رواية الحرب اللبنانية... متى تكتب؟

رواية الحرب اللبنانية... متى تكتب؟

رواية الحرب اللبنانية لم تكتب بعد, وبكلام أكثر دقة: لم يكتب أي كاتب لبناني حتى الآن, وحسب علمي, رواية الحرب اللبنانية بالعربية.

إن ما كُتب حتى الآن تناول بعض أجواء هذه الحرب أو نتائجها. وفي هذا المجال بالذات, بدت أعمال كثيرة كأنها تقول أمراً واحداً, وأحياناً كأنها رواية واحدة لأنها أجمعت تقريباً على الاقتصار على الحديث عن النتائج والأجواء. والكاتب حرّ في ألا يرى من الحرب, في صورتها المطلقة, إلا نتائجها الرهيبة, وأن يكتب رواية أو روايات عمّا تفعله الحرب في صورتها العامة شبه (المجرّدة) بالناس, لكنه عندما يكتب عن حرب محددة ويورد هذه النتائج في شكلها شبه التسجيلي, يصبح, كما أسلفنا, مطالباً بأكثر من تقديم نتائج شبه جاهزة طالما اختار هو بنفسه هذا الشكل التعبيري.

أكرر أن هذا القول لا علاقة له بمدى جودة أي من هذه الأعمال, وبينها الجيد وغيره, بعض هذه الأعمال ومنها - مثلاً - عمل مميز هو (رحلة غاندي الصغير) للياس خوري صوّر نتائج الحرب من خلال تغيّر (عالم) بمن فيه وما فيه, هو منطقة بيروتية ذات طابع فريد. لكن الحرب التي تنتج عن تفاعل مشاعر وأفكار وأحداث تدفع الإنسان إلى الاقتتال, وما ينتج عن كل ذلك من مشاعر وأفكار وأحداث جديدة إلى حد ما, أو فلنقل مختلفة إلى حد ما, لم تكتب بعد. والحرب على الرغم من كل عواملها التي قد يبدو بعضها حتمياً, هي في النهاية (وجهة نظر بشرية) ت. هي خيار يلجأ إليه طرف أو أكثر من طرف واحد. والأطراف, منتصرين ومندحرين أو مندحرين جميعاً, هم بشر في جميع الحالات.

نتاج الحرب

هناك روايات عدة كتبت عن الحرب اللبنانية وأجوائها, وركّزت على تصوير الآلام والأهوال وهي روايات من (نتاج) الحرب إلى حد بعيد. لكن هل يكفي الحديث عن ذلك فحسب? قليل من الكتّاب طرح السؤال الذي لابد منه وهو (ما الذي جرّ علينا كل هذا الويل?)

في حديثي هنا عن هذه الأعمال, يجري التركيز على نظرة الكتّاب إلى الحرب وتفاعلهم معها, أي على الرؤية وعلى ذلك المصطلح القديم (المحتوى) أكثر منه على الأساليب التي يبدو بعضها مألوفاً ومتشابهاً أحياناً. وهذا الكلام وصفي غير تقييمي.

لكن يمكن القول إن غالبية هذا النتاج لم تحتو على شخصيات مرسومة بعناية, أي شخصيات ملوّنة مقنعة تقوم بمسيرتة ولا تموت فنياً في الصفحات الأولى, ويضطر القارئ إلى حمل جثة, والجثة الفنية عبء ثقيل. وكثير من شخصيات هذه الأعمال قد يصح وصفه بأنه مركبات تحمل أفكاراً مرسومة, أي وسيلة لقول هذه الأفكار, ولا بأس في هذا المخطط إذا استطاع الكاتب أن يجعل الحياة تدب فيه, وأن يقول ما يريده (روائيا). من أمثلة الشخصيات التي تموت مبكّراً بعض ما عند حنان الشيخ في بريد بيروت, وعند إيمان حميدان يونس في (باء مثل بيت... مثل بيروت), وعند حسن داود في (غناء البطريق) وشخصية نقولا عند هدى بركات في (حارث المياه), وهذه الشخصية تقدم لنا كل ما عندها وما تنطوي عليه, فيزول مبرر وجودها روائياً, لكنها تستمر في السير لأنها وسيلة الكاتبة لتقول عبرها أشياء كثيرة خاصة عن الماضي. هذا النوع الأخير من الشخصيات نجده - وإن بتفاوت من حيث دوره - روائياً في أعمال أخرى بارزة, فكأنه جامع مشترك بينها. إنه موجود أيضاً عند يوسف حبشي الأشقر وشكيب خوري وربيع جابر. عند هؤلاء الثلاثة, هناك عامل خلقي يدفع هذه الشخصيات إلى نهاياتها, فمسيرة حياتها عندهم مرسومة على الصورة التالية (ظلم - انتفض - ظلم - ندم - انتهى).

تعطل قانون الرواية

كثير من الأعمال التي بين أيدينا لم يعكس اهتماماً كافياً بالحدث الفعلي والذهني - النفسي وتطويره بمنطق وإقناع. وكثير من صفحات قسم من هذه الروايات, بما فيه بعض جيدها, جاء تراكماً من اليومي والوجداني والفكري في تفاصيل ترهق الرواية, فتجعلها تتوقف إذ تضرب الحركة الروائية وتعطل عمل قانون السببية الروائي, وهو نسغ النمو في هذا المجال.

نجد هذا أحياناً عند حنان الشيخ في بريد بيروت وشارل شهوان في حرب شوارع, وحتى عند إلياس خوري إلى درجة ما في رحلة غاندي الصغير.

التذرّع بأن كثرة التفاصيل سمة حداثة روائية اعتمدت هناك, وهنالك لا ينفع, فالتفاصيل دون حركة حياة تنظمها لا تسهم في صنع رواية جيدة كما لا تصنع الجبّة, وفق القول الشعبي كاهنا أو شيخا, فهناك ما هو أكثر من ذلك.

ويفتقد القارئ في مجالات عدة الانتقال المتدرج في الشخصيات وفي التطورات أيضاً, من الربيع وصولاً إلى الخريف, من النمو والارتفاع إلى الذبول كما يقول: A.M.FORSTER في كتابه ASPECTS OF THE NOVEL (أوجه الرواية).

قد يكون بين الأسباب التي من شأنها جعل هذا التدرج ممكناً, في وضعنا نحن, القدرة على ارتكاب المؤلم جداً, أي على تعرية الذات. لكن كثيراً من نتاجنا لا يعكس هذه القدرة جديّاً.

وافتقادنا هذه العملية لا يقل عن افتقادنا رسم صورة الآخر, أي الإنسان في الجهة الأخرى بشكل جدّي عميق. الآخر هو غالباً (جماعة تسير على رجلين). صورة الآخر لا نعرفها فعلاً في هذه الروايات, بل كأننا لا نريد الحديث عنها أو لا نعرف كيف ندخل إلى عالمها. هنا قد تكون هذه الروايات عكست وإن سلباً, أي بالصمت والاغفال, إحدى أهم مشكلاتنا, أو أحد أهم أسباب مشكلاتنا إنسانياً ووطنياً, كما عكست البيئة المهيأة لنمو بذور الشقاق والحرب. هناك - في رأيي - ما هو في المدى البعيد أسوأ من الحرب, وهو ألا نعرف فعلاً ما هي أسباب الحرب, وإن نجهل أن لبنان حمل بعض بذورها في داخله, وجاءت أيد عدة متنوّعة, فزادت في الزرع وتعهدت نمو كل البذور وتركتنا أمام حصاد الموت.

ومن الناحية الفنية, ففي عدم قدرة الكاتب على التمثّل أو التقمّص العاطفي, على أن يعيش بعض حياة الآخرين من خلال أعينهم ومشاعرهم ونظرتهم هم إلى أنفسهم بأكبر قدر من المعقولية, قضاء على العمل الروائي إذا كان هذا العمل يقتضي ذلك. وإذا جاءتنا صورة الآخر في بعض النتائج الذي تناول الحرب, فهي غالباً ما تأتي جاهزة أو في شكل مسطّح يشبه المجاملات كالقول إنه طيب وجيد (مثلنا مثله) كما عند إيمان يونس وحنان الشيخ مباشرة ومداورة. إنها صورة أقرب إلى (حكم) عام لا يرسمها الكاتب روائياً, ولا تمر عبر (خط التجميع) عنده كما يقال بلغة بعض الصناعات. الاستثناء الأبرز هنا نجده عند شكيب خوري في تلة الزعرور, لكنه عكس صورة الآخر بالقدر الذي احتاج إليه روائياً لرسم صورة بطله رمزي. وصورة الآخر هي هنا كما نراه نحن, إذ إننا لم ندخل بعمق إلى عالمه وهمومه, ولم نتحدث عن نظرته هو إلينا. والآخر في بعض نتاج إلياس خوري غير موجود فعلاً, فهي خفيّ في (الجبل الصغير) وكل ما نعرف عنه إنه ساكن الجهة الأخرى من المتراس.

قراءات خاطئة

قيل إن بعض مشكلاتنا في هذه المنطقة من العالم, ناتج عن إننا نقرأ الحاضر, والمستقبل أحياناً, في الماضي, وبين مشكلات روائيي الحرب في لبنان أنهم قرأوا الماضي في الحاضر, فخلق ذلك إحجاماً عندهم, فالحاضر كما هو كل (حاضر) في لبنان منذ زمن, منسوج بخيوط الماضي, فهو مجموعة من التوازنات والممنوعات والخطوط الحمر واللياقات والمعتقدات التي يجب عدم تجاوزها حتى داخل الجماعة الواحدة. وهكذا قد يقضي (التأدّب) على الأدب أحياناً.

هذا الوضع ماثل دائماً في ذهن الكاتب, كائناً ما كان موقعه الفكري والسياسي. بل إنك لا تستطيع دائماً أن تكتب بصدق حتى عن أمور بعيدة في الزمن, كي لا تستفزّ الحاضر, فأنت والغد أسيران في سجن حارساه أمس واليوم, والنقد الذاتي بمعناه الصحيّ, لم يصبح من مزايانا السائدة بعد, وإذا مورس ما يشبهه, فهو لا يعدو كونه في أحيان كثيرة نوعاً من العاطفية المغرقة في التفجّع ولوم النفس ولطم الذات. وهذا قد يصلح منطلقاً إلى تساؤل جديّ, فإذا لم يصبح كذلك, تحوّل إلى تنفيس أو نوع من (التطهّر), يوهمنا بالتخلص من المشكلة, ويقول لصاحبه وفيت قسطك للعلي.

هذا الوضع أدّى - كما أعتقد - إلى نتيجة هي نوع من التهرّب من الحديث عمّا سبق الحرب. فهذه الروايات حفلت بأحداث الحرب وتأثيرها في حياة الناس, وتناول بعضها فترة ما بعد الحرب, كما نجد في (ظل القلعة) لنازك سابا يارد وعند نجوى بركات في (يا سلام). لكنني لم أر بين الكتّاب من انطلق بشكل جدي مما سبق الحرب من حيث الأحداث أو من حيث سبر أغوار النفس والفكر.

كثير من هذه الروايات, لم يحمل رؤية للأمور تختلف جوهرياً عمّا كان مألوفاً, وشكّل امتداداً لما كان سائداً, فجاء مع شيء غير كاف من محاسبة النفس, كالقول - مثلاً - إننا جميعاً أخطأنا. وفي ذلك, على صحته, موقف تبريري لا يتلاءم مع ضرورة محاسبة الذات بقوة. هو أشبه بالسعي إلى مصالحة اثنين في خلاف مع حرص رهابي (Phobic) على الهرب من ذكر الخلاف. إنه صلح لا يوصل إلى مصالحة مع الذات, ومن مجالات هذه المصالحة عمل روائي كبير.

وكثير من هذه الروايات يتحدث عن الحرب كأنها فاجأت أشخاصه وغيّرت عالمهم إلى حد ما. ومنها ما يتحدث عن عالم مثالي, فردوس مفقـود خربته حرب لا علاقة لهم بها. ويلتقي عدد منها على أن الناس الأخيار, أي الناس العاديين في الجهتين كانوا وقود الحرب, وإن الأشرار هم وراء كل ما حصل من فواجع. استثني هنا ربيع جابر في روايته الجيدة (البيت الأخير) إذ يقول - باختصار شديد - إن تاريخ لبنان مرتبط بالحروب والفتن. والواقع أن الإجرام الفردي كان هامشياً, نسبياً, في هذه الحرب, وإن الذي ساد كان نوعاً من الفوضى المنظمة أو الأجرام المدروس و (الأوركسترالي) أي إنه كان وسيلة سياسية. مَن يدرس الوثائق المختلفة وأبسطها الصحف والمعرفة المباشرة, يتذكر أنه كان للحرب دعاة ومفلسفون ومؤسسات ومصالح ظاهرة وخفية وجيوش وأجهزة استخبارات ودول داعمة للطرفين بوسائل مختلفة, وإن ظروفاً حقيقية داخلية وخارجية مهّدت لها, وإن نسبة كبيرة من الناس (الطيبين) صفقت لها سرّاً أو علناً, في مراحلها الأولى على الأقل, قد يكون (الطيبون) أحياناً أشد ضرراً على أنفسهم وبلدهم من الآخرين إذ تجعلهم قوى أكبر منهم في وضع مَن يطلق عليهم في عالم السياسة تعبير (الأغبياء النافعين).

لم يكن لبنان (يوتوبيا) كما يصوّره الحنين إلى الماضي, بل عاشت فيه, ونشأت فيه أحيانا معظم مشكلات الحاضر, ولم يعرف سيطرة الشعور بالمواطنية, بل توزّعت الولاءات فيه على الجماعات المختلفة, وعلى فئة (الأنا) التي ربما كانت كبرى فئاته. لم يكن يرضي عامّة مسلميه ولا مسيحييه. كان كما قال البعض مشروع دولة, لكن من المفجع إنه مع كل القيم الرائعة التي جسّدها وتفرّد بها في المنطقة, صارت له في مجالات عدة ملامح مشروع تجاري.

كل ذلك يمثل احتمالات روائية متعددة لكن معظم نتاجنا الروائي تجاهلها, بل ابتعد عنها, وهذا الاندفاع, بشعور وطني, إلى تصوير اللبنانيين كأنهم كانوا جميعاً ضحية حرب طارئة لم يكن لهم فيها يد إطلاقاً, قد يكون حكماً عليهم بتهمة أقسى من تلك التي نحاول أن ندفعها عنهم.

لا جدوى إذن في الصيغة الشائعة التي ترى في الحرب لونين أبيض وأسود, ولا في تلك التي ترسم عالماً مثالياً, ماضياً ذهبياً دمر بطريقة نقول إنها تحيّرنا. الاثنتان تبسيط آلي ليس هو الواقع.

مَن هما طرفا الحرب?

ثم إن الحرب نفسها عولجت في شكل عام بتصوّر تقليدي سكوني لا يتناسب معها أي بطريقة (هنا) و (هناك) و (نحن) و هم). وقد حال ذلك دون الإفادة روائياً من عناصر غريبة ومفجعة لا يبدو أنها توافرت لحرب غيرها قبلا. ففي الحروب الأهلية في العصر الحديث, ربما كان هناك دائماً عنصران ثابتان نسبيا, أي طرفا قتال, يتنازعان على ثابت آخر هو الأرض. في بعض مراحل الحرب اللبنانية, فقد هذا الوضوح في رؤية طرفي الحرب أو أطرافها, فالتحوّلات كانت باستمرار تجعل جزءاً من (نحن) تآكلت وتشظت, إذ فقدت ذلك الثبات البدائي الذي يشكّل عاملاً في قيام بعض الحروب ويرافق مراحلها الأولى عادة. وبينما نجد كتّاباً في العالم يرسمون التمزّق النفسي ويكشفون عن اللامعقول والعبثي الكامن في واقع يبدو عادياً, نجد كثيراً من نتاجنا يشكّل قراءة (عادية) لوضع حافل بالغريب كأنه من صنع الخيال, وضع يحمل حتى في يومياته الصغيرة هواجس رهيبة قد تدفع إلى الانهيار.

تبرز كذلك سمة مؤسفة هي عدم إعداد الكاتب عامة درسه بدقة وعمق كما يفعل الكتّاب الغربيون عادة, ولجوؤه إلى شيء من الارتجال, وعدم اهتمام كثير من كتّابنا اهتماماً كافياً بالدراسات الضرورية ذات العلاقة برواياتهم. ولا أعني هنا المعلومات الإغراقية التي لا ضرورة لكثير منها. فمن الارتجال إننا حتى في الأمور البسيطة, نجد مثلاً في رواية عن الحرب نصّا يخلط بين الدبابة وناقلة الجند التي يسمّيها أحياناً مصفّحة, بينما تسند هذه المعلومات إلى عسكري. يضاف إلى ذلك نقص في الدقة والتحديد, أي تحديد ما هو متصوّر وما يريد الكاتب قوله. هذه الأمور وضعف الترابط الذي سلف ذكره بين التفاصيل الكثيرة, من شأنها أن تجعل رواية ما عالما تنقصه الجديّة يعجز عن مخاطبة القارئ وجذبه إليه.

خلال فترة إعداد هذا الموضوع, كنت أعمل على رواية للكاتب البريطاني جون فولرتون هي (منزل القردة) التي تدور أحداثها في سراييفو أثناء الحرب الأهلية هناك. وقد يبدو قولي غريباً, لكنني, وأنا من الذين أمضوا سنوات الحرب في القسم الغربي من بيروت, عشت مع هذه الرواية كثيراً من أجواء الحرب في لبنان: القضايا الإنسانية والآلام والهواجس والحالات والمشاعر و (المؤامرات) التي رافقتها, بصورة لم يثرها في نفسي كثير من روايات الحرب اللبنانية.

بين الأعمال المميزة روائياً في ما قرأته أشير إلى أربعة هي, في تسلسل زمني, (الظل والصدى) ليوسف حبشي الأشقر و (عروس الخضر) للياس العطروني و (تلة الزعرور) لشكيب خوري و (ناحية البراءة) لرشيد الضعيف. أما رواية رشيد الضعيف التي يرى فيها بعضنا رواية عن الحرب, فهي عمل فني جديّ متميز ذو مضمون إنساني عميق, وهو من حيث تقنيته الروائية المختلفة القائمة على لعبة نفسية وسط جو كافكاوي, بين أهم نتاج السنوات الأخيرة. لكنني لم أستطع أن أرى في هذا العمل الجيد رواية للحرب في لبنان, ربما لأن كاتبها وبنوع من المكر الفني المتقن جعلها دون جذور متينة تربطها بأي أرض أو حدث عام.

الروايات التي استند إليها هذا الموضوع تنقسم من حيث علاقة أشخاصها أو بعضهم بالحرب إلى قسمين: قسم كانت بعض شخصياته ذات علاقة مباشرة, أي أنها اشتركت في القتال في شكل أو آخر, كما عند إلياس خوري في (الجبل الصغير) وشارل شهوان في (حرب شوارع), وعند إلياس العطروني في (عروس الخضر) وشكيب خوري في (تلة الزعرور) وربيع جابر في (البيت الأخير).

الحرب والقتل البارد

والقسم الأكبر من شخصيات الروايات لم تكن له علاقة مباشرة بالحرب, بل كان من الناس العاديين غير المسيّسين, وكثير منهم كان من ضحاياها. وهذا النوع من الناس موجود أيضاً في الروايات الأخرى. بين شخصيات هذا القسم لا تلتقي المقاتل إلا في صورة نمطية, أي في صورة مسلحي الأحياء وهم في غالبهم من اللصوص و(الشبيحة), كما يقال ومن مدمني المخدرات. وبين روايات هذا القسم - مثلاً - رواية (كانت المدن ملوّنة) للكاتبة رجاء نعمة (1990) التي تكاد تشكّل نوعاً مختلفاً عن سائر أعمال هذا القسم, فهي تنطلق من مسألة الثأر وتدخل أجواء عالم الحرب, وتتسم بجو من الشاعرية والرمز والغوص في عالم النفس.

إلياس خوري هو أول مَن كتب عن الحرب اللبنانية تحديداً بين أصحاب هذه الروايات, فالجبل الصغير صدرت سنة (1977), وقد كتبت انطلاقاً من ارتباط عميق بالقضية الفلسطينية.

عند شارل شهوان في (حرب شوارع) (1991) كتابة عن الحرب (الصرف), عن القتل البارد والعنف. إنها تختلف عمّا عرفناه عند خوري حيث المقاتلون نبلاء, أصحاب أفكار ومبادئ. ويختلف (مقاتلوه) عن مقاتلي إلياس خوري وعن معظم مقاتلي الطرفين في إنهم بلا قضية. وأشخاصه لا يصلحون لأن يكونوا صورة عن أي فئة, إذ إنهم يمثلون الشاذ الغريب. مسرح الرواية هذه كما في الجبل الصغير هو جهة واحدة, الجهة الأخرى من ضفتي الحرب.

شكيب خوري في (تلة الزعرور) (1992) يقدم رواية جميلة مشبّعة فكراً ومشاعر تنطلق من عالم شبه مثالي, أي لبنان ما قبل الحرب. الخطيئة الكبرى في رأي شكيب خوري هي رفضك الآخر إذا لم تكن رؤيته متطابقة مع رؤيتك وفي ذلك قتل وانتحار جماعي.

نسيج الرواية ملوّن ترافقه قدرة على القص جذّابة. لكن فكرة العالم المثالي هي أقرب إلى حالة رومانتيكية. هذا العالم المثالي قد لا يشبه من بعض النواحي سوى عالم النخبة المحدود.

رمزي بطل رواية شكيب هو مثل يوسف عند يوسف حبشي الأشقر, شخص طيب, لكنه يتصرّف مثله بشكل نمطي مرسوم, يوسف قُتِل أبوه, فانخرط في حزب الكتائب وانتقم له بشكل رهيب, ثم عاد إلى نفسه, فرفض الاستمرار, فانتهى في السجن. وانتهت حياة رمزي في أمريكا. الشخصيات في تلة الزعرور تتحرّك وفق مخطط متوازن للخير والشر, مقدار هنا ومقدار هناك. أبوجاسر الفلسطيني يقتل ثم يموت قتلاً, ومع أن دوره مصيري بالنسبة إلى القرية, فكل ما نعرفه عنه عملياً هو إنه عدواني بطّاش.

الرواية لا تروي قصة الحرب من خلال أشخاص, وإن رسمت بعض وجوهها ونتائجها. وهؤلاء الطارئون الطيبون الهامشيون ليسوا هم الحرب كما أن نقيضهم, أعني مقاتلي شارل شهوان الذين لا قضية لهم ليسوا هم الحرب أيضاً.

بعض وجوه التبسيط عامة القول الشائع, إن الحرب في لبنان قامت لأن فلسطينياً أوقف لبنانياً عند نقطة تفتيش أقامها, وإن لبنانياً كتائبياً رد على ذلك بالمثل. يبدو لي أن ذلك جرى كي تقع الحرب الكبيرة, بل جرى لأن نوعاً من الحرب كان قائماً بصورة من الصور. هنا نتذكر تجربة بافلوف وكلبه أي نظرية التحكّم برد الفعل. ذلك القول هو النسخة الثانية المجددة لقصة فتنة 1860 في لبنان إذ قيل إن خلافاً خلال اللعب بين ولدين درزي وماروني فجّرها.

رواية ربيع جابر (البيت الأخير) (1996) التي بناها أساساً على أجواء يوسف حبشي الأشقر خاصة في (الظل والصدى) وعلى شخصية إسكندر بالتحديد, تنساب بالقارئ فلا يحتاج إلى دفع ذاتي ليستمر في القراءة.

ومع ذلك, فالفعل النفسي في شخصية ك. بطل رواية ربيع, لا يبدو أن الدور الرئيسي فيه كان للحرب وسنواتها. إن بطله شخصية منسحبة يجد نفسه لا خارج الحرب فحسب, بل خارج العادي المألوف في الحياة. إنه يقلب مع أوسكار وايلد نظرية المحاكاة رأساً على عقب, إذ يؤمن بأن الحياة تقلد الفن, أي تقلد أبطال الروايات كما يقول.

معاناة الحرب

في سائر الروايات معاناة بسبب الحرب وعوامل أخرى.

مملكة الغرباء للياس خوري (1993) هي في شكل عام قصة ناس ما قبل الحرب, قصة بيروت و (بيارتة) ما قبل الحرب.

في (بناية ماتيلد) رواية حسن داود, مع كل ما تتضمن من أبعاد ورموز مهمة نجد نموّاً دائرياً أو مسطّحاً حيناً مثل نسج سجادة مع ما في ذلك من إتقان.

رواية (الظل والصدى) ليوسف حبشي الأشقر, هي رواية (فكرية) لم تقع في الجمود, وإن تباطأت حركتها القصصية أحياناً تحت وطأة ثقلها الفكري والوجداني. وشخصيات هذه الرواية, وبشكل خاص, شخصية إسكندر المحورية, وشخصية أنسي, نشأت وارتسمت بصورة شبه كاملة في روايته السابقة (لا تنبت جذور في السماء) والتي نشرت قبل الحرب. إسكندر المسيحي الماروني الذي عاش في القسم الغربي من بيروت, واستمر يعيش فيه بعد نشوب الحرب على الرغم من الحملة عليه في بيئته يصح فيه وصف (اللامنتمي) إلى المفاهيم والأفكار التي سادت بلده. انتماؤه الثابت إلى قيم إنسانية جعله يرفض تغيير مكان إقامته كي لا يشترك في (اللعبة) فينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك. إنه موقف شهادة في الحياة والموت.

شخصية إسكندر عند الأشقر, وشخصيتا الأستاذ ميشال وابنة أخيه جانين عند إلياس العطروني تمثلان - كما يبدو لي - امتداداً لشخصيات مسيحية, ومارونية بالتحديد, من عصر النهضة وما بعده من حيث خيارات أصحابها الفكرية الإنسانية والقومية, وخروجهم من قوقعة الجماعة الضيقة بما جعلهم روّاداً, ووضعهم في طليعة قادة القضايا العربية, كثير من هؤلاء لم يكن مرضياً عنه في البداية لأن السباق قد لا يفهم إلا بعد حين.

تبدو رواية إلياس العطروني (عروس الخضر) عملاً قريباً إلى رسم أجواء سادت قبيل الحرب, وتصوير مشاعر وأفكار انتشرت قبل الحرب وخلالها وبعدها, وفيه معادلة روائية لتصوّر شمل شيئاً من الماضي والحاضر والمستقبل. إنه يكتب منطلقاً من تعاطف أو مما يعتبره شراكة قضية ومصير بين اللبناني والفلسطيني.

ذكر شمس بطل العطروني وحبيبته جانين التي تمثل هذا المسيحي الماروني المتحرر الذي يعتبره الكاتب ركناً أساسياً في قضية المصير, نفذا قراراً هو قتل أبي الغضب المسئول عن كل هذه الشرور. العدالة تقضي بأن يدفع القاتل الشرير الثمن, وعليهما البقاء والتشبث بالأرض والإيمان بالغد, وبمساعدة (الخضر) حملا أحلامهما ودخلا المدينة مع ليل جديد.

في (بريد بيروت) لحنان الشيخ (1996) سرد قصصي متراكم دون مبرر واضح أحياناً ليوميات الحياة وللحياة عامة في بيروت والجنوب منذ بداية الحرب, لكن على الرغم من إيراد الكاتبة التفاصيل بجمال, فإن القارئ يبحث عن الصورة الكاملة الشاملة فلا يجدها.

عند إيمان حميدان يونس في (باء مثل بيت... مثل بيروت) (1997) لأزمة تتكرر هي هاجس بارز في سائر الروايات أيضاً, وهو هاجس السفر الذي عزّزته الحرب, فصار هرباً ونزوحاً أحياناً, تقول إحدى شخصيات الرواية متعددة القصص والوجوه (كل ما أحتاج إليه أصبح في الحقائب...).

استعداد للسفر, أحلام تتبدد وتغيّر في نمط الحياة, علاقتها بزوجها تأثرت بعد أن غادر أهله قريتهم وسكنوا مع زوجها ومعها. مشكلة أخرى تبرز هنا هي ارتداد كثيرين إلى قواعدهم الطائفية, فالزوجة مسيحية والزوج مسلم, والأجواء الطائفية انعكست على العائلة, وعلى شقيق الزوج بشكل خاص, زوجها توقف عن الحلم - كما تقول - وارتدّ إلى الماضي يحتفل مع أخيه بذكرى جدّه, وهي ترفض البحث عن هوية بين الأموات, وترى الهوية في ولديها وهما (الحاضر والآتي). عند الكاتبة هنا أغوار بعيدة وأسئلة نفّاذة, وأكثر من مشروع روائي, لكن ذلك بحاجة إلى مزيد من التطوير.

وفي رواية هدى بركات (حارث المياه) (1998) نجد أن شخصيات الرواية ارتسمت وترسّخت قبل الحرب, وصفاتها سلباً وإيجاباً هي نتيجة عوامل عدة في المنطقة والبلد والبيت والثقافة, دينياً واجتماعياً. لم نلمح في الرواية إشارة واضحة إلى احتمالات قيام الحرب أو هموماً قد تؤدي إليها خلال عرض حيوات هذه الشخصيات, فكأن الحرب كالزلازل مثلاً, أمر ليس من صنع البشر.

في رواية رينيه الحايك (العابر) (1999) تصوير مؤثر لحركة الحياة والزمن ومرور الأيام والاقتلاع بعمق إنساني, لكن أيام الحرب تكاد لا تشكّل سوى إطار للرواية.

رواية نجوى بركات (يا سلام) (1999), تبدأ في فترة زمنية أعقبت توقف الاقتتال, وأبطالها هم من (أبطال) الحرب السابقين, لكنهم - وبكل بساطة - مصابون بأمراض عقلية ونفسية تعددها الكاتبة. إذن فالحرب هي من فعل مجموعة من الشاذين أو البسطاء, فلا أمور كبيرة ولا قضايا وطنية ولا مصالح لدول عدة, ولا إجرام, ولا غباء يصل إلى حد الإجرام عند السياسيين. تُرى هل كانت الكاتبة في حاجة إلى الحرب لتكتب رواية كهذه?

 

جورج جحا

 
 




في ظل القلعة





يا سلام





كانت المدن ملونة





الغابر





بريد بيروت





تلة الزعرور





بنابة ماتيلد





رحلة غاندي الصغير





البيت الأخير





عروس الخضر





ناحية البراءة





حرب شوارع