إنسان سنة مليون

إنسان سنة مليون

قرأت بشغف شديد ما كتبه د. أحمد أبوزيد في باب «مستقبليات»، تحت عنوان «إنسان سنة مليون» الذي ورد في عدد أغسطس 2009م. إنه بحق موضوع يستحق من كل قارئ الوقوف عنده؛ لما فيه من بعد فكري وعقلي عميق حيث جعلنا الكاتب نحلق بعيداً ونطوف بالآفاق التي لا حدود لها مع أولئك العلماء الذين انطلقت عقولهم لتتخيل أو تتصور لنا الإنسان بعد مرور مليون عام. وهل قام كل هذا التطور العلمي والتقني الذي نعيشه الآن إلا على تلك القرائح التي انطلقت من عقالها لتستشرف لنا آفاق المستقبل البعيد؟، ليأتي العلم فيما بعد ليحقق للبشرية ما تخيلته تلك القرائح في الماضي ليصبح حقيقة واقعة وماثلة للعيان، بدءاً من حلم الطيران واكتشاف الفضاء والغوص في أعماق البحار والمحيطات وما نشهده اليوم من تطور هائل في مجالات الطب والهندسة ونظريات التربية والفلسفة.. وغيرها مما سيكون في يوم ما جزءاً من تاريخ تطور الفكر العقلي والإنساني.

لقد شغلني هذا الموضوع كثيراً مما دعاني إلى تخيل الإنسان بعد مرور مليون عام؛ فأطلقت لفكري العنان لكي أتخيل ما سيكون عليه الإنسان بعد مرور عشرة آلاف قرن على البشرية من الآن. ففي تصوري أن العقل البشري سيكون هو حادي الركب وقائد المسيرة المعرفية والعلمية في هذا الوجود وسيتطور ويتقدم بشكل لا يتصوره أحد ممن عاشوا على هذه الأرض ولو لآلاف السنوات القادمة.

تطور قدرات العقل

إن العقل البشري سيشهد تقدما وتطورا لدرجة أن يصبح العوام من الناس وليس العلماء منهم أكثر تطوراً في مجال القدرات العقلية والعلمية والفكرية بحيث إنه لو عاش شخص في مستوى ذكاء عقل ألبرت آينشتاين أو غيره من العلماء المشهود لهم بالذكاء والتفوق العقلي بعد مرور مليون عام؛ فسيعتبر بمقاييس ذلك الزمان شخصاً متخلفاً عقلياً، وسيكون عاجزاً عن أن يستوعب المتغيرات والتطورات التي ستحدث في ذاك الأوان، أي أن أي فرد عادي الذكاء سيكون أوسع معرفة وأكثر إدراكاً من كل العلماء الذين عاشوا في ما مضى من عمر الزمن.

ثقة وتفاؤل

تتملكني وتسيطر عليَّ نزعة عالية من الثقة والتفاؤل بمستقبل الإنسان، لا أشك لحظة في أنه سيتمكن من القضاء على كل المعضلات التي تجابهنا ونعاني منها اليوم وسيحل كل الألغاز الغامضة التي تكتنفنا وتحيط بنا اليوم في كل جانب من جوانب حياتنا الإنسانية.

ومن المتوقع أن يؤدي ذلك التطور إلى السيطرة التامة على جميع مجريات الحياة التي يعيشها إنسان ذلك العصر، بحيث لن يكون هناك أي نوع من الأمراض؛ إذ سيقضى عليها قبل أن تظهر، كما سيقضي التقدم العلمي على كل المشكلات التي تؤرق البشرية: مثل الفقر والجوع والبطالة وسيتمكن الإنسان من السيطرة الكاملة على حركة الطبيعة من ثورات بركانية وزلازل وعواصف وفيضانات وآفات زراعية.. وغير ذلك من الكوارث الطبيعية التي كانت تفتك بالآلاف من الناس؛ وستنعكس تلك السيطرة بدورها على الفترة الزمنية التي سيعيشها الفرد حيث ستطول أعمار البشرية لتعود إلى ما كانت عليه في الأزمنة السابقة.

أثر العلم

أرى أنه سيكون للعلم الأثر العظيم في بناء العقل البشري وتطويره والسيطرة التامة أو الأقرب إلى الكاملة بحيث تشمل جميع النشاط البشري في مجرتنا وغيرها من المجرات الأخرى.. مما سيجعل حركة الإنسان العادي بين الكواكب والمجرات أمرا طبيعيا وأسهل وأيسر من تنقلنا اليوم بين المدن؛ وسيكون ذلك نتيجة طبيعية للكثافة السكانية التي لن تستطيع الأرض بمواردها المحدودة استيعابها بحيث سيضطر الناس إلى البحث عن أماكن أخرى للعيش فيها بحيث سيتوسع الإنسان في الكواكب والمجرات المنتشرة في هذا الكون الفسيح المترامي الأطراف، وسيتم الانتقال بشكل عادي كما أشرنا سابقاً ودون أدنى نوع من المشقة أو التعب.

أثر الدين

على الرغم مما أوردناه آنفاً من تمكن العقل العلمي من السيطرة على جميع مجريات النشاط البشري وتحكمه في كل ناحية من نواحي الحياة الإنسانية؛ إلا أننا لا نستطيع أن نهمل الجانب الروحي والعقائدي لدى البشرية بالرغم من قوة قبضة العلم، إذ سيكون الدين موجوداً في حياة الكثيرين إن لم نقل كل منا، لا يتزعزع ولا يتزحزح من القلوب فنحن لانزال نؤمن بأن الله قد منح الإنسان الكثير من القدرات الهائلة والجبارة التي لم يتمكن الإنسان من اكتشافها ومعرفتها برغم مرور هذه القرون الممتدة منذ خلق آدم (عليه السلام) وإلى يومنا هذا. يقول رب العزة تبارك وتعالى في سورة الذاريات الآية 21: وفي أنفسكم أفلا تبصرون .

ونجد في القرآن العظيم إشارة إلى أن الإنسان سيبلغ درجة عظيمة من القوة والجبروت بحيث يظن أنه قد تمكن من التحكم في الأرض والسيطرة عليها وأحكم قبضته عليها بشكل نهائي وقاطع؛ وذلك في سورة يونس الآية 24: ... حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازيّنت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً... .

ولا شك أن الإنسان لا يزال بعيدا كل البعد عن تحقيق هذه السيطرة في وقتنا الحالي ولكن ربما يدركها بعد مرور مليون أو مائة مليون من السنوات. من يدري؟.

د. حسن محمد أحمد محمد
سوداني مقيم بالسعودية