هارون الرشيد.. ضحية الليالي والمستشرقين

هارون الرشيد.. ضحية الليالي والمستشرقين

بداية القول أقدم الشكر للدكتور بركات محمد مراد. الذي فتح بمقالة «حنين ابن إسحاق.. المترجم الموسوعي والطبيب الإكلينيكي»، بالعدد 610 - سبتمبر 2009م، بابا لقضية بمكانة من الأهمية في تاريخ العرب والإسلام وألقت الضوء عليها مضيئة جوانبها. حين قال: «ويعتبر عصر الخليفة هارون الرشيد بالقرن التاسع، والمشهور في الليالي العربية بأنه أزهى العصور التاريخية» وأرجو أن تكون مشاركتي نافعة في توضيح الموضوع وزيادة الصورة نقاء ووضوحاً.

الحقيقة أن هارون الرشيد واحد من شخصيات التاريخ الإسلامي التي تناولها المستشرقون للإسقاط التاريخي. كما حدث مع اثنين من كبار المستشرقين المؤثرين وهما هاري سبنت جون فليبي وول ديورانت.

أما فليبي فجعل كتابه عن هارون الرشيد بحثاً في النفسية العربية وطريقة التفكير والمنهج والعلاقات الدقيقة بين مؤسسات الحكم العربية إبان العصر العباسي.

لكنه ركز كتابه حول مؤامرات ودسائس البلاط العباسي دون أن يلقى إنجاز هارون الرشيد الضخم والذي طالما لهجت الألسنة بذكره عن حركة الترجمة أي ذكر. فلولا ترجمة الأصول اليونانية القديمة منذ أرسطو ومن تلاه إلى العربية لما حفظت هذه الكنوز للإنسانية، لأن الأصول كما هو معروف فقدت وضاعت مع تدهور وانحلال الحضارة اليونانية ولم يبق سوى الأعمال التي تم ترجمتها بالفعل إلى العربية.

ولو كان فليبي قد أضاف إلى ما ذكره ً انجاز هذا العصر فيما يتعلق بحركة الترجمة وازدهار الفنون والموسيقي والغناء والشعر والنثر.. لكان محايداً شأنه شأن المؤرخين الثقات..

أما ول ديورانت. في كتابه الشهير «قصة الحضارة» فيقول: «وتصور لنا القصص وخاصة قصص ألف ليلة وليلة- هارون الرشيد، في صورة الملك المرح المثقف المستنير، العنيف في بعض الأوقات.

وقد استخدم صورة شائهة مهزوزة لهارون الرشيد، تتأرجح بين المدح والذم، حيث يقدم صورة الرشيد كما جاءت في ألف ليلة وليلة، وهي صورة تجافي الحقيقة كما رواها مؤرخون ثقات.

الرشيد.. صورة واضحة

هو أبو جعفر هارون بن محمد المهدي بن المنصور. وأمه أم الهادي ولد بالري (سنة 145هـ) ولما شب كان أبوه يرشحه للخلافة فولاه مهام الأمور. جعله أمير الصائفة (سنة63هـ) و(سنة 165هـ) وفي (سنة 164هـ) ولاه المغرب كله من الأنبار إلى أطراف إفريقية فكانت الولاة ترسل من قبله. وفي (سنة 166هـ) جعله أبوه ولي عهد بعد الهادي وفي (سنة 169هـ) وهي السنة التي توفي فيها المهدي أراد أن يقدمه على الهادي لما ظهر من شجاعته وعلو شأنه فحالت منية المهدي دون ذلك.

بويع الرشيد بالخلافة يوم أن مات أخوه الهادي في (14ربيع الأول 170هـ / 14 سبتمبر سنة 786م) وسنه (25سنة) ولم يزل خليفة إلى أن توفي ثالث جمادى الآخرة (سنة 194هـ/ 24 مارس سنة 808م ) فكانت مدة خلافته (23سنة) وشهرين و(18يوما) وكان عمره إذ توفي (48 سنة)

كان عهد الرشيد واسطة عقد المدة العباسية وصلت فيه الخلافة إلى أفخم درجات صولة وسلطاناً وثروة وعلماً وأدباً ارتفعت فيه حضارة الدولة العلمية والأدبية والمادية إلى أرقي درجاتها. ووصل ترف الأمة في حاضرة الدولة وغيرها من الحواضر إلى حد كبير، وكان في عهد الرشيد من كبار الرجال من تزدان بهم الممالك من رجال الإدارة والحرب، فعظمت الهيبة في الداخل والخارج وكانت أخلاق هارون مما يساعد على هذا الرقي.

وصلت بغداد في عهد الرشيد إلى قمة مجدها ومنتهى فخارها. من حيث العمارة، والثروة وكان الرشيد أسمح خلفاء بني العباس بالمال يعطي منه عطاء من لا يخشى فقراً.

ولم تكن بغداد بالمقصرة في علوم الدنيا كالطب والحكمة وغيرهما من سائر الصناعات فقد حشد الرشيد إليها الأطباء والمهندسين وسائر الصناع من الأقاليم المختلفة فاستفادوا العلوم ممن سبقهم من الأمم في المدنية، وزادوا على تلك العلوم بما منحوا من المواهب العقلية.

كان الرشيد خليفة ديناً محافظاً على التكاليف الشرعية أتم محافظة، صلاة وصدقة وحجا.

وأما جهاد الرشيد، فإنه كان لا يترك الخروج مع جنده بل كان غالباً في مقدمتهم حتى لا يعتاد الراحة ولا يقعده الترف عن القيام بهذا الواجب حتى كان من ضمن مآثره أنه كان يغزو سنه ويحج أخرى.

وكان الرشيد يحب العلماء ويعظم حرمات الدين ويبغض الجدال والكلام، وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله:ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله.

وكان العلماء يبادلونه التقدير.

وقال عنه السيوطي «وكان يحب العلم وأهله ويعظم حرمات الإسلام، ويبغض المراء في الدين، والكلام في معارضة النص، وبلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن، فقال: «لئن ظفرت به لأضربن عنقه» (تاريخ الخلفاء ص 284).

وكان الرشيد رجلاً لا ينسي نصيبه من الدنيا، مقبلاً عليها، آخذاً حظه منها، قال الأصمعي: «كان الرشيد يحب السمر ويشتهي أحاديث الناس». وذكر الجاحظ : «لم يكن أحد أحظى بالشعر منه» - أكثر احتفالا بالشعر.

يقول الذهبي في وصف الرشيد «كان شهماً شجاعاً حازماً جواداً ممدحاً، فيه دين وسنة، مع انهماكه على اللذات والقيان، وكان أبيض طويلاً، سميناً مليحاً، وقد خطه الشيب، وكان يصلي في اليوم مائة ركعة إلى أن مات، ويتصدق كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان يخضع للكبار ويتأدب معهم».

وبعد.. فهل نطمع أن نرى اسم هارون الرشيد يتلالأ على صدر جامعات ومراكز بحثية علمية عربية، بدلاً من قاعة هارون الرشيد وحلواني هارون الرشيد؟

صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
قاص وباحث
في التراث العربي والإسلامي من مصر