عبدالسلام عيد وحلم المدينة

عبدالسلام عيد وحلم المدينة

عبدالسلام عيد رائد من رواد الفن المصري المعاصر، صاحب تجربة إبداعية شمولية، وقد حفظ لتلك التجربة تفردها وأصالتها بحثه الدءوب الذي كان خالصاً في أدوات الإبداع وخاماته.

رحلة عبد السلام عيد الفنية اتخذت مسارات عديدة ما بين التصوير، والرسم، والحفر و(الكولاج)، و(الديكولاج)، والمجسمات، والأعمال المركبة والجداريات.

إلا أن فلسفة الفنان عبد السلام عيد تتلخص في إيمانه بأن الإنسان لا يفقد خبراته، وأن مخزون تلك الخبرة سوف يتجمع والطريق الأفقي كثير الدروب الذي قطعه الفنان، سوف يتوحد ويتحول إلى سهم ذي نقطة واحدة تتكثف فيها تلك الخبرة، وهو يقترب الآن من رأس هذا السهم الذي نهايته المدينة. يستوي في ذلك مع الموسيقي والشاعر والأديب والمؤرخ والمسرحي، وكل فنان يريد أن يرسو على وجدان أبناء مدينته، ليس من خلال معرض أو متحف وإنما من خلال الجدران. وقد توحد ذلك الفكر مع إحساس الفنان بضرورة خروج العمل الفني من مجتمع أصحاب الياقات البيضاء إلى الشارع المصري.

ولعل أهم ملمح في تجربة عبد السلام عيد الفنية ينعكس في فكرة اندماج الفن في المدينة. تلك الفكرة التي شكلت الحلم الجديد للفنان التشكيلي المعاصر، ذلك الحلم الذي عبر عنه الفنان فازاريلي قائلاً: «إنني أؤكد من جديد ضرورة تلاقي كل الأشكال الخلاقة من أجل تكوين حضارة شاملة على نطاق الأرض بأسرها. فمدينة المستقبل، التي سيشيدها ألف مهندس ومعماري وفنان تشكيلي ستفي بكل الحاجات المادية والنفسية للبشرية». ويزيد على ذلك أن فضاءات مدننا بحاجة كبرى إلى ثقافة بصرية معاصرة تعيد الحس الجمالي، خاصة جماليات المكان المحلي نفسه: شخصية مدينة الإسكندرية وروحها.

مدينة حالمة

فالإسكندرية المدينة المصرية الحالمة، في موقعها الجغرافي الفريد بين الشرق والغرب، تتمتع بحالة تاريخية خاصة, فهي تعطي مثلا فريدا للتنوع الحضاري والثقافي، بسبب ما تراكم على أرضها من حضارات مختلفة على مدار التاريخ كجزء من أرض مصر، وبسبب موقعها الذي جعلها ترتبط أيضا بثقافات وحضارات حوض البحر المتوسط. وقد شهد تاريخها الثقافي تحولات كبيرة، جعلت منها نقطة الالتقاء لثقافات متعددة. والنتاج الفني السكندري يحمل طابعا فنياً خاصاً ويعكس العديد من التيارات الفنية التي تحمل أصداء ذلك الموروث الحضاري, وتحمل في الوقت نفسه آثار الالتقاء بالثقافات الأخرى.

ويعتبر الفنان عبد السلام عيد نموذجاً للفنان السكندري، حيث تمثلت في تجربته الإبداعية هذه البشائر الحضارية الكونية التي تشكلت بها هذه المدينة الجميلة. فإن الإسكندرية المدينة المصرية الحالمة أحالته لفكرة المدينة كشاغل إبداعي.

من هنا ارتبطت المدينة بأعمال الفنان ارتباطا قدريا منذ بداياته، فقد قدم على مدار تجربته الإبداعية عدة أعمال تتخذ اسم المدينة، مثل : مجسم المدينة 1982، المدينة الفاضلة (متحف توني جارنييه مدينة ليون بفرنسا) 1993، المدينة الحائرة 2002 (بينالي ساو باولو البرازيل). وعندما نشاهد سلسلة أعماله للمدينة نجد أنها لا تمثل انطباعا بصرياً عن المدينة كوجود جغرافي وعمران بشري بل إنها تشكل تمثلاً لذلك الوجود وانعكاسه في وعي الفنان وشعوره.

مدينة حائرة

وإذا تأملنا عمله: «المدينة الحائرة» سنجده ينشئ مدينة كونية جاءت كمكثف لرحلة فنان شغوف بالحياة وبالفن والتاريخ، كأنه أتى بها من كل المدن ومن كل الأماكن التي سافر إليها، جمع كل الأشياء التي يحبها، يحملها على كتفيه، يسير ويسير ويلتقط من البلاد والدروب والشوارع الضيقة، حتى فاض حمله فطرحه مدينة كاملة معجونة بكل سنوات الخبرة، وبكل شذرات الفكر وشططه والتماعاته، مجمعا لرؤاه البصرية.. خبراته الأدائية المفرطة في البساطة وفي التعقيد، إنسانيته العالية، وأبعاد شخصيته المتشابكة ما بين العقلانية المركبة والشاعرية الرقيقة والعفوية الفطرية.

لقد كثف الفنان العالم في مجموعة من البنايات، لكنها بنايات تسمح بالرحيل والمغادرة والسفر بين الأزمنة، ووضعها على مساحة بيضاء طيفية اللون توحي بالطيران، تعامل الفنان مع ما يسمى بأسلوب التركيب الفوقي، حيث يقيم علاقة ما بين الصور الجمالية المختلفة، ويضع اللمحات الحضارية بعضها فوق بعض، بحيث يخلق توتراً بين الأزمنة التي تنتمي إليها كل منها. هذا التوتر يخلق نوعاً من المتعة اليقظة المدهشة المصحوبة بالتحليق والخيال. وهو يدير هذا العالم باقتدار ويدعونا إلى أن نعيش ونحلم معه ونطير بين أبنية مدينته التي أخذت من كل عصر سمته الجميلة ومن كل فن روحه المحلقة.

نرى في المدينة الحائرة : تمثالا من فنون حضارة (الأزيتك) ليمثل القوة الفطرية الغاشمة بأسرارها المغلقة، والتي يمكن أن توجه في أي اتجاه دون حساب، وجوده أعطى إيحاءات ورموزا بالغة الأهمية. دائرة تخرج من الكتلة الصلبة فيها حالة حركية توحي بأن مكوناتها تكاد تتطاير ولكن في مدى مغناطيسي، أي أنها في حالة حركة لكن مازالت مشدودة إلى مركز ذلك القرص الذي يحدد مجالها المغناطيسي. تكثيف ملون من الأقمشة والحليات الصغيرة المندغمة معها، والخامات التي فقدت صلتها بالواقع أصبحت وكأنها جزء من كيان عجيب يلتقط كل الأشياء حوله، تماماً كذاكرة الفنان اليقظ. ناطحة سحاب زجاجية ذات حس شرقي مشغولة بالدانتيل، نوافذها المخملية، وأبوابها الأثيرية تجذب الأرواح فتنساب فيها وكأننا نسمع من داخلها موشحات أندلسية قديمة.

ويقدم ذلك من خلال عمل فني كلي يعتمد على بناء مكان كامل تتجلى فيه وحدة الفنون، و يحمل تراكمات تاريخ الفنون الإنسانية وآثار تفاعل الفنان معها واحتفاظ ذاكرته الفنية بمفرداتها، في تدفق سار يرتحل عبر تاريخ الفن، ويحترم كل فنون الحضارات . من هنا بدأ سعي عبد السلام عيد في سبيل تحقق ذلك الحلم : حلمه بأن يكون الفن حياة كاملة تحوطنا، ودخل حقل الجداريات كمثير جديد لحالة الإبداع بروح مغامر، وقدم سلسلة من الجداريات طرحها من خلال حلم المدينة. ومازال الفنان يواصل الحلم.

---------------------------------------

أرى قَبرَ نَحّامٍ بَخيلٍ بمالِهِ،
كَقَبرِ غَويٍّ في البَطالَةِ مُفسِدِ
تَرى جُثْوَتَينِ من تُرَابٍ، عَلَيهِما
صَفائِحُ صُمٌّ مِن صَفيحٍ مُنَضَّدِ
أرى الموتَ يعتام الكرام ويصطَفي
عقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّد
أرى العيشَ كنْزاً ناقصاً كل ليلةٍ
وما تُنقِصُ الأيّامُ والدّهرُ يَنفَدِ
لعَمْرُكَ إنَّ الموتَ ما أخطأ الفتى
لَكالطِّوَلِ المُرْخَى وثِنياهُ باليَدِ

طرفة بن العبد

 

 

 

أمل نصر






رحلة المجسمات في مدينة الفنان عبد السلام عيد





المدينة في اشكالها المصمتة، تقدم محليّاتٍ معمارية





غزارة الخامات المستخدمة، توازي تركيب المدينة المعقد





خامات أولية: بساطة الفكرة وثراء الخيال





مكونات أعمال عبد السلام عيد في حالة حركة، داخل مدى مغناطيسي