مناهج الفكر في الحضارة العربية المعاصرة.. المنهجان الخَطَّي والشبكي

  مناهج الفكر في الحضارة العربية المعاصرة.. المنهجان الخَطَّي والشبكي
        

          أصبحت صفة التغيّر، في الزمن الراهن، أقوى من كل مظهر للثبات، حتى لكأن العالم المعاصر ما عاد يعرف حقيقة وجهه، أو لعلّه أيقن ألا حقيقة ثابتة لما كان يعتبره وجهًا له ومقياسًا لوجوده. ولابد للجميع، والحال كذلك، من الوقوف أمام تحدي هذا الواقع والنظر فيه والسعي إلى مناهج للتعامل معه، إما لمصلحة لهم في استمراره وانتعاش آفاقه، وإما رغبة منهم في القضاء عليه وتبديد قواه. لكن، ما من عمل إلا ويتطلب تحديد منهج له، والمنهج، في هذا المفهوم، يتحمّل قسطًا كبيرًا من نجاح العمل أو فشله أو حتى تعثّره. لذلك، فالأهميّة الكبرى التي يواجهها العرب في هذه المرحلة ليست فقط في تحديد موقف لهم من قضايا العصر وتحدياته، بل تحديد المنهج الصالح الذي يكفل نجاح ما يريدون عمله وتحقيقه.

          من هنا، يمكن اعتبار القرن العشرين مجالاً ميسرًا لدراسة نماذج من التفاعل العربي المعاصر مع حركة الحياة وتطوّراتها، كما يمكن، لهذا القرن، بما حفل به من نوعية أحداث ومسالك فعل، أن يشكّل مصدرًا عمليًا لاستخراج دروس عن مناهج العرب في تفاعلهم مع الحياة المعاصرة.

          يمكن النظر في مسيرة الحياة العربية، بناء على هذا، عبر أربع محطات أساسية:

          (1) الحكم العثماني.
          (2) الانتداب الغربي والحرب العالمية الثانية.
          (3) ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي.
          (4) ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبدء فرض سياسة القطب الواحد على العالم.

1 - محطة الحكم العثماني

          لئن استمر الحكم العثماني للمناطق العربية ما ينوف عن خمسة قرون، فإنه احتلّ، من حياة العرب، حوالي العشرين سنة الأولى من سنوات القرن العشرين. لقد غربت الشمس السياسية لهذا الحكم بين سنتي 1918و1920، إذ أُعلن توقف الحملات العسكرية للحرب العالمية الأولى وبدء اتخاذ الإجراءات الدولية لنهاية الارتباط السياسي بين المنطقة العربية والحكم العثماني.

          كانت المنطقة العربية، خلال السنوات الطويلة لهذه المحطة التاريخية من حياة العرب، تشكّل وجودًا ضمن الإثنيات المتعددة التي تألفت منها شعوب السلطة العثمانية. وكان ارتباط المنطقة العربية، بمن هم في السلطنة، يتم عبر طريقين نوعيين: واحد يمتد مباشرة إلى العاصمة السياسية «اسطمبول» وآخر يتنقل بين سائر المناطق والقوميات التي تشكل العناصر الديمغرافية للسلطنة، مع الإشارة إلى أن أيا من أطراف هذه الخطوط لم يجد أي تعارض أو تناقض بين الخط الذي يمثل والخط أو الخطوط الأخرى التي يتفاعل معها مباشرة، أو يتفاعل مع الآخرين، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، عبرها. فـ«اسطمبول» مثّلت في هذه المعادلة مركزة السلطة، في حين أن الولايات العثمانية مثلت التنوع الفاعل ضمن تلك المركزية.

          والملاحظ أن العلاقة بين العرب والآخرين لم تكن، ههنا، علاقة ضمن نسيج من خط أو خيط واحد، بل كانت علاقة تقوم على نسيج شبكي يتألف من عدة خطوط أو خيوط. فالارتباط بين العرب والإدارة السياسية المركزية في «اسطمبول» كان خطأ واضحًا، بيد أنه كان واحدًا ضمن خطوط أخرى تربط بين العرب وبقية شعوب الولايات العثمانية المتعددي الإثنيات واللغات والديانات. ومن هنا، فلقد تعامل العرب، في هذه المرحلة، مع محيطهم السياسي والديموغرافي والحضاري والاجتماعي، عبر نظام أو منهج متعدد الخطوط.

منهج ناجح

          ظهر نجاح هذا المنهج في عدد من الوجوه العملية التي انتظمت الوجود العربي طيلة سنين هذه المحطة وما سبقها من عقود، بل قرون. ولعل من أبرز الأمثلة على هذه الوجوه ما يشهد له التاريخ العربي من وجود لمنطقة عربية واحدة، لا حدود سياسية تفصل فيما بينها. وهي منطقة أثبتت قدرة واضحة على التفاعل الإيجابي فيما بينها ومع ما كان يحيط بها ويجاورها من أراض تابعة للسلطنة العثمانية. ومن الناحية الاقتصادية فقد تجلى هذا الأمر في وجود تجارة حرة متنقلة بين الأقطار العربية كافة، فضلاً عن حركة واسعة لرءوس الأموال العربية ضمن هذه المنطقة وسواها من المناطق.

          أما على الصعيد الاجتماعي، فقد برز الأمر من خلال انفتاح اجتماعي بين العرب تمظهر في تأسيس أسر، من أصول مناطقية مختلفة، في مناطق جديدة عليهم. ومن هنا يجد الباحث عددًا كبيرًا لعائلات استقرّت في مدن ومواقع غريبة عنها، فعرفت، خارج الحيّز الجغرافي الذي تنتسب إليه، عائلات مثل الدمياطي والجزائري والتونسي والبيروتي والمصري والجيزي والصيداوي والطرابلسي والشامي والنابلسي والصفدي والمغربي والبغدادي، فضلاً عن الأرضروملي والداغستاني والإزمرلي والعنتبلي، فضلا عن الإستانبولي وسواها من العائلات.

          وعلى الصعيد الفكري والثقافي العام، فقد شهدت البلدان العربية حركة واسعة ونشطة لمفكرين عرب تنقلوا بأفكارهم من بلد إلى آخر، وتمكنوا من ترك بصمات واضحة لهم، ليس على مستوى البلد الذي انطلقوا منه وحسب، بل على مستوى البلدان التي أقاموا فيها وسائر البلدان الأخرى. ومن هؤلاء يمكن للمرء أن يذكر أحمد فارس الشدياق، اللبناني القادم من حدث بيروت، وقد صار من أبرز رجالات الفكر والصحافة على مستوى العالمين العربي والعثماني في عصره، وبطرس البستاني، المبشر البروتستانتي، الذي أسس في بيروت مدرسة أسماها «المدرسة الوطنية» وليس المسيحية أو البروتستانتية، وكان في عداد أفراد الهيئة التدريسية فيها المسلمان الشيخ أحمد عباس الأزهري والشيخ يوسف الأسير إلى جانب المسيحي ناصيف اليازجي. أما سليمان البستاني، وهو المسيحي اللبناني من بلدة الدبية، فكان وزيرًا للأحراش والمعادن في حكومة الباب العالي في «اسطمبول»، وامتدت سلطته الوزارية على أرجاء السلطنة كافة، وليس آخر هؤلاء شكيب أرسلان، اللبناني من الشويفات، الذي كان من أشهر دعاة الخلافة العثمانية في كل أرجاء السلطنة.

          ومن الواضح أن هذه الممارسات وأمثالها، شهدت لنجاحات كثيرة تمثلت بسعة أفق الطموحات والأعمال والنتائج، مع التأكيد بأن ثمة وجودًا سياسيًا وعسكريًا قمعيًا كان يخيّم بكلكله عليها ويقف في مرات كثيرة في وجهها. فلم يرتبط نجاح العرب أو فشلهم، في هذه النماذج، بنوعية الحكم السياسي، إذ يبقى الحكم السياسي، وباستمرار، موضوعًا خلافيًا لن يمكن البت فيه بسبب ما يقوم عليه وما يرتبط به من أمور تبقى محط إشكاليات وتأويل من قبل الموالين والمعارضين، فضلاً عن الدارسين والمحللين. ولذا، لابد من النظر في عناصر الفشل أو النجاح من خلال منهجية العمل التي تمكّن عرب هذه المرحلة من ممارستها وتحقيق وجود لهم من خلالها.

          استطاع العرب أن يحققوا وجودًا خاصًا بهم عبر هذا المنهج المتعدد الخطوط، وعرف هذا الوجود حالات كثيرة جدًا من النجاح والتألق، فتمكّن كثير من العرب من أن تكون لهم أيد مؤثرة في «اسطمبول»، ضمن المجالات السياسية أو الإدارية، وأن تكون لهم، كذلك، فاعلية مميّزة على الأصعدة الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في سائر مناطق السلطنة وولاياتها ومع ناسها على اختلاف قومياتهم.

2 - محطة الانتداب الغربي والحرب العالمية الثانية

          تبدأ المحطة الثانية مع سنة 1920، زمن ممارسة بعض الدول الغربية انتدابها على المنطقة العربية. وهكذا، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، كان على جزء من المنطقة العربية أن يكون ضمن علاقات مع فرنسا، وآخر مع بريطانيا، وثالث مع إيطاليا، مع الأخذ بعين الاعتبار بعض التحالفات التي كانت لبعض العرب مع ألمانيا وروسيا وسواها من الدول الفاعلة في تلك المرحلة.

          فرض منهج التعامل بين خطين محصورين نفسه على الجميع. فمن كان ضمن أحد الخطوط المشكّلة لواقع تلك المرحلة، وجد نفسه في مواجهة مع من كان في خط آخر مختلف. ولقد تجلّى هذا الأمر عبر مراحل عدة، من أبرزها مرحلة الحرب العالمية الثانية وما سبقها ورافقها وتبعها من تصنيفات سياسية أوربية. فمن كان ضمن تبعيّة الانتداب مع الفرنسيين وجد نفسه، في كثير من الأحيان، في تباين سياسي وثقافي مع من كان ضمن تبعية الانتداب للبريطانيين، وكذا الحال مع من كان ضمن تبعيّة الاستعمار الإيطالي، أو كان في تحالف ما مع ألمانيا أو روسيا. وضمن محاولات تثبيت التبعية أو التحرر منها، وجد ناس المنطقة العربية وقد توزعوا ولاءات أوربا خلال الحرب العالمية الثانية، فوالى قسم منهم المحور، وكان عليه أن يتصدى سياسيًا، وعسكريًا لمن والى الحلفاء، والعكس صحيح أيضًا. أما النتيجة المتحصلة فكانت انقسام المنطقة العربية وناسها، في هذه المحطة، إلى ولاءات متباينة فيما بينها، أو هويّات سياسية خارجية متعارضة في كثير من الأحيان. 

3 - محطة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي

          وجد ناس هذه المنطقة أنفسهم، بعد إعلان استقلال دول المنطقة العربية، قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية وما تلا هذه النهاية، خلال سنوات العقود الأربعة الأولى من النصف الثاني من القرن العشرين، وقد توزّعوا، راضين أو مرغمين، ضمن ولاءين أساسيين، فإما أن يكون الواحد منهم ضد السياسة الإمبريالية الأمريكية، مع السياسة الماركسية والاشتراكية للاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية، أو ضد السياسات الماركسية والاشتراكية هذه، مع الولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور في فلكها من دول المجتمع الرأسمالي.

          ويتمظهر الحصاد العملي للمنهج الخطي، الذي عاشه العرب في هذه المرحلة، في عدد من النتائج التي منها رسم حدود تفصل أجزاء الكيان العربي عن بعضها، مما ساهم في تكوين مظاهر لتمايز سياسي وفكري انجذبت إليه الأنظمة السياسية التي كانت تتولى السلطة في كل واحد من هذه الأجزاء. ومن جهته، فقد ساهم هذا الأمر في تكوين منطلقات لبعض مجالات العداء السياسي الظاهر أو الباطن بين كثير من أجزاء المنطقة العربية. وكان من بعض محصلات هذه الحال أن باتت الحدود العربية أو تلك من عرب الدول الأخرى، وتبع هذا ضرورة استصدار رخص عمل وتجارة تفرض على العرب الذين لا يحملون جنسية الدولة التي يعملون فيها.

          وكان لهذا المنهج الخطي أن شهد، على الصعيد الثقافي، لمشاريع ثقافية عربية بشّرت ببعض خير في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، لكنها سرعان ما آلت إلى كثير من اضمحلال الفاعلية الحقيقية والاعتماد شبه الكلي على ما يمكن أن يعتبر استيرادًا مباشرًا وفجّا لنتائج التجارب الثقافية في الغرب. فلئن أحسّ المثقفون العرب بكثير من الأمل والانتعاش الثقافي والأدبي مع أفكار «الرابطة القلمية» و«جماعة أبولو» و«جماعة الديوان» وبعض الصالونات الأدبية والمنتديات التي ظهرت في العقود الأولى من القرن، فإنهم واجهوا كثيرًا من الضبابية ومظاهر الفوضى الفكرية والتجريب والعبثية في كثير جدًا من المشاريع والرؤى الثقافية والأدبية التي عرفوها بعد منتصف القرن العشرين.

كارثة التقسيم

          ويشهد المستوى الوطني السياسي للعرب، في هذه المحطة، كارثة كبرى. تتجلى بدايتها في تقسيم فلسطين، وتستمر عبر سلسلة من التراجعات الكبرى بدءًا من سنة 1948، تاريخ الإنشاء الرسمي للكيان الصهيوني والاعتراف الدولي به. فلم يتمكن العرب من ممارسة رفض عملي لقرار التقسيم وإنشاء الكيان الغاصب، مما ساهم في تشريد عرب فلسطين عن أرضهم. ومن ناحية ثانية، لم يتمكن العرب من المحافظة على ما تبقى من أرض فلسطين التي كانت بيد أبنائها العرب بعد الاعتراف الدولي بالكيان الصهيوني، فخسروا الضفة الغربية لنهر الأردن وغزة سنة 1967، فضلاً عن تمكن دولة الاحتلال الصهيوني من احتلال مساحات أساسية من الأرض العربية في سيناء والجولان وجنوب لبنان وبقاعه. وتأتي «جامعة الدول العربية»، التي كان تأسيسها أملاً عمليًا في قيام توحيد عربي ما، لتشهد، عبر مسيرتها الطويلة، على عدم تحقق هذا الأمل. ومن جهة ثانية، فبرغم تمكن العرب من تأسيس ما عرف بـ«مجلس الدفاع العربي»، فإنهم لم يستطيعوا تقديم أي دفاع عسكري فعلي عن أنفسهم عبر هذا المجلس أو بواسطته. ولعل كل هذه الأمور، وسواها، ساهمت في قيام اقتصاد عربي يعيش أزمة متنوعة، ويشهد اختلالات كبيرة في توازنه، ويقوم قسم كبير منه على المساعدات المباشرة وغير المباشرة من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

          يشهد التاريخ أن العرب لم يتمكنوا طيلة هذه المحطة من تحقيق وجود عربي واحد فاعل لهم عبر هذا المنهج الخطي الذي سلكوه، تفرّقوا، بالرغم من محاولات لقيام «وحدات عربية» فيما بين الدول العربية، شيعًا وأحزابًا يعارض بعضهم البعض الآخر، وكم سعى كل فريق إلى نبذ الآخر، بل إلى تخوينه ورفض وجوده. فكانت الانقسامات العربية بناء للتبعيات الاستعمارية أو المصالح والأهواء الذاتية، وكانت التفرقة، ونشوء كثير من الحدود الإقليمية المصطنعة والمسيّسة لمصلحة الانتداب أو الاستعمار أو المصلحة الضيقة، وكان هناك توجه واضح نحو ممارسات منغلقة باتجاه المحلي والإقليمي أكثر منها منفتحة باتجاه الكل العربي.

4 - محطة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي

          تعلن هذه المحطة عن وجودها بأنها مرحلة العولمة السياسية ومركزها الولايات المتحدة الأمريكية. وهي وبغض النظر عن أي اعتبار، عولمة معرفية وثقافية عامة ذات مركزية ما مرتبطة بالعولمة الاقتصادية التي تنظر لها الولايات المتحدة الأمريكية وتعمل على تحقيقها بشتى الطرق، على اختلاف أنواعها وفنونها. ولقد ساهمت هذه الحال في إحداث ضياع كبير في رؤية الموقع الفعلي والعملي لتحقيق المصالح العربية، أهو ضمن سياسة الموافقة للولايات المتحدة، أم هي عبر رفض هذه الرؤية؟ وهكذا، برز تشوّش عربي عام، أثر في حقائق الوجود العربي.

          إذا كان كثير من الداعين إلى العولمة يبشرون بمرحلة زمنية يسقط فيها كثير من مفاهيم الطبقية والقومية، فلابد من البحث عن الأسس الجديدة التي يتوقع أن يقوم عليها المقبل من الزمن، والتي يمكن أن تكون ملامحها قد بدأت تخط وجودها اليوم. ولعل من أبرز ما خطّته العولمة من ملامح، في المرحلة الراهنة، اتهام ناسها وكثير من دعاتها للفكر العربي بأنه عدائي وأصولي، علمًا بأن التجربة الحضارية العربية تثبت على مر العصور قابلية عربية مميزة للانفتاح الحضاري والتفاعل الإيجابي البنّاء. ومن الواضح أن هؤلاء يبنون اتهامهم على ما قام به بعض العرب إبان العقدين الأخيرين من القرن العشرين، اللذين شهدا عدم وضوح في منهج التعامل العربي مع العصر، من محاولات تثوير ورفض للواقع وسعي إلى التحرير. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن أهم إفرازات الدعوة إلى العولمة كانت نصب العداء لكل ما هو تثوير عربي ولكل ما هو سعي إلى التحرير والاستقلال أو حتى الانتفاض. وضع أرباب العولمة العرب في قفص اتهام واسع في مساحته المكانية وعريض في مساحته الزمانية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن قضبان القفص بدأت تهم بالامتداد لتشمل كثيرًا من أسس الماضي ومفاهيم الوعي ورؤى المستقبل. ولقد تسبب عدم اعتماد منهج واضح في التعامل مع هذا الأمر بكثير من الإشكاليات الصعبة التي ما برع يعيشها العالم العربي.

خلاصة أولى:

          يمكن استخلاص مسارات مناهج العمل العربي خلال المحطات السابقة كما يلي:

          أ - مسار شبكي (منظومي) (Systematic) قبل سنة 1918، قاد إلى عدد لا يستهان به من النجاحات العربية.

          ب - مسار خطي (Linear) من سنة 1918 وحتى سنة 1989، قاد إلى إحباط شبه شامل، خلا بعض اللمعات القليلة الناجحة.

          ج - مسار غير محدد الملامح من سنة 1989 وحتى اليوم، أدى إلى إحباط امتد على أصعدة حياتية كثيرة.

العرب بين المنهج الخطي والمنهج الشبكي (المنظومي)

          يقوم المنهج الخطي على مقولة أساس تتمظهر في الاتجاه ضمن خط واحد، معتبرة أن أي خط سواه خطأ إن لم يكن، على المستوى السياسي والشخصي، خيانة. ومن هنا، كان الخيار الأبرز، في المنهج الخطي، بين «الأنا»، بكل ما تشتمل عليه وينجم عنها، و«الآخر»، بكل ما يشتمل عليه وينجم عنه، فكل ما هو خارج «الأنا» مرفوض، وكل ما هو «آخر» خائن. وجد العرب أنفسهم، على هذا الأساس، أمام سلسلة من الاختيارات المحدودة والقاتلة في الآن عينه، محدودة، إذ هي مرتبطة بموضوعات معيّنة من دون سواها، وقاتلة، إذ هي من خارج حقيقة هوية العرب ووجودهم.

          من النماذج الشاهدة على هذه الحال، أن «عرب» الفرنكوفونية وجدوا أنفسهم ضد، أو على خصومة مريرة، مع «عرب» الأنكلوسكسونية، والعكس صحيح أيضًا. وكما الحال على المستوى اللغوي الحضاري، فهو كذلك على المستوى السياسي، فـ«عرب» الاتحاد السوفييتي يخوّنون «عرب» الولايات المتحدة الأمريكية، والعكس صحيح تمامًا. ولا يتغير الوضع في المجالات الفكرية عن هذا النسق من الفاعلية والتفاعل، إذ «عرب» التقليد الفكري والأدبي، يخوّنون «عرب» التجديد الفكري والأدبي، والعكس واقع في كل حال. وخلاصة القول، فإن ما نجم عن هذا المنهج لم يتعدّ كونه تجارب عداء عربية ضد عرب، ومساعي إلغاء عربية لعرب آخرين.

          يستند المنهج الشبكي (المنظومي) إلى مقولة أساس، مفادها أن تجربة العيش لا يمكن أن تنتظم من خلال مسار واحد، بل هي جُماع عدد من المسارات المتعاونة والمتكاملة فيما بينها. ومن هنا، فـ«الأنا» لا يمكن أن تكون إلا بـ«الآخر»، كما أن «الآخر» لا يمكن أن يكون إلا بـ«الأنا». وإذا ما سعى المرء إلى امتحان هذا الأمر، من خلال ممارسات العرب للمنهج الشبكي هذا، فسيجد في علاقة عرب المناطق العربية فيما بينهم، وعلاقة عرب الولايات العثمانية مع ناس الولايات العثمانية الآخرين، تجربة تحتضن كثيرًا من مبادئ قبول الآخر والتفاعل معه.

عملانيّة المنهج الشبكي (المنظومي)

          ثمة حقيقة متأتية من النهج الخطي في التفكير، تتمايز عبر مفهومي الصواب والخطأ، في حين أن الحقيقة المتأتية من المنهج الشبكي (المنظومي) تقوم على مفهوم العملانية وحدها المرتبطة بالقابلية للتحقق والتنفيذ. ولقد اتضح في هذه المرحلة من العيش، وخاصة إبان العقود الثلاثة الأخيرة، أن مقياس الوجود في الزمن الراهن يقوم على القدرة في تحقيق الفاعلية، بغض النظر عن مسبباتها، في حين أن مقياس الوجود في المرحلة السابقة لزمننا الحالي، قام على الحدث المسبب للفاعلية.

          يمكن القول، تاليًا، إن المعطيات «القديمة» المعتمدة في الماضي، لفهم طبيعة الأمور ومجالات حركيّاتها، لم تعد قادرة اليوم على النهوض بما أنيط بها من مهام. لقد قامت على أسس من منهجية خطيّة، في حين أن ما نعانيه اليوم، من نتائج للعيش والفكر، إنما يقوم على أسس شبكية (منظومية).

          ومن الواضح أن منهج التفكير الشبكي (المنظومي) يُسقط، على المستوى النظري على الأقل، مقولة أن القوة العالمية لا تكون إلا بيد الدول القوية، بل بات بالإمكان تحقيق كثير من هذه القوة عبر جماعات صغيرة قادرة على تنفيذ فعل القوة. وواقع الحال، وبغض النظر عن أي موقف مؤيد أو معارض، فإن في نموذج أحداث ما يعرف بالحادي عشر من أيلول، وما لحق بها من دخول أمريكي بريطاني إلى العراق، ما يؤيد هذه الفكرة. وانطلاقًا من هذا الفهم لعملانيّة المنهج الشبكي (المنظومي)، ومن شاهد الحال في الزمن المعاصر، فإن الديمقراطية، التي مورست من قبل ضمن مفهوم غلبة العدد، باتت اليوم تشهد ميلاً نحو ممارسة غلبة الفرص الفاعلة على تلك غير القادرة على الفعل.

          يقوم منهج التفكير الخطي على فهم الجزء ومعرفته، باعتباره المدخل الوحيد لفهم الكل. ومن هنا كانت الدعوة إلى تفكيك الكل، والتعرّف إلى أجزائه. ولعل أبرز من نظر للتفكير الخطي كان ديموقريطس في اليونان القديمة، ثم ديكارت ونيوتن فيما بعد. أما منهج التفكير الشبكي (المنظومي) فيقوم على أنه لايمكن فهم الأجزاء إلا من خلال دينامية الكل. الكل أصل، فإذا ما كان ثمة فهم لدينامية الأصل، بات من الممكن اشتقاق مبدئي لخصائص الأجزاء. لعل أبرز من شجع على اتباع المنهج الشبكي (المنظومي) على علم الفيزياء المعاصر، ومنه برزت الدعوة إلى فهم الأجزاء من خلال السياق وليس فهم السياق عبر الأجزاء. فالسياق، في الفيزياء، هو المؤثر والمتغير لواقع فاعلية الأجزاء، وليست الأجزاء هي المؤثرة أو المغيّرة لواقع فاعلية السياق. ومن هنا يمكن القول إن المنهج الشبكي (المنظومي) يتطب متغيرات مستقلة، ذات تأثير ثابت على متغيرات ثابتة. ولقد كان أبرز المتحمسين للفكرة هذا المنهج الفيزيائي الألماني فرنز هايزنبرج.

بين الشبكة والبناء

          التفكير الشبكي (المنظومي) هو التفكير بالسيرورة وليس بالبنية، إذ سيرورة الأمر أو الشيء هي المنطلق والموجه وليست بنيته أبدًا. ومن هنا، لم تعد المعرفة قائمة على أسس تبنى عليها، فلطالما أثبت الواقع تكسّر هذه الأسس وتغيّرها. المعرفة تقوم على شبكة متسعة من العلائق، ومن هنا يعتمد الفكر الشبكي (المنظومي) منهج الشبكة، في حين يعتمد الفكر الخطي منهج البناء. وإذا كان المنهج الشبكي (المنظومي) لا يقود إلى حقيقة ثابتة أو التعرف اليقيني عليها، فبالإمكان الوصول، عبره، إلى كثير من محطات الفهم التقريبي للحقيقة.

          إن مراجعة متأنية لمناهج التفكير عبر التراث الحضاري العربي تفيد، وبوضوح لافت، أن العرب مارسوا كثيرًا من فاعليتهم الإيجابية الناجحة عبر منهج التفكير الشبكي (المنظومي) وليس عبر منهج التفكير الخطي. فحضارة العرب في مرحلة ما قبل الإسلام، وهي حضارة بنت معظم مداميكها، إن لم يكن كل هذه المداميك، على التجارة، لم تتعامل مع بيئتها السياسية والجغرافية على أساس خطي يثبت طرفًا ويلغي طرفًا آخر. إن عرب ما قبل الإسلام مارسوا التجارة في الصيف كما مارسوها في الشتاء، واتّجروا مع الروم كما اتّجروا مع الفرس أعداء الروم أو خصومهم السياسيين. وعرب المرحلة الإسلامية أظهروا مقدرة لافتة في ممارسة فاعليتهم عبر المنهج الشبكي (المنظومي) حين اتصلوا بكثير من الحضارات والثقافات والأمم والشعوب المختلفة والمتباينة فيما بينها، ثم تمكّنوا، بجدارة راقية، من ربط كل هذه الاتصالات، على مختلف نوعياتها ومستوياتها، لينشئوا منها ما عرف في التاريخ باسم الحضارة الإسلامية.

          ومن جهة أخرى، فإن الدين الإسلامي بحد ذاته، وتحديدًا مناهج التفكير والتفاعل التي يطرحها النص القرآني، إنما هي مناهج شبكية (منظومية) في معظمها، وهي مناهج تدعو العقل الإنساني إلى تفاعل حي خلاّق مع محيطه وبيئته وأمور عيشه ومتطلبات مستقبله. فالنص القرآني يحض على التفكّر والربط بين الأمور وعدم التعامل معها من جانب واحد مقيّد بذاته. والأمثلة على هذا كثيرة وواضحة لكل من يسعى إلى درس في النص القرآني ومناهج التفكير فيه.

          أثبت الفكر العربي لمرحلة ما قبل الدعوة إلى الإسلام، كما الفكر العربي في مراحل ما بعد الدعوة، تمكن منهج التفكير الشبكي (المنظومي) من تحقيق نجاحات واسعة للعرب على كثير من المستويات التي خاضوا عيشهم وتفكيرهم فيها. فحقق لهم نجاحات اقتصادية وأخرى سياسية، فضلاً عن النجاحات الفكرية والمعرفية والثقافية، وساهم في تبؤوهم المكانة الحضارية المرموقة التي احتلوها، منذاك، في مسيرة الأمم. وأثبت الفكر العربي في العقود الثمانين الأخيرة من القرن العشرين، أي في العقود التي نجمت عن مرحلة الانتداب الغربي على البلدان العربية، وما رافق هذه المرحلة وتلاها من خطوات وسياسات استعمارية ونتائج تقسيمية وتوزّعات مناطقية وإقليمية قومية، وما استغرق هذا كله من منهج تفكير خطي بياني، ضعفًا مزريًا في تحقيق نتائج تفوق عملي على مستويات العيش العربي كافة، وخاصة الاقتصادية والسياسية والعسكرية منها، فضلاً عن تلك الفكرية والمعرفية والثقافية.

خلاصة ثانية

          لعل بالإمكان القول إن حضارية العرب، المنبثقة من منهج التفكير الشبكي (المنظومي) والظاهرة جليًا في عدد كبير من محطات حياتهم قبل نهاية العقدين الأولين من القرن العشرين، أثبتت قدرة مميزة لهم على التفاعل الإيجابي والبنّاء والمحافظ على الهوية والوجود، إذا ما قورنت مع كثير من مفاهيم قوميتهم عبر منهج التفكير الخطي الذي سيطر على كثير من سلوكياتهم، وقادهم إلى كثير من ردّات الفعل عبر سنوات طويلة من عقود القرن العشرين.

          فهل يمكن، بقراءة لتجربة ما مضى من عقود القرن العشرين وما سبقه وما تلاها، وباعتبار أن المستقبل لم يعد قائمًا على نماذج تراثية مقفلة من الماضي وتجاربه، وبأن على الإنسان المعاصر الاسترشاد بالماضي من غير أن يبني وجوده على نموذج هذا الماضي، ممارسة الفكر والتفاعل العربيين مع العيش المعاصر، بمختلف أصعدته ومستوياته، على منهج شبكي (منظومي) وليس على منهج خطي؟ وإذا ما كان الحال كذلك، فإن هذا قد يقود العرب إلى عدد من الأسس الفكرية لعيشهم، التي من أبرزها أن:

          أ - المعرفة شبكة متسعة من العلائق.

          ب - الأصل هو الكل، ولا يمكن فهم الأجزاء إلا من خلال دينامية الكل، فإذا ما كان ثمة فهم لدينامية الأصل، بات من الممكن القيام باشتقاق مبدئي لخصائص الأجزاء.

          ج - سيرورة الأمر هي المنطلق والموجّه لهذا الأمر ولأي تفاعل معه وبه.

          د - حقيقة الوجود في القدرة على تحقيق الفاعلية.

          هـ - القوة ليست في الغلبة الكميّة، بل في الغلبة النوعية المتمثلة في التمكن من تنفيذ المراد.

          ومن هنا، فهل يمكن اعتبار العروبة الحضارية، المبنية على حقيقة الهوية القومية العربية ومجالات نجاحها الإنساني، بما في ذلك ما تحمله من مبادئ إيمانية دينية، منطلقًا عقديًا أساسًا للمرحلة الحالية التي نعيشها من القرن الحادي والعشرين، وذلك لما في الممارسة الحضارية من تنظيمات شبكية (منظومية)، إذ العلاقات العالمية والدولية المعاصرة تقوم ضمن تكوّن شبكي (منظومي) تتلاقى عبره الحضارات الإنسانية وتتفاعل فيما بينها؟

          وهنا، لابد كذلك، من درس معمّق ومسئول لما يمكن أن ينتج عن اعتماد العروبة الحضارية فعل تطوير إيجابيا للقومية العربية، وما يمكن أن ينتج عن هذا الاعتماد على منطلق العروبة الحضارية من سلبيات وإيجابيات، خاصة في مفاهيم الحرية والديمقراطية والآخر المقبول والآخر غير القابل للتفاعل والمرفوض من ثمّ، إنها مفاهيم طالما كان التعامل العربي معها تعاملاً خطيًا، فعاشت في الفكر والممارسة وجودًا مقيّدًا باختيارين لا ثالث لهما، اختيار الاتباع أو اختيار الوسم بالخيانة، ضمن مقاييس تعنى بالبناء وليس بالسيرورة، وتهتم بالأسس وليس بالعلائق، وتحفل بما هو قائم وليس بما له قدرات واعدة بالقيام.

استنتاج تأسيسي

          النهوض العربي ضرورة لمستقبل ناس العروبة وأهلها وأرضها. ولعل هذا النهوض لن يتحقق عبر تكرار التجارب المفجعة التي مرّ بها عرب المئة سنة التي مضت. إنهم عرب التفكير الخطي، والتفاعل مع الأحداث والأفكار والناس عبر هذا المنهج. ولربما كان النهوض العربي العتيد، عبر النظر في تجارب عرب القرون الماضية، وعبر اعتمادهم منهج التفكير الشبكي (المنظومي).

          نجح العرب في تحقيق وجود ناهض، بل رائد لهم، عندما تفاعلوا وفعلوا في قضايا زمنهم وموضوعاتهم عبر المنهج الشبكي (المنظومي)، فما يمكن أن يمنع هذا النجاح إذا ما تعاطى عرب اليوم مع قضايا زمنهم المعاصر وموضوعاته عبر المنهج، خاصة أن كثيرًا من الدلائل تشير إلى أن هذا المنهج هو منهج إيقاع الزمن المعاصر، وهو زمن الفعل الحضاري والسياسي والعلمي والثقافي لهذه المرحلة، وهو زمن يأتي في كثير من التوافق مع حقيقة التراث العربي والفكر الإسلامي.
--------------------------------------
* باحث أكاديمي من لبنان.

 

 

وجيه فانوس