السيكودراما... والعلاج النفسي

 السيكودراما... والعلاج النفسي

منذ فتح (فرويد) باب التحليل النفسي على مصراعيه, والعلاج النفسي يطرق كل يوم باباً يحاول فتحه من أجل إيجاد سبل جديدة لكشف مكنونات النفس البشرية, وعلاج (التشوّهات) التي تصيبها.

يتكون مصطلح السيكودراما من مقطعين أساسيين هما: السيكو Psycho بمعنى علم النفس Psychology, وهو العلم الذي يدرس (الحياة النفسية) وما تتضمنه من أفكار ومشاعر وإحساسات وميول ورغبات وذكريات وانفعالات, كما أنه العلم الذي يدرس سلوك الإنسان الظاهر من أفعال وأقوال. وهو العلم الذي درس أوجه نشاط الإنسان وتفاعله مع بيئته.

فموضوع علم النفس إذن هـو الإنسان من حيث هو كائن حي يرغب ويحـس ويدرك ويعقل ويتذكر ويتخيل ويفكر ويعبّر ويريد ويفعل, وهو في كل ذلك يتأثر بالمجتمع الذي يعيش فيه ويستعين به, ولكنه قادر على أن يتخذ من نزعات وميـول ورغبات وانفعالات وإحساسات وصور وذكريات ناحيتين: ناحية ذاتية داخلية, وناحية موضوعية خارجية.

أما المقطع الثاني فهو الدراما التي ارتبطت في نشأتها الأولى عند اليونان القـدماء بالأساطير Myths والدين Religion, ويرجع أصل كلمة دراما Drama إلى الفعل اليوناني Draw بمعنى To do أو To act أي يفعل ويمثل, ويقول أرسـطو: (ولهذا قال البعض إن مؤلفـاتهم - يقـصـد كتاب الدراما - درامات, لأنها تحاكي أشخاصاً (يتعلمون ويفعلون) وتنقسم الدراما إلى تراجيـديا وكومـيديا.

الدراما والعلاج النفسي

وقد ارتبطت الأعمال الدرامية مثل التأليف الموسيقي بالعلاج الذهني أو العقلي منذ أقدم العصور, باعتبار أن الفن الجيد يمكن أن يكون السبيل لإعادة بناء الشخصية خاصة إذا ارتكز على قيم أخلاقية ودينية وجمالية رفيعة المستوى. وفي معظم الأمثلة فقد اعتبرت الدراما كعامل مساعد في العلاج أكثر من اعتبارها هي نفسها علاجاً خاصاً. وتمنح معظم المستشفيات العقلية المرضى الفرصة لأن يشتركوا في الأعمال الدرامية كجزء من برامجها العلاجية, وقد نجح المعالجون النفسيون في التعرف على إمكان التعامل مع مشكلات مرضاهم الخاصة من خلال الدراما ووصفوا لهم خبرات درامية معينة كي يجعلوا الدرما جزءاً من الموقف العلاجي المؤثر والحقيقي.

دراسات مورينو

استطاع (مورينو) Moreno 1947 تطوير الوسيلة الفنية العلاجية, وأطلق عليها اسم السيكودراما أي العلاج الدرامي أو العلاج بالتمثيل, وأعتقد أن لهذه الطريقة مميزات محددة تتفوق على الأنماط العلاجية النمطية الأخرى. ووضع مورينو منهجه الكلاسيكي (التقليدي) على أساس البناء الفوقي المتقن وعلاقته بالأفكار العلاجية المتعددة الأخرى. ولاحظ فلاسفة كثيرون مبكرون قيمة العلاج باستخدام منهج التمثيل الدرامي, كما تم إخراج المسرحيات القديمة أحياناً لاستخدام تأثيرها كعلاج. وقد تأثر مورينو بما جاء في الفلسفة وبخاصة العبارة التي وردت على لسان أرسطو: (إن عمل التراجيديا هو أن نحصل من خلالها على مواقف تعمل على تحررنا من الخوف والشفقة ومن مثل هذه الانفعالات). كما أشار أرسطو إلى تأثيرها على المشاهد أكثر من تأثيرها على الممثل ذاته أو على الشخص الذي تؤثر فيه التراجيديا بشكل ما من الأشكال).

ولقد تركت نظرية التحليل النفسي وقبولها وتطويرها وأثرها الفعّال - بلاشك - على مورينو, واستخدم المصطلح نفسه في وصف نظريته. ولوحظ أيضاً أن السيكودراما لها تأثيراتها على كل من المجموعة العلاجية والعلاج الحر أو العلاج عن طريق اللعب Release Therapy.

عالم المريض

واعتقد مورينو أن معظم المواقف العلاجية غير مؤثرة في جانب منها لأن المريض يعالج منعزلاً عن جميع عناصر البيئة, ويفرض عليه أن يصف مشاعره بكلمات محددة, فليس لديه الفرصة أن يتصرف خارج الأدوار والمواقف الخاصة بحياته. ولكن في السيكودراما فإن المريض من ناحية أخرى يطلب منه أن يقف على خشبة المسرح وأن يعبّر عمّا يشعر به بكلماته هو, وبذلك يتم القضاء على السطحية في الموقف العلاجي العادي بأن يسمح للمريض بأن يستخدم إيماءاته وحركاته, وأن يقوم بأداء كل الأعمال الخاصة بخبراته التي مر بها من قبل عن طريق تصوّرها, وبهذا يعيش المريض الخبرة الكاملة عن طريق إحياء أو بعث الأحداث السابقة. ومادام المريض يقوم بتمثيل مناظر درامية مستنبطة من حياته, فإن لهذا المنهج مميزات تفوق المميزات الخاصة بالأدوار التي يكتبها المؤلف. وهكذا فلا ضرورة لأن يضحي بعالمه الخاص للقيام بدور وضعه له المؤلف.

الإدراك و... والوضوح

ويبدأ العلاج النفسي عادة بأن يقوم المريض بتمثيل مواقف هي جزء من حياته اليومية, ويمكن أن تكون المواقف المختارة مواقف حقيقية أو خيالية, فلا قيود عليه, وعلى الإخصائي النفسي أن يشجع المريض ليقوم بأداء دوره بحريّة وتلقائية.

ويتم ترتيب مواقف سيكودرامية متدرجة في تقدمها وتطورها في ثلاث مراحل أو فترات هي: الإدراك, وتبديل الأدوار, والوضوح. ويقوم المريض في المرحلة الأولى بتمثيل ما يتخيله على خشبة المسرح, وفي المرحلة الثانية يقوم مكانه أشخاص حقيقيون ويمثلون الأدوار التي تخيلها المريض من قبل. وفي المرحلة الثالثة يحاول إيضاح المقصود من كل ذلك, ويقوم المخرج بتحديد أدوار المريض والطبيب المعالج, والمحلل الاجتماعي, ويساعده في ذلك عدد من ممثلي المرضى النفسيين الذين يصوّرون الأدوار المطلوبة في عالم المريض والمؤدية للمرض. وبهذا يصبح الممثلون حلقات اتصال بين الطبيب المعالج والمريض المطلوب علاجه, فهم يساعدون المريض على أن يبدأ الدراما والقيام بأدوار جميع الأشخاص القريبين منه أو من مشكلته التي يعاني منها.

وقد يُطلب من المريض ألا يقوم فقط بتمثيل المواقف التي واجهها في حياته, ولكن يُطلب منه أيضاً تمثيل المواقف التي يخاف منها أو التي يحاول تجنّبها, فمن خلال العلاج سوف يصف نفسه مرة, ولكنه في مرات عدة سيقوم بأداء أدوار أخرى مثل دور أبيه وأمه وزوجته, بينما يقوم شخص آخر بتمثيل دور المريض ذاته في العمل الدرامي. وأثناء تطور العلاج يمكن أن يتضح أمام الطبيب ما يحاول المريض تجنبه أو إخفاءه من مناظر أو أدوار غير سارة بالنسبة إليه, لذلك كان من الضروري توجيهه نحو الأدوار والمناظر التي يجب أن يقوم بتمثيلها, مادام من المهم أن يحيا من خلالها, خاصة تلك المناظر المؤلمة وغير المرغوب فيها.

المناجاة والتداعي

وحاول مورينو أن يصل إلى أعمق مستويات عالم المريض الداخلي, وقد توصل إلى معرفة الحقيقة التي مؤداها أن داخل الشخص لا يكون, كاملاً إذا سبر غوره إنسان آخر. فوسائل اتصالنا الداخلي عبارة عن اسكتشات ما دمنا نحيا في عوالم مختلفة في الوقت نفسه, فإذا قام الممثل في السيكودراما بإلقاء الأدوار المكتوبة له فقط كما يحدث في الأعمال الدرامية العادية, فإن الاتصال الحقيقي يفقد ولا يكشف عن الطبقات النفسية الأكثر عمقاً, لهذا قدّم مورينو أسلوباً آخر هو أسلوب المناجاة. ففي المناجاة لا يتفاعل الممثلون فقط مع الموقف ولكنهم أيضاً يُخرجون مشاعرهم وأفكارهم التي بداخلهم والتي لا يُعبر عنها في أوقات أخرى. ومن هنا جاءت أهمية القيم التي حصلنا عليها من السيكودراما والتي يجاهد الطب النفسي باستخدام الأسلوب الحر أو التداعي, فضلاً عن أنه يزوّدنا أيضاً بالفرصة لتحقيق التداعي الحر Free Association وإمكان الكشف عن العوامل الديناميكية المهمة. وبرغم ذلك, فإن المرض النفسي لا يعتمد كلية على هذه القيم, ولكنه يهدف إلى تحليل ثابت لمشكلات المريض, فبعد أداء المواقف درامياً يتم تحليلها وتفسيرها للمريض.

ويمكن القيام بأداء التمثيل الدرامي المستخدم كعلاج (السيكودراما) بوجود أو عدم وجود جمهور المستمعين, وفي بعض الأحيان يمكن استخدام الجمهور كعامل مساعد للمريض بأن يسمح لهم بالقيام ببعض الأدوار المشاركة في الدراما. وفي حالات أخرى يمكن أن يكون هذا الجمهور نفسه موضوع المرض ويشاركون في العمل الدرامي - كلياً أو جزئياً - عن طريق تمثيل مشكلاتهم على خشبة المسرح, ولهذا أصبح من الأهمية بمكان وجود علاقات جوهرية بين المريض وبين القائمين على مجموعة السيكودراما.

إن استخدام أسلوب السيكودراما التقليدي الذي قدمه مورينو لا يتطلب فقط معالجاً نفسياً رئيسياً وذكياً, ولكنه يحتاج أيضاً إلى مجموعة من المساعدين المدربين بعناية, ويجب أن نعرف أن هناك كثيراً من المرضى لا يمكن إقناعهم بالاشتراك في مثل هذه الأعمال الدرامية.

علاج عملي!

وقد قام عالم نفسي آخر هو (هريوت Herriott) عام 1941 بتطبيق هذا الأسلوب العلاجي بطريقة رائعة. فقد سمح هريوت للمريض الذي تم إعداده لترك المستشفى - بعد أن تم علاجه نفسياً - بأن يلتقي بالناس خارج هذا المستشفى من وقت لآخر, وتمت ملاحظة المواقف المختلفة التي يتعرض لها المرضى بطريقة موضوعية وشاملة, مع الاهتمام بضرورة تفسير فترة تغيب المريض عن المواقف الحياتية المعتادة خارج المستشفى. وأصبح الاتجاه السائد عند تقديم موضوع المرض العقلي بوجه عام, أو المشكلات التي لها علاقة بالتطبيقات في مجال الوظيفة, أو خلال المراحل التعليمية المتقدمة, أن يحاط بكل جوانب المشكلات الحقيقية التي يتعرض لها المريض.

وقد لاحظ هريوت أثناء تناوله للمشكلات في المواقف العلاجية المختلفة أن العلاج المؤثر الممكن لمثل هذه المواقف يتم من خلال استخدام أسلوب السيكودراما. وتمت مواجهة المشكلة بأن جعل المريض يشترك بنفسه في المواقف الدرامية في الأماكن المختلفة مثل الصيدليات والسوبرماركت ومكاتب البريد, ومكاتب التوظيف وغيرها. ويكون الموقف في البداية عاماً, ثم يتم فجأة تخصيصه عن طريق مواجهة المريض بأحد المواقف التصادمية, كما يحدث في الحياة. ويمكن القيام بهذا العمل بأن يجعل الإخصائي النفسي أو الطبيب النفسي أحد الممثلين يسأله عن مسكنه أو عن تاريخ محدد أو عن أحداث تتعلق بالماضي القريب أو البعيد. وفي الحالتين - حالة تمثيل المواقف وحالة المناقشات التي تتبع في الدراما - يتم الكشف عن المخاوف الشخصية المراد اكتشافها. إن هذه الاكتشافات تمدنا بأسس تكوين المواقف الدرامية التي يراد استخدامها والاستفادة منها.

تبديل الأدوار

إن أحد هذه الأساليب المؤثرة - بل والشائقة في آن واحد - التي تم تطويرها هي القيام بتبديل الأدوار في المواقف الدرامية المختلفة. ففي الموقف الدرامي, يأخذ المريض دور صاحب العمل أو أحد الموظفين حيث تتوازى التعليمات الصادرة إليه مع تاريخ المريض والمرض ذاته, ثم يأخذ دور طالب الوظيفة, ويتم اكتشاف الصورة كاملة لاتجاه المريض ومرضه تحت مثل هذه الظروف المتغيرة. وفي الوقت نفسه, يمكن القيام بدور صاحب العمل المريض بأن يقوم بنفسه بتقدير أهمية المسئوليات التي تقع على عاتق صاحب العمل, وبوجه عام زيادة تأمينه وفهمه للموقف الكلي بصفة عامة, كل هذا يؤهل المريض لاكتساب خبرة حياتية مختلفة تمكّنه من مواجهة مشكلات الحياة الصعبة, وتضعه على طريق الشفاء لكي يتمكن من استئناف مسيرة حياته بطريقة طبيعية ولا يتعرض لانتكاسات تعود به إلى حالته المرضية الأولى.

 

إبراهيم مصطفى إبراهيم