الفقيه {ليتفقهوا فـي الديـن}

الفقيه {ليتفقهوا فـي الديـن}

صانعو الحضارة العربية الإسلامية

الوظيفة وليس الاسم, هذه هي الرؤية التي ينتهجها أستاذنا د. نقولا زيادة لدراسة حضارتنا الإسلامية ونحن في بداية هذا القرن الجديد, فالحضارة هي مجموعة من الأدوار والوظائف المتواصلة التي تسيّر الحياة البشرية, لا تتوقف بتغير الحكام وتوالي الدول, كما أن الانتكاسات السياسية لا تشل من فاعليتها, إنها تصنع نوعاً من الوتيرة الثابتة تحقق في النهاية ذلك التراكم الحضاري الذي أهل الحضارة الإسلامية أن تقوم بدورها وأن تأخذ سمتها.

الفقيه.. هل هو مقلد أم مجتهد وهل يكتسب شرعيته من النظام الحاكم أم أنه يكسب النظام شرعيته المفتقدة?

كانت الجماعة الإسلامية الأولى في المدينة يقوم بالحكم فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأعوانه من الصحابة. ولما بدأت الفتوحات الأولى في الجزيرة العربية كان من يولى ولاية أو أمر حرب عنده مصدران رئيسيان يرشدانه في أعماله الإدارية أو قيادته العسكرية وهما: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, وبعد ذلك فله أن يجتهد في حدود هذين المصدرين.

ولما بدأ العرب المسلمون بفتوحهم, وخاصة لما توسعت هذه الفتوح وانتشرت, ولعل القضايا والمشكلات قد اتسعت وتزايدت, ظل الحدان الأساسيان هما ما يسترشد به في الملمات, يضاف إلى ذلك الاجتهاد الشخصي.

وهذه الحالات, مع الاهتمام بتوضيح الإسلام في الأجواء الجديدة وضرورة مناقشة أصحاب الأديان الأخرى التي عرفتها الفئات الإسلامية المنتشرة في الأصقاع المتباعدة حملت أصحاب المعرفة بتفسير القرآن الكريم, الأمر الذي كان موضع اهتمام هؤلاء في القرن الأول للهجرة/السابع للميلاد.

على أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت موضع اهتمام خاص. لكن الذي اهتم بأمر جمع الحديث عمر بن عبدالعزيز, الخليفة الأموي (99ـ101/717ـ720). فبعد أن استشار أهل الرأي كتب إلى عامله على المدينة طالبا منه أن يجمع ما كان معروفا فيها من الحديث. وقد لبى طلب الخليفة الزهري (تو 124/ ) وهو عالم الحجاز والشام فدون له في ذلك رسالة. ويبدو أن عمر اتخذ هذه الخطوة خشية أن يختلط الحديث إذ إن الوضاعين بدأوا يضعون الأحاديث وينسبونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويبدو أنه, مع جمع الأحاديث أصبح لدى العاملين في محاولة استخراج أمور العبادات والقواعد الشرعية فيما يخص المسلمين ودولتهم, المصدران الأصليان.

وهنا نقع, كما سنرى, على أوائل الفقهاء.

على أنه يجب أن نذكر أن هؤلاء الفقهاء المبكرين كانوا يدركون أيضا أن ثمة أمورا أخرى يجب أن يلجأ إليها لاستخراج القواعد المذكورة إذا أعوزهم النص: ومن هنا نجد أن أمورا ثلاثة تدخل في عمل هؤلاء الفقهاء الأوائل وهي: القياس والإجماع والرأي. لكن الأمر لم يتم بين عشية وضحاها, بل اقتضى وقتا وجهدا.

جامعو الأحاديث

ولعل جمع الأحاديث هو الأمر الذي يجب أن نوليه العناية الآن, ولو أنه جاء متأخرا عن الاهتمام بالتفسير بعض الوقت.

المعروف أن (موطأ مالك) (توفي 179/786) هو أقدم كتب الحديث لكن بعض علماء الحديث القدامى كانوا يرون فيه كتاب فقه, كأن الإمام مالك أراده دليلا لأولئك الذين قد يميلون إلى الانصراف إلى هذه الناحية.

ومن حيث الترتيب التاريخي فإن (مسند أبي حنيفة) (تو 150/767) هو الثاني ويليه (مسند أحمد بن حنبل (تو 241/855).

ومسند أحمد مبوب على أساس الرواية ـ بالإسناد طبعا ـ عن الصحابة. ومن هنا فإن الأحاديث تتكرر فيه بسبب هذا الأسلوب.

ويلي ذلك, تاريخيا ـ (صحيح البخاري) (تو 256/870) و(صحيح مسلم) (توفي 261/875), ومن المألوف أن يشار إلى هذين باسم الصحيحين. وتأتي بعد ذلك أربعة كتب في الحديث يطلق عليها اسم السنن. فهناك (سنن أبي داود) (تو 275/888) و(سنن ابن ماجه) (تو 275/888) ?! و(جامع الترمذي) (تو 295/892) و(سنن النسائي) (تو 303/915).

ونود, قبل الانتقال من موضوع المحدثين ومجموعاتهم أن نضع الملاحظات التالية أمام القارئ:

أولا ـ ليست الكتب المذكورة هي كل ما صنف في الحديث, لكن هذه هي التي وصلتنا. وثمة كتب كثيرة لم يكتب لها البقاء.

ثانيا ـ أن العاملين على دراسة هذه المجموعات من الأحاديث قد صنفوها على طبقات: فالطبقة الأولى فيها من أقسام الحديث المتواتر والصحيح الأحادي والحسن.

ومصنفو هذه الكتب لم يرضوا بالتساهل فيما اشترطوه على أنفسهم. والطبقة الثانية قد يكون فيها الضعيف من الأحاديث. وهناك طبقتان تليان ذلك واحدة تكثر فيها أنواع الضعيف من الأحاديث. والأخيرة هي التي جمعت في العصور المتأخرة (من أفواه القصاص والوعاظ والمتصوفة والمؤرخين غير العدول وأصحاب البدع والأهواء). وهذه لا يعول عليها أحد ممن لهم إلمام بالحديث النبوي). والذي يجمع عليه الباحثون أن كتب الحديث التي ذكرت هي المعول عليها في علوم الحديث.

ثالثا ـ من المهم أن نذكر أن خمسة من جامعي الحديث ـ من البخاري إلى آخر اللائحة إما أنهم جاءوا أصلا من الديار الشرقية للخلافة العباسية أو أنهم قضوا أكبر جزء من حياتهم هناك وتوفوا في ديار الهجرة. فمن الأوائل ابن ماجه القزويني الأصل وأبو داود أصله أزدي والنسائي خراساني المنشأ. أما البخاري ومسلم فقد عاشا في بخاري وتوفي الأول على مقربة منها في نواحي سمرقند, أما مسلم فقد توفي فيها.

رابعا ـ وهو الأهم إن جمع الأحاديث على هذا النحو الواسع أدى إلى نشوء علوم الحديث من حيث الإسناد والجرح والتعديل وعلم مختلف الحديث وعلله وغريبه. وإلى ذلك فإن المحدثين كانوا هم الذين يستنبطون أصول العقيدة والشريعة من هذه الكتب المذكورة, بعد أن يكونوا قد أخذوا المباديء الرئيسية من القرآن الكريم.

ومفسرو القرآن

كان من الطبيعي أن يظهر مفسرون للقرآن الكريم في وقت مبكر من الوجود الإسلامي, ولابد أن الحاجة إلى ذلك ازدادت مع انتشار هذا الوجود.

والذي يتفق عليه الباحثون أن عبدالله بن عباس (تو 67/687) كان أول من أوضح للناس الكثير مما غمض من عبارات القرآن الكريم. وقد نشر تلاميذ عبدالله بن عباس الكثير من تفسيره ومنهم سعيد بن جبير (تو 94/713) ومجاهد (تو 102/721) وعكرمة (تو 105/724). وقد احتفظت تفسيرات عبدالله بن عباس بأهميتها وأصالتها بحيث أفاد منها الطبري (تو 310/922).

لكن الباحثين في تاريخ التفسير لم يعثروا بعد على عمل منفرد أو أعمال تختص بالتفسير. ويبدو لنا أن الأمر قد يعود إلى واحد من سببين: أولهما إن علوم الحديث, من حيث نتائجها لشئون العبادات والشريعة والمعاملات دخل فيها الكثير من التفسير, فلم توضع كتب كبيرة في التفسير بالذات. والسبب الثاني هو أن تكون كتب التفسير التي وضعت خلال الفترة السابقة للطبري قد استقى منها هذا المفسر حاجته, ولذلك اعتمد الناس بعد وفاته على تفسيره الضخم الجاد. وكما (ابتلع) تاريخ الطبري الروايات التاريخية المدونة قبله لأنه أخذ منها ما هو بحاجة إليه, فإن تفسيره قام بالعمل نفسه بالنسبة لما يمكن أن يكون قد وضع قبله.

ولذلك فإننا عندما نود أن نرجع إلى أي تفسير للقرآن الكريم فيه ما نحتاج اليه من مادة تاريخية و(حديثية) وعقائدية وشرعية فإننا نعود إلى تفسيرات جاءت متأخرة. ولنذكر هنا أهم هذه وهي أربعة: تفسير الطبري والزمخشري وفخر الدين الرازي والبيضاوي. ومع أن الأول منها الذي سنعود إليه في هذا الحديث, فإنه قد يكون نافعا التعريف بالكتب الأخرى وأصحابها.

أولا ـ الطبري (225 ـ 310/830 ـ 923) كان الطبري طالبا متنقلا من بلده في طبرستان عبر بغداد ومدن بلاد الشام (ويشير مؤرخوه إلى أنه اهتم بدراسة الحديث في هذه المدن) ومصر وسواها. وقد استقر في نهاية الأمر في بغداد وهناك وضع تفسيره المسمى (جامع البيان في تفسير القرآن) (والغالب أن يشار إليه بتفسير الطبري), كما ألف كتابه في التاريخ.

وقد اتبع الطبري لعشر سنوات مذهب الشافعي ثم استقل بمدرسته الخاصة وسمى طلابه أنفسهم (الجريرية) (نسبة إلى أبيه جرير).

ثانيا ـ الزمخشري (539/1144). فارسي الأصل لكنه كان لغويا عارفا بأسرار اللغة العربية, كما كان يشار إليه بالبنان من حيث علمه الديني. وقد توفي في الجرجانية (قرب بحر قزوين). واسم كتابه في التفسير هو (الكشاف عن حقائق التنزيل).

ثالثا ـ فخر الدين الرازي (تو 606/1209). ولد فخر الدين الرازي في الري ودرس فيها وفي مراغة. وبعد ذلك تنقل بين بخارى وخوارزم وجرات, حيث فتحت له مدرسة خاصة. وفيها توفي.

عني الرازي بالفلسفة ومن أعماله محاولته التوفيق بين الدين والفلسفة وله في ذلك كتب كثيرة. لكن الذي يهمنا في هذا الحديث هو تفسيره المسمى (مفاتيح الغيب) ويسمى أيضا (التفسير الكبير).

رابعا ـ البيضاوي وهو عبدالله بن عمر (توفي إما في سنة 685 أو 691/1286 أو 1291). كان قاضيا في شيراز ثم استقر في تبريز. وتفسيره هو (أنوار التنزيل وأسرار التأويل). ويبدو أنه بسبب صغر حجمه شاع استعماله كثيرا بين متعلمي القرآن الكريم ومدرسيه.

هنا موضع لوقفة قصيرة. مر بنا, فيما تحدثنا عنه كلمات عالم وعالم الحديث ومفسر. لكن كانت تظهر في ثنايا الذي قرأناه, كلمة فقيه. تحدثنا كتب التاريخ عن فقهاء معينين ـ مثل ابن مالك الذي يشار إليه على أنه (فقيه المدينة) والأوزاعي على أنه (فقيه الشام).

وقد تمر الكلمة على لاتعيين. ومن ألطف ما مر بنا قراءة إشارة الطبري إلى ابن حنبل على أنه ثقة في الحديث لكن ليس في الفقه. فهل كانت كلمة فقه (وفقيه) متأخرة في الدخول إلى الدراسات الشرعية أم أنها لم تكن قد اتضحت (حدودها) في الفترة المبكرة?

القرآن والقواعد الشرعية

إن الحديث عن هذه القضية يطول لأن كلمة فقيه مرت على أيدي الكثيرين بمعان متعددة قبل أن تصبح, ولو إلى درجة محدودة, تعني دراسة الأمرين الحديث والنصوص القرآنية لاستخراج القواعدالشرعية وتنظيمها. لكن يمكن القول إنه لما اقتضت شئون الدولة وإدارة أمور الناس ذلك, كان لابد من الانتقال من العناية بناحية واحدة أو بأخرى من مصادر التشريع إلى تناول الأمور بشكل عام. وهنا يبرز دور الفقيه.

ونود أن نؤكد هنا على أنه مع الوقت قام إلى جانب القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أمور قبل بها العلماء المسلمون المبكرون على خلاف في درجة التقيد بها. فكان هناك الإجماع والقياس والرأي في المقدمة وكان ثمة أيضا الاستحسان والاستصلاح. ولن نتوقف عند هذه الأمور, إذ إن فحواها ستتضح عند التحدث عن المدارس الفقهية, ولو باختصار.

المذهب والفقيه

كانت المدارس الإسلامية الأولى جغرافية التوزيع, تدور حول المدينة والعراق والشام. لكن في القرن الثاني للهجرة أصبحت تعتمد على الرجال. فصاحب المذهب وهو الذي ينتمي إليه التابعون أي يقبلون بتفسيره هو الذي يطبع المدرسة بطابعه. وهنا نعثر على (الفقيه) لأنه هو, كما مر بنا, الذي يقلب النواحي الإضافية لاستنباط القواعد الشرعية بأجمعها. وقد عثرنا على ثماني مدارس, وأحسب أنه آن الأوان لأن نسميها (مذاهب) تعود إلى القرن الثاني الهجري, وهي مرتبة ترتيبا زمنيا:

1ـ مذهب أبي حنيفة (تو 150/767).

2ـ مذهب عبدالرحمن الأوزاعي ـ فقيه أهل الشام, (تو 157/774).

3ـ مذهب مالك بن أنس (تو 179/795).

4ـ مذهب الشافعي (تو 204/820).

5ـ مذهب ابن حنبل (تو 241/855).

6ـ مدرسة داود بن علي (أو بن خلف) ـ (تو 270/883) وهي تنتمي إلى الظاهرية, الحركة التي أنشأها صاحبها).

7ـ مدرسة سفيان الثوري (تو 270/833).

8ـ مدرسة الطبري (تو 310/923). وقد عرفت باسم الجريرية على اسم أبيه جرير.

وقد يكون ثمة سواها, ولكن هذا العدد يكفي للتمثيل.

من هذه كلها انتهت اثنتان بعد وفاة المؤسس وهما الثورية والجريرية. وظل مذهب الأوزاعي حيا في بلاد الشام وانتشر حتى الأندلس, لكن لما دخل المذهب المالكي إلى شمال إفريقيا والأندلس انتهى أمره عمليا. وبقيت المذاهب الأربعة هي التي عينت الاتجاه العام في العالم السني.

(لم نتحدث عن النواحي المتعلقة بالشيعة على اختلاف اتجاهاتهم لأن الأمر يطول).

المذاهب الأربعة

ولنعرض الآن لهذه المذاهب الأربعة بالاختصار كي لا نطيل على القارئ.

1ـ أبوحنيفة ( ح 81 ـ 150/ ح700 ـ 767) كوفي المولد.

وقد أقام ببغداد مدة طويلة. ولعل الحركات الفكرية والعلمية التي كانت قد بدأت في العراق قد أثرت بعض الشيء في تفكيره. والواقع فإنه لم يصلنا أي أثر من كتاباته الأصلية. ويعود نشر أفكاره وآرائه على الخصوص إلى اثنين من طلابه وهما القاضي أبو يوسف يعقوب (تو 182/798) في (كتاب الخراج) الذي وضعه للخليفة هارون الرشيد, وقد بين فيه الأحكام الشرعية بشكل خاص, ومحمد بن الحسن الشيباني (تو 189/798) في (كتاب الأصل) (أو المبسوط) و(الجامع الصغير) و(الجامع الكبير). ويمكن اعتبار هذين التلميذين صاحبي فضل كبير في توضيح المذهب الحنفي, حتى يقال إن فضلهما قد يتعدى عمل صاحب المذهب نفسه.

وثمة (مسند أبي حنيفة) الذي جمعه طلابه بعده. فأبوحنيفة لم يكتب إلا قليلا, ذلك أنه قضى أكثر وقته في التدريس وفي تدريسه تطورت أفكاره إلى حد أنه ثمة خلافات فيما روي عنه أو نقل.

وإذا كان من أمر خاص يتعلق بفقه أبي حنيفة فهو أن الرجل كان يفضل اللجوء إلى الرأي, عندما ينعدم نص قرآني أو حديث شريف على القياس. ومن هنا فقد كان شديد النقد لأصحاب الحديث, كما كان هؤلاء خصوما له.

2ـ مالك بن أنس (90 أو 97 ـ 179/709 أو 716 ـ 795) أشير إليه فيما بعد باسم فقيه المدينة وإن كان اللقب كان متأخرا بالنسبة إليه, فمعاصروه لم يعترفوا له إلا أنه كان من أصحاب الحديث. ويبدو أن مالك بن أنس لم يدون كثيرا في حياته بل كان يدرس ويفسر ويجيب عن أسئلة طلابه وطالبي علمه. (وموطأ مالك) هو أقدم ما وصلنا من كتب المسند الذي تروى فيه الأحاديث بالنسبة لمصدرها.

ولكن حتى المسند لم يضعه هو بنفسه بمعنى أنه ألفه. إنه يمثل (إجماع) المدينة في الناحية الفقهية في دور تطور هذا الموضوع الرئيسي في تلك الفترة. وهو على كل حال أقدم كتاب شرعي وصلنا.

وقد انتشر المذهب المالكي انتشارا واسعا في الشمال الإفريقي والأندلس, وتغلب على مذهب الأوزاعي هناك. فضلا عن ذلك فقد كان له دور كبير في مناطق إفريقية أخرى بسبب أن أكثر الذين نشروا الإسلام في إفريقيا الغربية والوسطى كانوا من اتباع هذا المذهب.

3ـ أحمد بن حنبل (164ـ 241/780 ـ 855). بعد فترة دراسة في بغداد, بدأ سنة 183/799 رحلته في طلب العلم التي حملته عبر العراق وسوريا والحجاز إلى اليمن, ودامت اثنتي عشرة سنة عاد بعدها إلى بغداد حيث درس على الشافعي الفقه وأصوله. وقد امتحن في قضية خلق القرآن وعذب لكنه لم يتزحزح عن موقفه. ولما عادت الأمور إلى نصابها أيام المتوكل (232 ـ 247/847 ـ 861) أعيدت إليه منزلته. وقد تجمع حوله بعد ذلك عدد كبير من طلاب علمه, فثابر على التدريس إلى آخر عمره, ومات في بغداد.

مسند أحمد فيه من الأحاديث, وبعضها مكرر, بين 28,000 و30,000 حديث. فأحمد بن حنبل كان قد انتهى إلى رأي قاطع هو أن القرآن الكريم والحديث (وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم) هما المصدران الوحيدان اللذان يمكن أن يشرعا, أما القياس والرأي فلم يقبل بهما.

4ـ الشافعي (150 ـ 204/767 ـ 820), وبعد وفاة والده حملته أمه إلى مكة. قضى بعض شبابه في اليمن ثم حمل إلى بغداد, حيث تعرف إلى تلاميذ أبي حنيفة وتعرف إلى (الرأي) في نظرة أبي حنيفة. ودرس على مالك بن أنس طالبا بين يديه في المدينة, وعرف وجهة نظره في الحديث كأصل للشرع. وعاد ثانية إلى الحجاز وقضى تسع سنوات مدرسا في الحرم المكي. وانتقل إلى بغداد ثانية ثم هاجر إلى مصر (199/815) وقضى بقية عمره هناك.

يعتبر الشافعي واضع أسس الفقه في أصوله وفروعه. وقد أوضح ذلك في كتابه المسمى (الرسالة). ويمكن تلخيص عمل الشافعي في مجال الفقه في أمرين: أولهما أنه جعل للتعابير الفقهية معاني محددة. أما الثاني فإنه وضع قواعد بين فيها مصادر الفقه من حيث المصادر التي يجب الاعتماد عليها.

المصادر الأربعة

هذه المصادر هي أربعة: الكتاب الكريم والسنة النبوية, أما المصدران الباقيان فهما الإجماع والقياس. والإجماع (هو الرأي الذي يقره أهل العلم بالإجماع.. أي المبدأ الذي يتقبله الفقهاء على أنه أمر واقع متفق عليه). والقياس مشروط بكونه هو النظر في العلة أو السبب الذي يكمن وراء النص أو السنة. ولعل عبارته بالذات هي التي توضح رأيه, يقول: (العلم وجهان اتباع واستنباط. والاتباع اتباع كتاب فإن لم يكن فسنة, فإن لم يكن فقول عامة من سلف لا نعلم له مخالفا. فإن لم يكن فقياس على كتاب الله عز وجل. فإن لم يكن فقياس على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن لم يكن فقياس على قول عامة من سلف لا مخالفة له).

إلى هنا انتهى عمل المفسرين ورواة الحديث وعلماء المسلمين والفقهاء. وكان كل من هؤلاء (يجتهد) حتى وصل الجميع إلى هذا الحد في القرن الثالث/التاسع.

لكن بعد هذه المحاولات انقفل باب الاجتهاد, إلا في حدود واحد من هذه المذاهب السنية. من هنا, منذ القرن الرابع/العاشر أصبح الفقيه (مقلدا) إذ أصبح يتوجب عليه أن يبحث في الأمور الفقهيه في إطار واحد من المذاهب الأربعة.

الخلافة والإمامة

شهد القرن الرابع/العاشر تضعضعا في المركز من الخلافة العباسية. فدويلات الأطراف استقلت فعلا, وإن كانت ظلت, في أغلبها, تعترف بالخليفة, كي يكون لحكامها موقف شرعي. وكان أكثرها يحصل على إذن من الخليفة ليكون أميرا أو ملكا. وفي داخل الخلافة نفسها كان الحاكمون من الأتراك يطلق عليهم, الواحد بعد الآخر, أميرا أو أمير الأمراء.

لكن في سنة 334/945 جاء البويهيون (وهم من الشيعة) بغداد بقيادة أحمد بن بويه وانتزعوا الحكم من الخليفة العباسي. وقد نصبه الخليفة (أمير الأمراء) ومنحه لقب (معز الدولة) وذكر اسمه, فيما بعد, تاليا لاسم الخليفة في الخطبة, كما سُكت النقود باسمه. وقد دامت سلطة البويهيين حتى سنة 447/1055.

إذن ثمة أزمة أصابت مركز الخليفة نفسه.

هنا جاء الماوردي (364 ـ 450/974 ـ 1058) للتغلب على هذه القضية في إطار من الفقه الإسلامي. والماوردي كان قد عمل في القضاء وقام بمهمات دبلوماسية للخلافة, فضلا عن أنه من كبار الفقهاء.

والأمور التي ندب الماوردي نفسه لها, من أجل الحفاظ على مراكز الخلافة هي التالية.

1ـ الخلافة أو الإمامة ضرورة للجماعة إذ إن هذه بحاجة إلى من يسوس أمورها ويدير شئونها.

ولأنها كانت قائمة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن استمرارها بالقيام بواجبها أمر لابد منه. (والمباديء التي قامت عليها شرعية الراشدين والأمويين هي المباديء نفسها التي تقوم عليها شرعية العباسيين). ومقاصد الخلافة عنده بأنها (موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا).

2ـ الوزارة نشأت عن الكتابة أصلا, والإمارة مثلها. فالأمير هو الشخص الذي ينتدب به الخليفة لادارة ولاية من الولايات التابعة للدولة. لكن الوزارة أصبحت شيئا آخر في أيام الماوردي, كما أن الإماراة تبدلت صفتها.

وهنا يأتي الماوردي برأيه في الوزارة من حيث إنها أصبحت على نوعين ـ وزارة التنفيذ وهي التي ينفذ فيها الوزير أوامر الخليفة ووزارة التفويض التي يتنازل فيها الخليفة عن شئون الدولة إلى وزيره, فيقوم بالأمور على مسئوليته. ولكن تظل للخليفة المنزلة الدينية على أنه رأس الجماعة).

3ـ الإمارة ـ اعتبر الماوردي أن الإمارة هي استمرار لما كانت عليه دوما, لكنها في أيامه كانت على صنفين: (إمارة الاستكفاء) التي تتم بشكل طبيعي, إذ يعين الخليفة الأمير ويندبه للقيام محليا بالواجبات ذاتها التي تترتب على الخلافة. أما الثانية فهي (إمارة الاستيلاء) وهي (التي تعقد عن اضطرار. فهي أن يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلده الخليفة إمارتها, ويفوض إليه تدبيرها وسياستها, فيكون الأمير باستيلائه مستبدا بالسياسة والتدبير, والخليفة بإذنه منفذا لأحكام الدين.. وهذا وإن كان فيه خروج عن عرف التقليد المطلق واحكامه وشروطه ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلا مدخولا ولا فاسدا معلولا).

لا نود أن ندخل في تفاصيل أخرى. المهم أن الماوردي (شرْعَن) ما كان قائما, مرجعا كلا إلى أصل قديم, مفصلا التطور. وغايته أصلا حماية الجماعة.

يقول رضوان السيد (هذا التقليد.. هو في الواقع دفاع عن الخليفة والخلافة, يتجاوز شكليات السلطة الواحدة أو وحدة السلطة (وهي في الأصل الخلافة) ليضع نصب عينيه الأهداف العليا فقط للشريعة الموحاة.. (وهو) في النهاية اعتراف بالحدود الشرعية الإسلامية) وحفاظ على الجماعة ووحدتها تحت سلطة الخليفة أو الإمام.

هذا نموذج من الفقه أو التفقه الذي عثرنا عليه بعد انقفال باب الاجتهاد. وفيما بعد أصبح عمل الفقهاء أن يتناولوا المصالح المرسلة والفتاوى في الشئون العامة (أو حتى الخاصة) والجهاد (كما حدث في أيام الصليبيين وأيام الحملات المغولية).

لكن الفقيه كان, بعد مذاهب فقهاء القرن الرابع/العاشر الأربعة, مقلدا لا مجتهدا. وتاريخ الدول المختلفة فيها أدلة على ذلك. ولعل المثل الممتاز على وجوب الحصول على سلطة شرعية (الخلافة) لتمكين السلطان من الحكم هو ما فعله الملك الظاهر بيبرس البند قداري, لما أحيا الخلافة العباسية في مصر (كي يكون له ولخلفائه غطاء شرعي) ولو أنه منذ البداية أطلق على نفسه (قسيم أمير المؤمنين).

 

نقولا زيادة