى الأماكن الشهيرة مثل جبل حراء وعرفات ومنى والمزدلفة ونحوها»، وارتكزت رحلة منور إلى مصر على غرض أساسي، هو السياحة في البلاد، والتعرف على أماكن تاريخية، ذائعة الصيت، يتمنى كل زائر للقاهرة مشاهدتها، وقد أفصح راوي الرحلة ومنجزها عن تلك الرغبة، وعن ارتياحه لتحققها قائلا: «.. فسمح لي هذا المبلغ «سبعة عشر جنيها» بأن أعيش ما يقرب من أسبوعين عيشة سائح محترم، فزرت متحف الآثار الفرعونية، والأهرام، وجامعة الأزهر، وسيدنا الحسين، والسيدة زينب.. وما إلى ذلك من الأماكن الكثيرة، ويعود الفضل في كل هذا إلى صديقي عبد العزيز الذي كان مرشدي في كل ذلك، ولولاه لما تمكنت من زيارة كل هذه الأماكن»، كما ظهر من سياق الكلام، تأسف الرحالة، على محدودية ثقافته في التاريخ الفرعوني، لذلك رأى أن زيارته للمتحف لم تكن ذات فائدة عظيمة؛ إذ وقف فيه، كما قال: «متأملا، متعجبا، أمام تلك التماثيل، والعربات، والرسوم، والأواني، والأدوات، لا أفقه من دلالتها وأهميتها إلا أمورا قليلة وتقريبية».

ويجري استرجاع أحداث تاريخية، خلال إنجاز الرحلة، لإقامة مقارنة بين موقفين: الأول آني، والثاني ماض، ومن ذلك ما عرضه محمد أبو راس الجزائري في رحلته المشرقية قائلا في لهجة ساخرة، عن محادثة مطولة، جرت بينه وبين أحد علماء الجزائر (عبدالرحمن البدوي القرومي) حول مسائل علمية مختلفة، لم يردّ عليها العالم، ولم يجب بشيء عما قاله الرحالة: « فقلت: كان أهل «دار الضرب» شكوا إلى الصاحب إسماعيل بن عباد وزير معز الدولة ابن بويه الديلمي: بأن كتبوا له في أمر طلبوا منه أن يرغب السلطان ليخففه عنهم، فقال الكاتب في آخر المكتوب: «والسلام على سيدنا الوزير، من جميع جماعة الضرابين»، فأوقع الوزير تحته «في حديد بارد»، ودفع المكتوب للذي ناوله له، فضحك الطلبة، وضحك القرومي، وفهم معنى الكلام، ولم يتكلم».

وكذلك يسترجع أحمد توفيق المدني أحداث كفاح الشعب المصري، وصموده أمام المحتلين لأرضه عبر التاريخ، مستنتجا عظمة هذا الشعب، ووحدته زمن الشدائد، وهذا خلال المظاهرات التي شاهدها الرحالة المناهضة لهجوم الحلفاء على مصر فقال: «الآن عرفنا كيف سار هذا الشعب الهادئ في ظاهره الثائر في حقيقته، كيف سار وراء صلاح الدين العظيم يسترجع من الصليبيين بيت المقدس الطاهر، وكيف سار وراء الظاهر بيبرس، يطهر أرض فلسطين من الممالك الصليبية، وكيف سار وراء الملكة شجر الدر، يقهر جيش فرنسا في المنصورة ويأسر ملكه لويس الحادي عشر، وكيف وقف عملاقا ماردا جبارا، وراء الملك المملوكي قطز، ينقذ الإسلام وينقذ المدنية، وينقذ ما بقي في المسلمين من عزة ومن شرف، فيرد الجموع الوحشية الهمجية، جموع المغول على أعقابها خاسرة، وما كانت تعرف قبل ذلك اندحارا ولا خسارا».

واسترجع أحمد منور تاريخ الأهرام، الذي لم تكن مصادره فيه تاريخية، وإنما كانت روايات نجيب محفوظ التي وظفت تاريخ مصر القديم، لخدمة الأحداث، التي يمتزج فيها الواقع مع الخيال، والتاريخ مع الأدب، غير أن تذكره كان إشارة للفعل الاسترجاعي، دون سرد مضمونه: «كذلك كان شأني «جهله بتاريخ الفراعنة» وأنا أقف أمام أبي الهول والأهرام، حيث لم أجد في جعبتي من المعلومات التاريخية إلا ما ضمنه نجيب محفوظ روايته «عبث الأقدار» عن الملك «خوفو» صاحب الهرم الأكبر.. وهكذا وجدت نفسي وأنا أقف مبهورا أمام بناء الهرم الأكبر، أعود بالذاكرة، مرة أخرى، إلى تلك الصورة الرائعة التي رسمها نجيب محفوظ لهذا الفرعون المتجبر، وأستحضر التفاصيل الكثيرة التي ساقها عن مراحل بناء الهرم».

الرحالة حواراً مع العلماء

وكانت لأبي راس حوارات مع علماء، وحكام، حول قضايا، وروايات تاريخية، وعن أماكن، وشخصيات، سئل الرحالة عنها، أو استدعت منه روايتُها الخاطئة نقضَها، والردَّ عليها، ومثال الحالة الأولى، سرده لما جرى من حوار بينه وبين حاكم تونس حمودة باشا، كان موضوعه تاريخيا، أوجز الرحالة فيه أجوبته، فقال: «ثم سألني عن أشياء عديدة وعن «قصر الأجم» قلت: هو من بناء هنادسة الفرنج والروم، حتى إنه كانت تطلع الشمس كل يوم في كوة من كواه على عدد تنقلها ذهابا وإيابا، فهو من عجائب الدنيا، ثم سألني-رحمه الله- عن «قسمطينة»، فأجبت بأن صاحب «القاموس» قال فيها: «هي حصن من حصون إفريقية»، ثم سألني عن «المعلقة»، و«الحنايا»، وغيرهما، مما بإفريقية، وبرقة: كمدينة «لبدة الخراب»، فأجبته بما عندي، فاستحسن ذلك كله». وعرضت لكتاب الرحالة الجزائريين ظروف، ودواع جعلتهم يرجعون في الزمن إلى الماضي لعقد مقارنات، إما إثباتا لمشابهة بين موقف آني تعرض له الرحالة، وموقف آخر ماض، وتاريخي، كالشبه الذي وجده الكاتب أبو راس بين تفوّق عالم الجزائر محمد ابن الشاهد، في الشرح والتفصيل خلال دروس، كان يلقيها بالجامع الأعظم بالجزائر، مثل تميّز الشريف التلمساني في التفسير.

كما تضمنت بعض الرحلات -في إطار المقارنة دائما- سردا لأفعال مشرفة، وأحداث مضيئة في التاريخ، ومقارنتها في حالات، بالحاضر القاتم، وغير المرضي، وهو من المحاولات غير الواعية في استعادة الصورة الجميلة، والتأسي بها هروبا من الصورة الآنية السوداء، ودليل ذلك ما نجده مثلا مع الرحالين الثلاثة المعاصرين: محمد المنصوري الغسيري، وعثمان سعدي، وأحمد منور، فقارن الغسيري بين رحلات الصحابة إلى الشام، ورحلات المعاصرين، فقال: «فإلى دمشق عاصمة بني أمية وعلى جناح الطائر الميمون ولتكن الطريق إلى الشام طريق معاوية وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص والمثنى بن حارثة الشيباني وعدي بن حاتم الطائي وعمرو بن العاص وإن يكونوا قطعوها في شهر وقطعناها في أربع ساعات، وقطعوها فاتحين وقطعناها متفرجين وشتان بين فاتح ومتفرج، وشتان ما بين كاسب ومضيع، لقد كسبوا لنا موطن فارس والعراق والشام ومصر وشمال إفريقيا والأندلس وضيعنا نحن الجميع ثم ضعنا».

واسترجع عثمان سعدي في رحلته إلى مصر - انطلاقا من ميناء الجزائر - فترةَ تألق الجزائر في البحر الأبيض المتوسط، هروبا من حاضرها، وهي واقعة تحت نير الاحتلال، وصرّح نصا بالمفارقة الكبيرة بين حال الجزائر في الماضي وحالها في الحاضر، فقال: «وقفت لأقارن بين عهدين، عهد مضى وانصرم بسعادته وعزه، وعهد مازال جاثما على صدرك أيها الوطن العزيز- بأثقاله ومصائبه، وما إن تمعنتُ في امتداد شاطئك حتى انسلت مني المخيلة إلى عصر كانت تخرج منه سفنك لتحطم أساطيل الدول العظمى التي نفخ أشداقها الغرور، لكن سرعان ما يخونني الواقع فيرجع بي إلى الحاضر فأرى البواخر خارجة من ثغرك محملة بخيراتك».

إضاءة المكان

أما عن محاولة إضاءة المكان، بالرجوع إلى تاريخه العريق، فنجده في رحلة الأمير عبد القادر الجزائري إلى الحجاز والشام والعراق، إذ يعود بنا السارد إلى عهد بعيد، عهد الفراعنة، وهذا عندما ورد ذكر موضع اجتماع الحجاج المغاربة في مصر، وهو «كرداسته» أي كرداسة حاليا، فقال محددا موقعه: «بغرب الأهرام الثلاثة المبنية لإرادة الحفظ من الطوفان، ظنا أنه عائد، وأن الحصن ينجي من أمر الله».، وكذلك فصّل الأمير عبد القادر في تاريخ بناء دمشق، وأصل تسميتها «دمشجشق» فقال: «في ربيع الأول كان المثوى وطيب الثوى بدمشق الشام المسماة باسم بانيها، غلام لنبي الله الشكور نوح عليه السلام (دمشجشق)، وكانت الأرض وقتئذ عطلة ليس بها أشجار الغابة، وحين تأمل في أنهارها المنسجمة المندفعة، أعجبه رونقها وتأمل في البنيان، ثم نظر في موضع حرثها وزرعها فلم يجده قريبا، إلى أن انحدر إلى الغوطة فألفاها مكانا أفيح متسعا، صالحا للعمارة بالغرس والحرث، فحفر بها حفرة ورد إليها ترابها فملأ ثلث التراب الحفرة وفضل الثلثان، فعلم أن بها بركة المنبت من الثمار والأكمام، كما قربها من الموضع الذي أعجبه للبناء، فرجع إليه واختط المدينة المذكورة». يرتد الزمن في هذا التأريخ إلى زمن بعيد جدا - زمن النبوة في مراحلها الأولى زمن سيدنا نوح عليه السلام، وغلامه المدعو دمشجشق، وقد عرض المؤلف جمال المدينة، وخصائصها الطبيعية وفق منظور شخصية الغلام المذكور، واستحسانه، ومبادرته بالزرع، والبناء.

وضمن وصف محمد المنصوري الغسيري لمدينة مكة الحجازية، يسترجع الكاتب للقراء تاريخ نشأة الحكم الوهابي فيها، فقال: «أما مكة المدينة فقد ظلت تتأرجح الحضارة الإسلامية فيها بين الرقي والتسكع في أحضان الانحطاط حتى انبثق الفجر عن ميلاد حكومة بدوية جمعت كل معاني الشهامة والجرأة.. وراء سلاسل جبال السراة وفي أحضان جبال نجد الشامخة، هناك نشأت وترعرعت هذه الحكومة الصالحة.. وكأن الله تخير القرن العشرين ميلادا لها..» يلخص الكاتب مسيرة مدينة مكة، المترددة بين التخلف، والتقدم، ارتبط الأول بالقرون السابقة للقرن العشرين، وكان التقدم زمن اعتلاء الأسرة الوهابية الحكم، التي اعتنت بمكة، وبتوسيع الأماكن المقدسة، وإنشاء المشاريع الضخمة فيها.

أما رحلة أبي القاسم سعد الله الحجازية، فنجد فيها وقفات يسيرة، قليلة في المكان التاريخي، أهمها كانت تلك التي بيّن فيها المؤلف نشأة الدرعية الجديدة في العصر الحديث، وسقوط الدرعية القديمة في الماضي.

وعرّف محمد ناصر في رحلته الثقافية بأماكن تاريخية في عُمان، كمسجد الصحابي مازن بن غضوبة رضي الله عنه- وهو موضوع الندوة التي شارك فيها الكاتب - وحصن «الحزم»، الذي يعد معلما تاريخيا بارزا في السلطنة: «بناه الإمام سيف بن سلطان اليعربي سنة (1708م)، ويعتبر من أروع بدائع الفن المعماري الإسلامي العماني فقد أنفق فيه الإمام مبالغ طائلة», وأفاض الحديث عن مدينة الرستاق، ومكانتها العلمية، والفكرية، فذكر شخصيات قديمة اشتهرت فيها بمؤلفاتها، وعلمها، قال عنها: «وقد احتلت ولاية الرستاق في السابق المركز الأول من الناحية الفكرية، إذ كانت مركزا ثقافيا يجمع الكثير من العلماء والأدباء ومقرا للسلطة والأمانة.. وتعرف بمشاهيرها من الأئمة والعلماء، مثل الإمام ابن رشد بن مالك، الذي عقدت له الإمامة في 1024هـ، والإمام سيف بن سلطان بن سيف الملقب (بقيد الأرض) وقاضي القضاة راشد بن سيف المالكي ت(1915)..»

وركّز بعض كتاب الرحلة الجزائريين على التعريف بالتاريخ الفردي للأشخاص، والتعريف بأبرز أعلام العرب، والمسلمين، الذين استدعت الضرورة الأسلوبية، والرغبة في تخليدهم، واستخلاص العبر منهم، والاقتداء بهم، الرجوع إلى ماضيهم، ونمثل للرحالين الذين اعتنوا بهذا الجانب بمحمد علي دبوز، الذي تمحورت رحلته كاملة في غرض الوقوف على شخصية من العصر الحديث، وهو مصطفى صادق الرافعي، الذي اعتبره الرحالة: «سيد الأدباء في هذا العصر لا يضاهيه أديب من أدباء هذا الزمان في خصائصه»، واستغرق الكاتب خلال صفحات الرحلة في إضاءة جوانب من سيرته الشخصية، والعلمية، والأدبية، اعتمادا على مصادر نقلية، كأعمال الرافعي الأدبية، والنقدية، ومصادر أخرى مباشرة سماعية، تمثلت في ولد الرافعي الدكتور محمد، وابن عمه سعيد الرافعي.

وقد بيّن محمد علي دبوز المجالات الثلاثة، التي دأب الرافعي على الإنتاج، والعمل فيها، وهي الإصلاح الديني والاجتماعي، والنقد الأدبي، والإبداع، فقال عنه في صفته الإصلاحية: «والرافعي ممن أضرم الثورة على الفساد واللادينية والميوعة في الشرق ودعا إلى الأخذ بأسباب القوة المعنوية والمادية.

واسترجع محمد ناصر حياة شخصية تاريخية، ودينية، وهو الصحابي مازن بن غضوبة السعدي، الذي أقيمت ندوة ثقافية في مسقط، لغرض التعريف به، وبأعماله، فقال عنه: «يعد في نظر المؤرخين أول من أدخل الإسلام إلى عمان أسلم على يد الرسول الكريم، والتقى به مرارا في المدينة ومكة وقد تحدثت المصادر القديمة عن فضله وأخلاقه العالية».

ويجد القارئ في الرحلات القديمة المؤلفة في القرن التاسع عشر، ظاهرة عريقة في الكتابة، وفي مصادر التراث، وهي ظاهرة الاستطراد، المعتني بمواضيع مختلفة، منها المواضيع، المتصلة بالتاريخ، ومن ذلك ما قدّمه الأمير عبد القادر في استطراداته الكثيرة، ضمن ما أطلق عليه اسم «لطيفة» تدل دلالة واضحة عن الغرض الأسلوبي المرجو منها، وهو التخفيف، والترويح عن القارئ، مع الإفادة بما تقدمه من معلومة، أو خبر، قد يكون جديدا عليه، ومثل ذلك قوله: «كان بعض ملوك الأندلس بعث هدية لسلطان تلمسان، باني مشورها، السلطان أبي عنان الزناتي، مع عالم يقال له الغزال. فلما دخل عند الأمير فرح به وصارا يتحادثان ويتساءلان إلى أن أنشد الغزال أبياتاً «في تشبيه الأندلس بالجنة» فقال له السلطان: كذب هذا الشاعر حيث شبه أرضه بجنة الخلد، فقال له الغزال: بديهة مخاطبا الأمير: نعم يا أمير المؤمنين إن بلاد الأندلس أرض رباط وجهاد وكفاح للعدو وجلاد، والنبي (ص) الرحيم الرءوف يقول: «الجنة تحت ظلال السيوف»، فأفحم الأمير ولم يراجعه بعد، قال بعض: مثل هذا يكون سفيرا للأمراء».

وفي الأخير نستنتج أن دراسة لغة الرحلات من منظور التعدد، والحوارية، ومن منظور استدعاء التاريخ على الخصوص، برهنت على حسن استغلال كتاب الرحلات لمعطيات التاريخ، وتوظيفها داخل نصوصهم الإبداعية، كما بيّنت لنا مدى تنوع أشكال الاستدعاء والتوظيف، ومحتوياتهما: من استرجاع للوقائع، والأماكن، والشخصيات التاريخية، نقلا عن مصادر محددة، ومتخصصة، أو الاستشهاد بأقوال مجهولة النسبة، أو محاولة عقد مقارنات بين مواقف، وصور، تبرز أوجه شبه، أو اختلاف، أو الرغبة في إضاءة الإطار المكاني للأحداث، والتعريف به عن طريق الارتداد إلى زمنه التاريخي، أو تخليد مآثر شخصيات ماضية، تاريخية، والترجمة لها، كما قد يرد استحضار الزمن التاريخي ضمن عملية الاستطراد التي يخرج بها المؤلف من الموضوع الرئيس المتعلّق بالرحلة إلى موضوعات فرعية، وحكايات رديفة.

 

 

 

سميرة أنساعد 




مصر.. زارها أحمد منور فتعرف على تاريخها من أدبها (الصورة من أرشيف العربي)





استفاد كتاب الرحلات من معطيات التاريخ والصورة من القدس (الصورة من أرشيف العربي)





دمشق كانت -ولا تزال- من أهم مقاصد الرحّالة (الصورة من أرشيف العربي)





في مكة المكرمة نشأت الحكومة الصالحة كما توثق الرحلات الجزائرية (الصورة من أرشيف العربي)