الداروينية والتنمية التطورية.. د. أحمد أبوزيد

الداروينية والتنمية التطورية.. د. أحمد أبوزيد

يعتبر عام 2009 عام تشارلس داروين وذلك بمناسبة مرور مائتي سنة على مولده الذي كان في الثاني عشر من فبراير عام 1809.

ظهرت بهذه المناسبة عشرات الكتب ومئات المقالات في المجلات والدوريات العلمية في كثير من الدول، وكلها تحاول أن تلقي أضواء جديدة تماما على بعض جوانب فكره التي لم يتعرض لها أحد من قبل، أو التي لم تجد ماتستحقه من عناية كافية أو التي أسيئ فهمها ووجد كتابها أنه آن الآون لكي توضع في إطارها الصحيح، كما حرصت بعض هذه الكتابات على أن تكشف عن الجوانب غير المعروفة عن شخصيته وطبيعة تفكيره والبعد الإنساني في هذا التفكير وتتساءل عن مستقبل الداروينية بوجه عام والدور الذي يمكن أن تقوم به بالنسبة لعالم الغد ومستقبل الحياة على وجه الأرض. والملاحظ بوجه عام أن هناك اتجاها غالبا في هذه الكتابات للتعاطف مع داروين والدفاع عن آرائه التي وجدت منذ بداية ظهورها كثيرا من المناوأة والتهوين من أمرها والتشكيك في صاحبها نفسه بالرغم من محاولات التقريب بين تلك الأفكار والنظرة الدينية للكون والإنسان وفكرة الخلق التي تتعارض صراحة مع نظرية التطور الداروينية. وقد ذهب بعض الكتاب إلى أن ذلك التعارض ظاهري فقط، وأن بعض العناصر الداروينية تظهر بالفعل في عدد من الديانات والمعتقدات الدينية، التي استخدمت تلك العناصر قبل أن تظهر في أعمال داروين، في تقوية وتدعيم دعواتها الإيمانية. وعلى ذلك فإن الخلافات بين نظرية الخلق ونظرية التطور ليست على كل هذه الدرجة من الحدة، لو أحسن فهم النظرية, وبخاصة في ضوء المستجدات والتقدم العلمي في مجال البيولوجيا والهندسة الوراثية.

وربما كان من أهم ما أثير في الكتابات الأخيرة من تساؤلات هو هل لداروين والداروينية مستقبل في القرن الحادي والعشرين؟ أم أن الداروينية سوف تنحسر وتتوارى وتصبح من ذكريات التاريخ، كما حدث بالنسبة لكثير من النظريات الأخرى، التي سيطرت على الفكر الإنساني لفترات طويلة من الزمن بقوة لاتقل عن قوة سيطرة نظرية التطور خلال القرن ونصف القرن الأخيرين منذ ظهور كتاب داروين الرئيس «أصل الأنواع Origin of Species»- وهل يمكن أن تؤلف الداروينية رؤية متكاملة عن الطبيعة البشرية ترسي قواعد ومبادئ أخلاقية لمستقبل البشر وتقدم للعالم فكرة واضحة عن مصيره ومستقبله - خاصة أن داروين في كتابه الآخر الذي لم يلق الاهتمام نفسه وهو كتاب Descent of Man الذي صدر عام 1871 كان يتنبأ بعالم تتضاءل فيه الصراعات بين الدوافع والنزعات العليا والدنيا، وتسود فيه «الفضيلة» والإحسان، وأن الجنس البشري

لا تتحكم فيه المصالح المادية تماما، وأنه لايخلو من الحب والتعاطف والتعاون. ويؤكد على هذا الاتجاه ما عرف عن داروين وعائلته أنهم كانوا من المعارضين لسياسة الرق وتجارة الرقيق، لدرجة أنه قال في رحلة البيجل الشهيرة Voyage of The Beagle وهو عائد من العالم الجديد مشيرا إلى أمريكا، «أحمد الله أنني لن أعود أبدا لزيارة دولة العبيد». وهناك من يرى أن موقف عائلة داروين كلها ضد الرق كان من العوامل التي أدت إلى اعتقاده بأن كل البشر انحدروا وتطوروا من سلف واحد أيا ماتكون خصائص ذاك السلف وعلاقته بالكائنات الآخرى.

والواقع هو أن أفكار داروين كانت تتعدى دائما العالم الطبيعي، وكان لها أبعاد اجتماعية وأخلاقية عديدة. وقد أفلح كتاب أصل الأنواع، الذي مر على صدوره الآن حوالي قرن ونصف القرن في هدم كثير من الأفكار والآراء التي سادت في عصر الاستعمار، ومساندته لبعض القوى المتحكمة في البشر، وما ترتب على ذلك من إجراءات حول اختلاف الأعراق والسلالات والإبادة الجماعية للقبائل والشعوب (البدائية) وسياسة التعقيم الإجباري وماإليها بحجة البقاء للأصلح قبل أن يقول بها داروين ولكن في سياق مختلف تماما. والطريف هنا هو أن داروين نفسه أبدى تشككه حول دقة تسمية كتابه أصل الأنواع وكان يتساءل عما إذا كان من الأفضل أن يحمل عنوانا آخر مثل The Preservation of Favoured Races In The Struggle For Life. ولكن الملاحظ أن هذا العنوان الجديد يتضمن هو أيضا فكرة الصراع من أجل الحياة وبالتالي مفهوم «البقاء للأصلح». وعلى أية حال فإن محاولات شرح عملية التطور قديمة وسابقة على عصر داروين بقرون، كما أن الأفكار المعارضة والرافضة لمبدأ التطور نفسه قديمة وإن تكن لأسباب واعتبارات مختلفة.

وكان داروين يذكر دائما أن فكره التطوري له هدفان أساسيان، الأول هو الكشف عن حقيقة التطور أو الرابطة الجنيالوجية بين كل الكائنات العضوية، وتاريخ الحياة الذي تنظمه ظاهرة الانحدار الذي يصاحب عملية التعديل. والهدف الثاني هو التعريف بنظرية الانتخاب الطبيعي Natural Selection باعتبارها أهم ميكانيزم في العملية التطورية. وكما يقول عالم البيولوجيا الذي يكاد يكون مجهولا تماما في العالم العربي ستيفن جاي جولد Stephen Jay Gould: إن كل العقلاء يقبلون فكرة التطور من دون تحفظ، وأن الانتخاب الطبيعي فكرة قوية وسبب رئيسي للتطور. وداروين نفسه يقول في كتابه The Descent Of Man إن لديه مسألتين متميزتين هما أولا «أن يبين أن الأنواع لم تخلق منفصلة بعضها عن بعض، والثاني هو أن الانتخاب الطبيعي كان العامل الرئيسي في التغير». ويعلق ستيفن جاي جولد على هذه العبارة بقوله: «إن من الواضح أن داروين كان يحبذ دائما نظرية الانتخاب الطبيعي ويصفها بأنها «طفله» العزيز، ولكنه كأي أب صالح كان يدرك حدود تلك المعزّة، وأن ظاهرة التطور المعقدة الشاملة لايمكن ردّها إلى عامل أو سبب حقيقي واحد».

إساءة فهم

في طبعة عام 1972 لكتاب أصل الأنواع كتب داروين يقول: «نظرا لأن استنتاجاتي قد أسيء فهمها أخيراً، ونظرا لما قيل عن أنني أرد تعديل الأنواع إلى الانتخاب الطبيعي وحده، فإنني أرجو السماح لي بأن ألاحظ أنه في الطبعة الأولى من هذا العمل والطبعات التالية, حرصت على أن أضع في مكان بارز للغاية وأعني بذلك نهاية المقدمة - الكلمات التالية : «إنني مقتنع تماما أن الانتخاب الطبيعي كان هو الوسيلة الأساسية, ولكنها ليست الوحيدة للتعديل». إلا أن ذلك التنويه لم يكن مجديا لأن قوة التشكيك والرفض مع إساءة العرض المستمرة كانت قوة هائلة توارت إزاءها كل محاولات الشرح والتوضيح. وعلى أية حال فإن هذه الحملات الضارية من التشكيك لم تمنع عالما في حجم ريتشارد دوكينز Richard Dawkins من أن يتهم المعارضين للداروينية بأنهم «جهلة وأغبياء وحمقى»، وأن يقول بعد ذلك بسنوات: «إنني لاأسحب أي كلمة مما قلته سابقا وإن كنت أعتقد الآن أنها لم تكن كافية». بل إن العالم الفيلسوف دانييل دينيت Daniel Dennett يصف الداروينية بأنها أشبه بالحامض الكاوي Acid الذي يستطيع أن يمحو ويزيل تماما أي فكرة يلمسها.

ولكن السؤال المهم هنا هو: هل يمكن بمقتضى النظرية الداروينية التحكم في تطور الجنس البشري؟

ليس هناك في رأي الكثيرين مايمنع من ذلك في ضوء التغيرات العلمية والتكنولوجية والقدرة على التحكم في الجينات الوراثية وتغير القيم وزيادة الاحتكاك بين الشعوب والتزاوج واختلاط الأعراق. ولكن التغيير الهادف يحتاج إلى تنسيق وتعاون بين قوى متعددة لتوجيه عملية التطور نحو أهداف محددة وواضحة, وأنه لابد من تحديد ما هو ذلك (الأصلح) الذي يراد تحقيقه والمتغيرات المتعلقة بهذا الاختيار.

فالفكرة السائدة في كثير من الأوساط أن الجنس البشري قد توقف عن التطور منذ حوالي خمسين ألف سنة بظهور الإنسان العاقل Homo Sapiens الذي يمثله الإنسان المعاصر، وأن الحضارة وضعت حدا لهذا التطور. فالإنسان العاقل هو إنسان الحاضر والمستقبل. ولكن يبدو أن ذلك غير صحيح تماما وأن الجنس البشري لايزال يتطور حتى بمعدلات أكبر وبخطى أوسع وأسرع مما حدث في الماضي وانه يكتسب ملامح وخصائص جينية ووراثية جديدة, وأن عملية الانتخاب الطبيعي البطيئة التي كانت تستغرق عشرات القرون لم تعد تتلاءم مع متطلبات العصر وأن العلم الحديث بدأ يتدخل في فرض «انتخاب» من نوع جديد، لايكاد يترك مجالا لعملية الانتخاب الطبيعي التي قال بها داروين والداروينية التقليدية.

طفرة تطورية

ويذهب مقال في مجلة Futurist (عدد يوليو/اغسطس 2009) يحمل عنوانا طريفا هو: «كيف يتطور التطور» How Evolution Is Evolving إلى أن الجنس البشري على أبواب مرحلة تطورية أو على الأصح طفرة تطورية جديدة سوف تتحقق خلال السنوات الخمسين القادمة نتيجة عوامل كثيرة ليس أقلها شأنا إمكان القضاء على كثير من الأمراض الفطرية أو الوراثية Congenital المعروفة، التي يقاسي منها الإنسان, وأن الاكتشافات الحديثة في هذا المضمار تبشر بحدوث قفزة بالنسبة للأجيال التالية، وإن كان هناك دائما خطورة أن يؤدي ذلك إلى انكماش في التنوع البشري الذي عرفته الإنسانية خلال تاريخها الطويل فتتلاشى الاختلافات والتباينات بين السلالات والأعراق والشعوب والثقافات.

وقد ظهرت اتجاهات جديدة تنظر إلى الداروينية من زوايا مختلفة دون أن تتنكر لمفهوم التطور ذاته، وتذهب على سبيل المثال إلى أن التطور يتم عن طريق التعاون أو العون المشترك Mutual Aid أكثر مما يتم من خلال الصراع الذي يحتل مكانا بارزا في فكر داروين. وهذه نظرة بدأها عالم البيولوجيا الروسي الأصل يوتر(يتر) كرووتكين Pyotr Kropotkin في كتاب مشهور يحمل في عنوانه تلك العبارة (العون المشترك) ظهر في أوائل القرن الماضي وترجم إلى عدة لغات ثم عمل على إحياء الفكرة والدعوة إليها ستيفن جاي جولد وترتب عليها ظهور نظرية التنمية التطورية Evolutionary Development التي ترسم مسار التطور في المستقبل. فالتنمية التطورية تهدف إلى إيجاد أشكال أكثر رقيا وتعقيدا من الحياة البيولوجية والاجتماعية على السواء عن طريق استخدام مستحدثات ونتائج العلم الحديث والتكنولوجيا. فعلى الرغم من أن عملية التطور الطبيعي الحر الطليق أو التلقائي أدت إلى ظهور أشكال وصور عديدة معقدة خلال مراحل التطور التي استغرقت حقبات طويلة من الزمن، فإنها أدت أيضا في الوقت ذاته إلى اختفاء واندثار أشكال أخرى عديدة من الحياة الطبيعية والاجتماعية وذلك على عكس التنمية التطورية التي تمنع من تكرار تلك (الكوارث) وذاك عن طريق التدخل بل والتحكم في تعديل مسار عملية البقاء للأصلح وتوجيهها مع متطلبات ظروف الحياة في المستقبل. وإذا كان التطور البيولوجي قد أدى بمقتضى الداروينية التقليدية إلى تقدم كل أنواع الكائنات الحية، بما فيها المخلوقات العاقلة بجميع خصائصها ومقوماتها الإدراكية فإن التنمية التطورية تهتم إلى جانب ذلك بالنمو الثقافي والتكنولوجي كعامل مساعد على تقدم وارتقاء الجنس البشري بطريقة عقلانية واعية ومرسومة وبسرعة أكبر مما كان يحدث في الماضي بمقتضى الانتخاب الطبيعي, كما تحقق تقدما هائلا في طول فترة الحياة من ناحية, وتقدم إنتاجية العمل والمعرفة العلمية والتنظيمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, من الناحية الأخرى.

الحمل والإنجاب: تعديل ثوري

الأداة الفعالة المبدئية في هذه التنمية التطورية هي أيضا التطور البيولوجي الذي يتم حسب تخطيط مدروس يرتكز على التقدم العلمي في مجال الهندسة الوراثية, وإمكانات التدخل في تنظيم القدرات الجنسية على التوالد والتكاثر وما يتبعها من القدرة على التحكم في تحديد فترات الحمل والولادة بأساليب أكثر فعالية مما هو معروف حتى الآن. فإذا كانت الطبيعة البيولوجية تحدد إمكانات المرأة على الولادة والإنجاب بطفل واحد جديد في السنة الواحدة كما تتطلب مرورعقد ونصف عقد تقريبا لكي يبلغ ذلك الطفل الوليد درجة النمو الجنسي التي تؤهله للاضطلاع بعملية الإنتاج الإنجابي فإن التقدم العلمي سوف يتدخل في تعديل تلك الفترة في الحالتين وذلك علاوة على زيادة القدرة على تغيير الملامح والمقومات الفيزيقية والإمكانات الذهنية للفرد، بالرغم مما قد يكون في ذلك من مآخذ أخلاقية أو دينية. وقد ذهب ستيفن جاي جولد وزميله نايلز إلدردج Niles Aldridge إلى القول إن التغير يمكن أن يحدث بسرعة أكبربالمقارنة بالفترات الطويلة التي كانت تستغرقها عملية التطور الطبيعي.

وواضح أن التغيرات التي طرأت على الداروينية التقليدية نتيجة للتقدم العلمي تحاول نقل مبدأ البقاء للأصلح من النطاق البيولوجي المحدود نسبيا إلى مختلف المجالات الاجتماعية والسلوكية والثقافية مع إخضاع التغيرات البيولوجية للمبادئ العلمية والاتجاهات التكنولوجية الجديدة. وصحيح أنه لاتزال هناك بعض الاتجاهات التي تثير التشكك أو حتى المناوأة والرفض لمبدأ التطور، ولكن أنصار الداروينية - سواء في أبعادها التقليدية أو اتجاهاتها الحديثة - يرون أن هذه الاعتراضات تصدر في الأغلب عن دوافع دينية ولا تستند إلى حقائق علمية راسخة. وبالرغم من كل ما يقال ضد الداروينية والتطور فإن النزعة التطورية وجدت طريقها بالفعل إلى كثير من المجالات العلمية بحيث نجد الآن من يتكلم ويبحث في علم النفس التطوري والأخلاق التطورية، بل والطب التطوري Volutionary Medicine وغيرها، وأن محاولات منع تقديم برامج دراسية في بعض الجامعات في الخارج وفي أمريكا بالذات تعتبر في نظر الكثيرين نوعا من النكوص والارتداد عن مسيرة العلم والتقدم والتطور الحضاري. والمهم هو أن معظم الجدل يدور الآن ليس حول إذا ما كان التطور حدث بالفعل في الماضي، وسيحدث بشكل ما في المستقبل، أو حول مجالات ذلك التطور, ولكنه يدور حول كيف حدث هذا التطور في الماضي؟ وكيف يحدث الآن؟ وسيحدث في المستقبل؟. وإذا كانت الداروينية التقليدية وتطبيقاتها البيولوجية والإيكولوجية وليدة القرن التاسع عشر، والتغيرات التي شهدها عصر الثورة الصناعية والحركات الاستعمارية التي كشفت عن التفاوت الهائل بين الشعوب المتقدمة و(البدائية)، فإن الاتجاه التطوري الحالي المتمثل في التنمية التطورية هو وليد التغيرات العلمية والتكنولوجية الهائلة التي يشهدها العالم المعاصر والتي سوف يستخدمها الإنسان في إنتاج أشكال جديدة من الحياة بطريقة عقلانية واعية وهادفة.

 

 

 

أحمد أبوزيد