الدعاية الانتخابية... هل تضعف المشاركة السياسية؟

الدعاية الانتخابية... هل تضعف المشاركة السياسية؟

تشهد نظم الحكم وكذلك العمليات السياسية في بداية القرن الجديد تغيرات مذهلة, لعل من بينها الاستخدام المكثف للدعاية في الحملات الانتخابية, الأمر الذي يستدعي التعمّق في فهم تأثير ذلك على الحياة العامة وفعاليات الحكم, وبالأخص على درجة إقبال الجمهور على المشاركة في الانتخابات العامة, وهل آتت الدعاية الانتخابية أكلها?, بمعنى معرفة طبيعة التأثيرات الإيجابية أو السلبية على السلوك السياسي للناخبين?

لم تعد الحملات الانتخابية المعاصرة مقصورة على موسم الانتخابات البرلمانية, بل أصبحت بمنزلة صناعة اجتماعية مؤسسية بفضل امتداد عمليات الانتخابات إلى كل أنشطة المجتمع المدني, مثل انتخابات المحليات والنقابات والنوادي والجمعيات الأهلية والمنظمات الشعبية, بل والشركات المساهمة.

ولابد أن نفترض أن هناك علاقة تبادلية بين كثافة الدعاية الانتخابية والسلوك الانتخابي, وهذه العلاقة تسير في اتجاهين: إيجابي وسلبي. ويعني الأول توسيع المشاركة السياسية, أما الثاني فيعني تقليص مساحة تلك المشاركة. ولما كانت النتيجة الأولى بمنزلة مسألة بديهية حيث إن الهدف الرئيسي هو تشجيع وجذب الجمهور على المشاركة في عملية الاقتراع, فإن التحليل المتعمّق من ناحية أخرى قد يبرز هنا النتائج السلبية بفعل آلية الدعاية الانتخابية من حيث التغذية المرتدة, أي النتائج العرضية, وكم وطبيعة المرسل للرسالة الإعلامية, ومضمون الرسالة, وكذلك مستواها التقني.

هذه الأبعاد الخمسة سوف توضح لنا مدى التأثير السلبي - بعكس الفهم الشائع عن وجود التأثير الإيجابي - للاستخدام المنظم والمتطور للدعاية والتسويق السياسي, بشكل يدعو لضرورة ضبط وتقنين تلك الدعاية الاستهلاكية التي أثرت بدرجة عالية على أساليب وتقنيات الاتصال السياسي, أي أنه يمكن رصد التأثير السلبي للدعاية الانتخابية ذات الخصائص الخمس: وهي الدعاية السلبية, الدعاية المفرطة, الدعاية الحكومية, الدعاية الانطباعية, الدعاية الإلكترونية, وذلك على النحوالتالي:

- الدعاية السلبية التي يستخدمها المرشحون والأحزاب وصحف المعارضة بعضهم ضد البعض الآخر في غمار الحرب السياسية التي تنشب فيما بينهم والتي تعتمد على النقد والتجريح, بل والاغتيال الدعائي الشخصي. إذ يترتب على ذلك الحط من شأن الشركاء بل وكل الفرقاء, مما يهبط بمستوى الحملة الانتخابية ويصرف الناس عن الاهتمام بها, ويبرهن على ذلك ظاهرة التقارب الشديد لعدد الأصوات التي يظفر بها المتنافسون نتيجة فقدان الثقة في النخبة السياسية بفعل تشابه فضائحهم أو برامجهم في العديد من البلدان.

- الدعاية المفرطة التي يلجأ إليها بعض الأطراف وبخاصة رجال الأعمال والأثرياء بحكم الموارد المتاحة تحت أيديهم. فقد حدث أن بالغ البعض في استخدام الدعاية الصحفية والتلفزيونية والشخصية باهظة التكاليف, وأصبح المشهد أشبه بمن يستخدم المدفعية الثقيلة, بل والصواريخ في معركة غير متكافئة مع حملة البنادق, وتكفي عبارة (شلالات المال السياسي) في الحملات الانتخابية لتفصح عن النزعة المتزايدة لدى كبار الرأسماليين ورجال الأعمال لبناء إمبراطوريات اقتصادية وإعلامية وسياسية شخصية لأنفسهم. قصارى القول إن الدعاية السياسية المفرطة تؤدي إلى انخفاض توقعات الناخبين في تجديد القيادات مما قد يدفعهم إلى العزوف عن المشاركة في التصويت.

- الدعاية الحكومية: لا ريب أن الحكومة تتمتع بمركز متفوق في الحملة في وجه المنافسين والمعارضين وذلك بحكم الموارد المتاحة من إعلام وصحافة وهدايا جماهيرية ورشاوى انتخابية للعامة من الناس. وعادة ما تكون الحكومة منحازة بشكل سافر إلى مرشحيها ووزرائها, الأمر الذي يبدد مصداقية العملية الديمقراطية بصورة تغذي اللامبالاة وعدم المشاركة من جانب المواطنين, لأنها بمنزلة تحصيل حاصل, وهذا ما أسفرت عنه بعض التجارب الانتخابية الأخيرة حولنا التي يغيب عنها التسامح السياسي والثقافي.

- الدعاية الانطباعية: ونعني بها الإسراف من جانب الصحافة ووسائل الإعلام في استخدام الأوصاف والمصطلحات والصور النمطية الشائعة لوصف النواب والمرشحين والسياسيين, لنذكر مثلاً مصطلحات (نواب القروض) و (نواب الكيف) و (النائب الصايع) و (برلمانيو غسيل الأموال) و (تجار التأشيرات) و (لوبي المستوردين). كل هذا يدعم من عبثية العملية الانتخابية في نظر الناس ويدفعهم إلى النأي بأنفسهم عن رذاذها احتراماً لأنفسهم.

- الدعاية الإلكترونية: حملت الثورة التكنولوجية إلى الحياة السياسية مضاعفات شتى لعل من بينها التصاعد في استخدام الوسائل الإلكترونية كالتلفزيون والأفلام وشبكات الإنترنت والبريد الإلكتروني والفاكس والوسائط المتعددة, وهذه الوسائل تغذي وجود نظم (تخيلية) وسيناريوهات تصوّرية وشخوص وهمية, تماماً مثل فكرة (الأسواق الافتراضية) التي تقوم عليها التجارة الإلكترونية مما قد يضاعف من كسل البعض ويمتد إلى الناخبين ويقعدهم عن الممارسة الفعلية في عمليات الاقتراع العام ظنّاً منهم أنه يكفي قيام البعض - وليس الكل - بها كما لو أنها ليست فرض عين.

الخلاصة, إنه بتطبيق نموذج العرض والطلب -تمثلاً باقتصاديات السوق - على الدعاية الانتخابية, التي تعتبر بمنزلة جانب الطلب على الأصوات, في حين تمثل استجابة الناخبين جانب العرض, فإن الاستخدام السلبي والمفرط والحكومي والانطباعي والإلكتروني للدعاية يجعل انكماش التصويت أمراً محتملاً, بل واقعاً, وخصوصاً إذا تضافر ذلك مع العوامل المتوارثة الاجتماعية والثقافية ذات الجذور التاريخية. يبرهن على ذلك ارتفاع متوسط تكلفة الصوت الواحد للمشاركين في الانتخابات.

صفوة القول أن تلك النتيجة ليست دعوة إلى نبذ الدعاية السياسية التي من المفروض أن تستخدم لتفعيل دور صندوق الانتخابات في النظم السياسية, وإنما هي دعوة للالتزام بقواعد الشرف الأخلاقي وميثاق المهنة الإعلامية, وإلا طغت الأعراض الجديدة للدواء المستخدم على الشفاء المنشود, مما قد يؤدي إلى إنهاك الجسد السياسي للمجتمع بدلاً من تحسين لياقته الصحية والإدارية.

 

السيد عليوه