أنهار العالم الكبرى تتراجع.. ودلتاتها تغرق

أنهار العالم الكبرى تتراجع.. ودلتاتها تغرق

منذ سنوات عدة، وعلماء البيئة يحذرون من عواقب تغير المناخ والاحترار الكوني. لكن صناع القرار لم يتعاملوا بجدية مع هذه التحذيرات باعتبارها مجرد تقديرات متشائمة لا تستند إلى حائق ملموسة. لكن الأمور تغيرت كثيرا في السنوات القليلة الماضية بعد أن أصبحت الآثار السلبية لتغير المناخ تهدد حياة وسبل معيشة الملايين في العديد من أفقر بقاع العالم.

وقد كشفت دراسة علمية جديدة عن أن مستويات المياه في بعض أكبر وأهم أنهار العالم قد تقلصت بنسبة كبيرة خلال السنوات الخمسين الماضية.

ووفقا للتقييم الشامل الجديد لتدفقات الأنهار على مستوى الكوكب، الذي أجراه علماء المركز الوطني للبحوث الجوية في الولايات المتحدة، فإن معظم الأنهار المتضررة يقع في بعض أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان.

ويقول هؤلاء العلماء إن تقلص تدفقات الأنهار يرتبط في حالات عديدة بتغير المناخ، وأنه قد يهدد في المستقبل إمدادات المياه والغذاء لملايين البشر، وسيكون له عواقب وخيمة مع استمرار الزيادة السكانية.

وقد نشرت نتائج الدراسة، التي دعمتها المؤسسة الوطنية للعلوم NSF، في دورية Journal of Climate التي تصدرها جمعية الأرصاد الجوية الأمريكية.

ويقول البروفيسور كليف جاكوبز الباحث بقسم العلوم الجوية في المؤسسة الوطنية للعلوم: «إن توزيع مياه العالم العذبة، وهو قضية مهمة بالفعل الآن، سيحتل مرحلة محورية في السنوات القادمة لتطوير استراتيجيات التكيف مع تغير المناخ».

وقد اكتشف العلماء، الذين درسوا تدفقات الأنهار خلال الفترة الممتدة من العام 1948 وحتى العام 2004، تغيرات كبيرة في تدفقات نحو ثلث أنهار العالم الكبرى. ومن بين هذه الأنهار، فاق عدد الأنهار التي تقلصت تدفقاتها عدد الأنهار التي زادت تدفقاتها بنسبة 5ر2 إلى 1.

وتوفر معظم الأنهار التي تقلصت تدفقاتها المياه العذبة لقاطني بعض أكثر المناطق على كوكبنا اكتظاظا بالسكان، بما في ذلك النهر الأصفر في شمالي الصين، ونهر الجانج في الهند، ونهر النيجر في غربي إفريقيا ونهر كولورادو جنوبي غربي الولايات المتحدة.

وعلى النقيض من ذلك، فإن الأنهار التي زادت تدفقاتها يقع معظمها في مناطق قليلة السكان قرب المحيط القطبي الشمالي، حيث يذوب الجليد بمعدلات متسارعة.

ويقول البروفيسور إيجو داي الباحث بالمركز الوطني للبحوث الجوية في الولايات المتحدة وأحد قادة فريق البحث: «إن تقلص تدفقات الأنهار يزيد الضغوط على مصادر المياه العذبة في معظم أنحاء العالم، خاصة مع ازدياد الطلب على المياه في ظل الزيادة السكانية المتسارعة. وبما أن المياه العذبة مورد حيوي، فإن تقلص التدفقات يصبح مصدر قلق كبير».

وتؤثر عوامل عدة على تدفقات الأنهار، لكن معظمها يعود إلى الأنشطة الإنسانية، بما في ذلك بناء السدود وتحويل المياه لأغراض الزراعة والصناعة.

غير أن العلماء وجدوا أن تقلص التدفقات في حالات عديدة ارتبط بتغير المناخ على مستوى الكوكب، الذي يغير نماذج التكثف ويزيد من معدلات البخر.

وجاءت النتائج متسقة مع نتائج دراسة سابقة قام بها داي وباحثون آخرون كشفت اتساع الجفاف والقحط على اليابسة في العديد من مناطق العالم.

وتثير نتائج الدراسة العديد من المخاوف الإيكولوجية والبيئية. فتدفقات الأنهار الكبرى تصب ترسبات من العناصر الغذائية والأملاح المعدنية الذائبة في المحيطات. وتؤثر تدفقات المياه العذبة أيضا على نماذج دوران المياه في المحيطات، التي يدفعها الاختلافات في الملوحة ودرجات الحرارة، والتي تلعب دورا محوريا في تنظيم واستقرار مناخ كوكبنا.

ومع أن التغيرات الأخيرة في تدفقات المياه العذبة تظل صغيرة نسبيا ولن يكون لها تأثير يذكر إلا عند مصبات الأنهار، إلا أن البروفيسور داي يقول إن توازن المياه العذبة في المحيطات وعلى اليابسة يجب أن يخضع لرقابة دقيقة على المدى الأبعد.

وعلى مدى سنوات عديدة، لم يكن العلماء متيقنين تماما من تأثيرات الاحترار الكوني على أنهار العالم الكبرى. وقد أظهرت الدراسات المعتمدة على النماذج الكمبيوترية أن العديد من الأنهار الواقعة خارج القطب الشمالي قد تعاني من نقص مياهها بسبب تقلص عمليات تكثف بخار الماء على الارتفاعات المنخفضة والمتوسطة، وزيادة البخر بسبب ارتفاع درجات الحرارة، الذي يغير بدوره من نماذج سقوط الأمطار.

وفي وقت سابق، كانت تحليلات أقل شمولية للأنهار الكبيرة قد أشارت إلى أن هناك زيادة في إجمالي تدفقات الأنهار على المستوى العالمي.

وقد قام البروفيسور داي وزملاؤه بتحليل بيانات تدفقات 925 من أكبر أنهار كوكبنا، وقارنوا بين القياسات الفعلية والبيانات المستمدة من النماذج الكمبيوترية لسد هذه الفجوة.

وتستمد الأنهار التي شملتها الدراسة مياهها من منابع في مختلف أنحاء العالم باستثناء أنتاركتيكا وجرينلاند، وهي مسئولة عن 73 في المائة من إجمالي تدفقات الأنهار على المستوى العالمي.

وإجمالا، وجدت الدراسة أنه خلال الفترة من 1948 وحتى 2004، انخفض التدفق السنوي للمياه العذبة الذي يصب في المحيط الأطلسي بنحو 6 في المائة، أي ما يقرب 526 كيلومترا مكعبا - وهي الكمية نفسها التي يصبها نهر الميسيسيبي سنويا في المحيط.

وانخفض التدفق السنوي الذي يصب في المحيط الهادئ بنحو 3 في المائة، أي 140 كيلومترا مكعبا. وعلى النقيض من ذلك، ارتفعت التدفقات السنوية للأنهار التي تصب في المحيط القطبي الشمالي بنسبة 10 في المائة، أو 460 كيلومترا مكعبا.

وفي الولايات المتحدة تقلصت تدفقات نهر كولومبيا بنسبة 14 في المائة خلال الفترة 1948-2004 التي شملتها الدراسة، ويعود السبب في الجانب الأكبر منه إلى تقلص عمليات التكثف وزيادة استهلاك المياه العذبة في الغرب الأمريكي.

وفي الوقت نفسه، زادت تدفقات نهر الميسيسيبي بنسبة 22 في المائة خلال الفترة عينها بسبب زيادة عمليات التكثف في منطقة الوسط الغربي منذ العام 1948.

وأظهرت أنهار مثل نهر براهمابوترا في جنوبي آسيا ونهر اليانجتسي في الصين استقرارا أو زيادة في التدفقات السنوية. لكنها قد تفقد كمية كبيرة من مياهها في العقود القليلة القادمة مع الاختفاء التدريجي للأنهار الجليدية التي تنبع من جبال الهيمالايا وتغذي هذين النهرين.

ويقول البروفيسور كيفين ترنبيرث الباحث في المركز الوطني للبحوث الجوية في الولايات المتحدة وأحد المشرفين على هذه الدراسة: «مع التواصل اليقيني لتغير المناخ خلال السنوات القليلة القادمة، فإننا سنشهد على الأرجح تأثيرات أشد على الأنهار الكبيرة وعلى الموارد المائية التي يعتمد عليها المجتمع».

الدلتات تغرق

ومع تراجع تدفقات المياه في الأنهار الكبرى، فإن دلتات هذه الأنهار آخذة في الغرق، الأمر الذي ينذر بفيضانات مدمرة قد تؤثر على مئات الملايين من السكان. فبناء السدود وتحويل مجاري الأنهار أفضيا إلى تراجع حجم كمية الطمي التي كانت تحملها مياه النهر وترسبها في دلتاه، بينما ساهم استخراج المياه الجوفية في خفض مستوى اليابسة.

ووفقا لدراسة حديثة نشرت في سبتمبر الماضي في دورية Nature Geoscience، فإن خطر الغرق يتهدد دلتات أنهار كولورادو والنيل والبيرل والرون واليانجتسي.

ويعيش نحو نصف مليار نسمة في مناطق دلتات هذه الأنهار. وقدر الباحثون أن 85% من دلتات الأنهار الكبرى قد عانت من فيضانات شديدة في الأعوام القليلة الماضية، وأن مساحة الأرض المهددة بالفيضان ستزيد بنسبة 50% في العقود الأربعة المقبلة، مع غرق اليابسة وتسبب تغير المناخ في رفع مستوى مياه البحر.

ويقول ألبرت كيتنر الأستاذ بجامعة كولورادو في بولدر بالولايات المتحدة وأحد المشرفين على الدراسة: «هذه الدراسة تدلل على أن غرق مناطق الدلتا يعود إلى عوامل من صنع الإنسان أكثر مما يعود إلى ارتفاع مستوى سطح البحار والمحيطات فقط».

ويوجد معظم أحواض الأنهار المهددة بالغرق في الدول النامية في قارة آسيا، إلا أن بعضها يقع في دول متقدمة مثل الرون في فرنسا والبو في إيطاليا.

واستند الباحثون في دراستهم إلى صور وبيانات مستمدة من عدة مهمات فضائية، بما في ذلك مهمة مسح طبوغرافيا الأرض بالرادار التي قام بها مكوك الفضاء إنديفور على مدى 11 يوما في العام 2000.

ومع استخدام السجلات التاريخية وقياسات ارتفاع مستوى سطح البحر، تمكن العلماء من قياس سرعة غرق دلتات الأنهار، ودراسة العوامل التي قد تكون مسئولة عن ذلك.

ومن بين 33 دلتا تمت دراستها، وجد العلماء أن 24 واحدة منها تغرق. ووجدوا أن الدلتا الأسرع غرقا هي دلتا نهر تشاو فرايا، الذي يخترق العاصمة التايلاندية بانجوك. وفي بعض السنوات، غرقت بعض أجزاء الدلتا مقارنة بسطح البحر بنحو 15 سنتيمتراً. وهو رقم يزيد بقدر كبير على المتوسط السنوي لارتفاع مستوى سطح البحار والمحيطات نتيجة لتغير المناخ (8ر1-3 ملليمتر سنويا).

وكان تدفق الطمي إلى دلتا نهر تشاو فرايا قد توقف تماما تقريبا مع استهلاك معظم المياه في الزراعة، وبناء السدود على مجرى النهر، وتحويل مجرى تدفق النهر بحيث بات يجري في بضع قنوات.

وفي السابق كان الطمي يترسب في منطقة الدلتا ليرفع مستوى سطحها، في عملية تعويض طبيعية. ويسهم استخراج المياه الجوفية لاستخدامها في الشرب والزراعة والصناعة في انضغاط التربة ويفاقم بالتالي من عملية الغرق.

ومع انخفاض مستوى سطح أرض الدلتا، وارتفاع منسوب المياه في البحار والمحيطات، سيصبح مئات الملايين معرضين للخطر ولن يصمدوا أمام أي إعصار أو عاصفة استوائية.

  • الدلتات المهددة بالغرق

هذه الدلتات تعاني من غياب شبه كامل للترسبات الطميية أو انضغاط وهبوط متسارع لتربتها

  • تشاوفرايا، تايلاند.
  • كلورادو، المكسيك.
  • كريشنا، الهند.
  • النيل، مصر.
  • بيرل، الصين.
  • بو، إيطاليا.
  • رون، فرنسا.
  • ساو فرانسيسكو، البرازيل.
  • تون، اليابان.
  • يانجتسي، الصين.
  • النهر الأصفر، الصين.

 

 

أحمد خضر الشربيني

 




بناء السدود على الأنهار يؤدي إلى تراجع تدفقاتها





حوض نهر كولورادو مهدد بالغرق





أدى بناء السد العالي في مصر إلى حجز الترسبات الطميية عن الوصول إلى دلتا النيل





نهر اليانجتسي في الصين سيفقد كمية كبيرة من مياهه في العقود القليلة القادمة مع الاختفاء التدريجي للأنهار الجليدية التي تنبع من جبال الهيمالايا





 





الدورة المائية حسب دراسة مسحية جيولوجية أمريكية