عندما يفقد الشاعر أدواته

عندما يفقد الشاعر أدواته

أوراق أدبية
ماذا يحدث عندما يقوم الشاعر بدور غير دوره,
وعندما يخضع أدواته لأغراض تجافي فنية القصيدة?

ماذا يحدث عندما يتقمّص الشاعر التقليدي دور الخطيب, محاولاً إقناع جمهوره بفكرة أو قضية أو دعوة يرتبط بها, ويأخذ على عاتقه إشاعتها والدفاع عنها والتخييل بسلامتها وضرورة الإيمان بها? وماذا يحدث عندما يتقمص هذا الشاعر دور المعلم الذي يحرص على توصيل المعلومات إلى تلاميذه بأوضح ما يكون, وتقريبها إلى أذهانهم بما يجعلها يسيرة على الفهم, سهلة في الحفظ والتذكر? المؤكد أن شعر هذا الشاعر يفقد الكثير من خصائص الشعر, وتتحول قصيدته إلى فضاء جدالي, أو خطبة سجالية, أو درس تعليمي, وعندئذ, تنقلب صور الشاعر على صفاتها التعبيرية أو الوجدانية أو الذاتية, وتنحو إلى أن تكون صوراً حجاجية, وظيفتها شرح الأفكار وتوضيحها, أو تحسين هذه الأفكار وتقبيح نقائضها, مستخدمة في ذلك أساليب الشرح ووسائل التمثيل التي تهدف إلى الإقناع.

وينسى الشاعر التقليدي في مثل هذه الأحوال, ما يمكن أن تتيحه صور القصيدة للقارئ من ثراء عاطفي وتعدد في الدلالة وتنمية للتجربة التي تقدمها القصيدة, أعني أن الصورة لن تصبح الوسيط الأساسي الذي تصل إلينا التجربة عن طريقه, وإنما تصبح ثانوية القيمة إزاء الفكرة التي يريد الشاعر إقناعنا بها, لأن الفكرة هي الأساس, أما الصور فهي مجرد وسيلة ثانوية.

أساليب الإقناع

والإقناع أساليبه متنوعة في هذا السياق, فقد يلجأ الشاعر إلى الشرح والتوضيح أو إلى التحسين والتقبيح أو إلى الاستدلال والتمثيل وضرب المثل, وقد يلجأ إلى الأساليب الإنشائية المعروفة كأساليب الأمر والاستفهام والنداء والتمنّي, فهذه كلها حيل معروفة استخدمها بكثرة الشاعر التقليدي, عبر كل عصور الشعر العربي, لتحقيق الهدف نفسه, أقصد إلى الهدف الذي تقوم به الصور البلاغية لمساعدة القصيدة على تأدية وظيفتها الاجتماعية المباشرة على نحو ما فهمت في أكثر من عصر, ويمكن تأمل مجالي هذا التحقق الوظيفي في قصائد محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم بحكم مكانتهم بين شعراء الإحياء.

وأول هذه المجالي ما يخص الشرح والتوضيح, والصور التي تؤدي هذه الوظيفة عادة هي الصور التشبيهية, ولعل هذا يرجع إلى أن التشبيه بطبيعته الاثنينية الحادة يستطيع الجمع بين الفكرة ومقابلها الشارح أو الموضح على نحو لا تستطيعه الاستعارة التي تلغي الحدود العملية بين الأشياء وتخلط بينها, ولهذا يعتمد الشاعر الإحيائي على التشبيه أكثر مما يعتمد على الاستعارة لأنه يريد أن يبقى التمايز بين الأشياء هرباً من الغموض والإبهام اللذين هما خاصية أثيرة في الاستعارة, خصوصاً أن هذا الشاعر كان يريد أن يفهم ويشرح لجماهير غفيرة ليس من الضروري أن تكون مستعدة للاستغراق في التأمل أو التأني في الفهم. ومثال ذلك ما قاله شوقي في رثاء عمر المختار:

لبّى قضاء الأرض أمس بمهجة

لم تخش إلا للسماء قضاء

وافاه مرفوع الجبين كأنه

سقراط جرّ إلى القضاء رداء

شيخ تمالك سنه لم ينفجر

كالطفل من خوف العقاب بكاء

فالأبيات مسبوكة في قالب الخطاب الذي يتوجه إلى جمهور غفير, هو جمهور المحافل التي تعوّد الشاعر الإحيائي على إلقاء قصائده فيها, والشيخ عمر المختار يوافي الموت مرفوع الجبين كأنه سقراط الذي اختار الموت فداء لأفكاره. وإذا كان التشبيه التوضيحي ناجحاً في هذه الحالة, فإنه لا ينجح في البيت اللاحق الذي يستخدم فيه التشبيه التوضيحي على سبيل نفي الصفة, أعني صفة رصانة الشيخ الطفل الذي لم ينفجر مثل الأطفال من خوف العقاب, وهو توضيح يعيبه حتى علماء البلاغة القديمة في صفاته من المشبّه.

الطبيعة النثرية للقصيدة

وتشبه تقنية الشرح والتوضيح في الأبيات السابقة استخدام التشبيهات في الكثير من قصائد شوقي, ومنها هذه الأبيات التي تصف ما صنعه قائد الجيش التركي بجنوده:

يقود سراياها ويحمي لواءها

سديد المرائي في الحروب مجرب

يجيء بها حينا, ويرجع مرة

كما تدفع اللجج البخار وتجذب

ويرمى بها كالبحر من كل جانب

فكل خميس لجة تتضرب

وينفذها من كل شعب فتلتقي

كما يتلاقى العارض المتشعب

ويجعل ميقاتا لها تنبري له

كما دار يلقى عقرب السير عقرب

يمكن أن نلاحظ في هذا المثال ما لاحظناه في السابق من أن الشاعر يبدأ بفكرة أو قضية عامة يسوقها مجرّدة في شكل نثري تقريري, ثم يعقبها بتشبيهات تزيد في وضوحها وشرحها, أي أن الصور هنا تزيدنا معرفة بما هو معروف أساساً, ومن ثم, فإنها يمكن أن تحذف دون أن يتأثر المعنى بهذا الحذف تأثراً كبيراً, لا لشيء إلا لأن للمعنى طبيعته النثرية المستغنية عن الصور. صحيح أن وصف اندفاع الجنود بأوامر القائد يمكن أن يكون أقل وضوحاً بعيداً عن التشبيه باندفاع البخار بالقاطرات أو حتى السفن, كما أن وصف الانضباط في التوقيت يمكن أن يبهت قليلاً بعيداً عن التشبيه بانضباط الساعة, ولكن المعنى في الحالتين قائم, وعلاقته بالتشبيهين علاقة بما هو زائد في التحليل الأخير, وليس بما هو متأصل في صياغة المعنى.

ولكن الشرح والتوضيح هما مجرد خطوة أولى في عملية الإقناع, ويرتبطان بعملية أخرى عادة, عملية يمكن أن نسمّيها - تبعاً للمصطلح القديم - بالتحسين والتقبيح. فإذا كنا نجد الشاعر - في حالة الشرح والتوضيح - يقرن المشبه بمقابله أو شبيهه الذي يزيده وضوحاً وبياناً, فإننا في هذه الحالة - أي التحسين والتقبيح - نجده يقرن المشبه بما يحسنه أو يقبحه للترغيب فيه أو للتنفير منه, في أسلوب جدلي بحت يؤكد عملية الإقناع التي تستهدفها القصيدة.

خذ مثلاً قصيدة (شهيد الحق) التي نظمها أحمد شوقي في الذكرى السابعة عشرة لوفاة مصطفى كامل, نجد أن الغاية الأساسية للقصيدة هي دعوة أبناء الوطن إلى الوحدة والتجمّع خصوصاً بعد ما أصاب مصر في سنة 1914 من انقسام وتشاحن. ولكي يقنع شوقي مستمعيه بضرورة الاتحاد والتجمع, لجأ إلى التحسين والتقبيح - بعد الشرح والتوضيح - فقال:

أبعد العروة الوثقى وصفّ

كأنياب الغضنفر لن يراما

تباغيتم كأنكمو خلايا

من السرطان لا تجد الضماما

وهنا, نجد أن الشاعر حسّن في البيت الأول فكرة الاتحاد, بينما قام في البيت الثاني بتقبيح فكرة الشقاق والفرقة, فربط كل فكرة بمشبّه به بالغ الحسن أو بالغ القبح حتى ينقل كل منهما عدوى قبحه أو حسنه إلى الفكرة التي تجاوره, فيتأثر المستمع بذلك ويقتنع بحسن الاتحاد كما يقتنع بقبح التفرّق, ويمكن للقارئ أن يتأمل مثالاً آخر لشوقي, خصوصاً عندما يقول في وداع اللورد كرومر:

اليوم أخلفت الوعود حكومة

كنا نظن عهودها الإنجيلا

دخلت على حكم الوداد وشرعه

مصرا فكانت كالسلال دخولا

حيث يستخدم أحمد شوقي الأسلوب الجدلي نفسه بحرفية ماهرة لتحقير اللورد كرومر, وذلك على نحو يبدو معه شوقي كما لو كان يؤمن أنه عن طريق تحسين المشبه أو تقبيحه يستطيع أن يجعل النفوس على ما يريد بتهييج مشاعرها وإلهاب عواطفها, كي تنطلق إلى الهدف المقصود كالسهم المرسل الذي لا يلوي على شيء.

قضايا جدلية

وهناك وسيلة أخرى للإقناع تتشابه مع الوسيلة السابقة في طبيعتها الجدلية, يمكن أن نسمّيها بالبرهنة والإثبات, حيث نجد الشاعر الإحيائي يبدأ قصيدته بقضية أو دعوى يدّعيها ثم يحاول أن يقيم عليها الدليل بذكر شواهدهـا, فعنـدما يقول حافظ مثلاً:

ورجال الإسعاف أنبل - لولا

شهوة الحرب - من رجال القتال

نجد أن هذه الدعوى تقبل الجدل والمناقشة, ولكي يثبتها حافظ ويبرهن على صحتها يلجأ إلى الصور, فيقول بعد ذلك مباشرة:

يسهرون الدجى لتخفيف ويل

أو بلاء مصوّب أو نكال

كم جريح لولاهم مات نزفا

في يد الجهل أو يد الإهمال

كم صريع من صدمة أو صريع

من سموم مخدر الأوصال

كم حريق قد أحجم الناس فيه

عن ضحايا تئن تحت التلال

يترامون في اللهيب سراعا

كترامي القطار لورد الزلال

لا لشيء سوى المروة يحلو

طعمها في فم المريء الموالي

وأغلب الصور في هذه الأبيات من النوع الكنائي, أي يعتمد على (الكناية) على نحو ما يفهمها أهل البلاغة القديمة, وهو نوع أثير جداً لدى حافظ في مثل هذه المقامات البرهانية. ويمكن أن يتأمل القارئ - زيادة في التوضيح - الجزء الأول من قصيدته (غلاء الأسعار) ليجد النوع البلاغي نفسه يؤدي الغاية البرهانية نفسها, ومثال ذلك ما يقوله حافظ إبراهيم:

أيها المصلحون ضاق بنا العيـ

ـش ولم تحسنوا عليه القياما

عزّت السلعة الذليلة حتى

بات مسح الحذاء خطبا جساما

وغدا القوت في يد الناس كاليا

قوت حتى نوى الفقير الصياما

يقطع اليوم طاوياً ولديه

دون ريح القتار ريح الخزاما

ويخال الرغيف في البعد بدرا

ويظن اللحوم صيدا حراما

إن أصاب الرغيف من بعد كدّ

صاح من لي بأن أصيب الإداما

أيها المصلحون أصلحتم الأر

ض وبتّم عن النفوس نياما

يمكن لنا أن نلاحظ - مرة أخرى - أن البيت الأول من القصيدة يواجهنا بالفكرة مباشرة - أو لنقل بالدعوى - في حين تقوم الأبيات من الثاني إلى الخامس بإثبات هذه الدعوى عن طريق ذكر شواهدها. ثم يأتي البيت السادس بذكر الفكـرة أو الدعوى من جديد بعد أن أكّدتها الشـواهد وبرهنت عليها.

واستخدام الكتابة بهذا الأسلوب أمر عام في الشعر الإحيائي, ولكننا لو قارنّا حافظ إبراهيم - في ذلك - بأحمد شوقي أو محمد عبدالمطلب أو البارودي أو علي الجارم أو إسماعيل صبري, وجدنا أن الاستخدام الكمّي لهذا النوع البلاغي من الصور يكثر كثرة واضحة عند حافظ إبراهيم على وجه الخصوص. أما شوقي والبارودي, فإن البرهان والإثبات يتم عندهما بالاتكاء على نوع بلاغي آخر لا يكثر عند حافـظ, ونعني بذلك تشبيه التمثيل. وتشبيه التمثيل بطبيعته أقرب إلى أن يكون نوعاً من أنواع الاستدلال أو القياس في المنطق, فالشـاعر يبدأ فيـه بادّعاء دعوى ثم يقيم عليها الدليل بأن يسوق لها شاهداً يماثلها, ومجرد لجوء الشاعر إليـه وإكثاره منه, يدل على أنه كان يفكر في قصـيدته تفكيراً منطقـياً, وهو على أي حال كان أداة أثيرة عند بعض الشعراء القدماء أمثال أبي تمام والمتنبي, فضلاً عن أنه نال مكانة مرمـوقة في كتـب البلاغة العربية منذ عبدالقاهر الجرجاني الذي يعد أكثر البلاغـين تأصيلا له وتنبيها إلى أهميـته, ولذلك استـغله البارودي كما استغله شوقي لإقنـاع قرائهما بما أراداه, وقد بلغا في ذلك الغـاية, ومـثـال ذلك قول البارودي:

لا غرو أن جمع المحامد يافعا

وسما بهمته على نظرائه

فالعين وهي صغيرة في حجمها

تسع الفضاء بأرضه وسمائه

وله:

لا تركنن إلى العدو فإنه

يبغي سقاطك بالحديث المعجب

كالنار تختدع الفراش بحسنها

فينال منه البؤس إن لم يعطب

وله أيضاً:

وإذا أرابكما الزمان بوحشة

فاستمخضاه اليسر بالإيناس

إن الروائم لا تدر لبونها

إلا بلين المسح والإبساس

وكذلك:

إذا ستر الفقر امرءاً ذا نباهة

فلابد يوما أن يشيد به الفضل

فإن لهيب النار مهما كفأته

إلى أسفل قسرا فلابد أن يعلو

والأمثلة في شعر أحمد شوقي عديدة, منها:

إن ملكت النفوس فابغ رضاها

فلها ثورة وفيها مضاء

يسكن الوحش للوثوب من الأسـ

ـر فكيف الخلائق العقلاء

ومنها:

ودعوا التفاخر بالتراث وإن غلا

فالمجد كسب والزمان عصام

إن الغرور إذا تملك أمة

كالزهر يخفى الموت وهو زؤام

ومنها:

من مبلغ عنى شبولة جلّق

قولا يبر على الزمان ويصدق

بالله جل جلاله بمحمد

بيسوع بالعزى لا تتفرقوا

قد تفسد المرعى على أخواتها

شاة تند عن القطيع وتمرق

وأخيراً, قوله:

لا تكونوا السّيْل جهما خشنا

كلّما عب, وكونوا السلسبيل

رب عين سمحة خاشعة

روت العشب ولم تنس النخيل

فقر في التشبيهات

ولا يعدو كل مثل من هذه الأمثلة أن يكون قضية وردت في البيت الأول يظهر بطلانها عند بادئ النظر, أو على الأقل يتشكك السامع في صوابها, فيأتي التمثيل في البيت الثاني برهانا على صدقها وجواز وقوعها بذكر نظائرها, خذ مثلاً بيت البارودي:

فلا عجب إن لم يصرني منزل

فليس لعقبان الهواء وكور

تراه يدّعي في صدر البيت أنه لا يوجد منزل يستحق أن يحتويه, ولما كان من السهل أن تجد هذه الدعوى من يقوم بتسفيـهها ويرد عليها, احتاج البارودي أن يقيم على ذلك دليلاً لا يمكن إبـطاله حتى يبرأ من مذمة الكذب ويخرج من نقيـصة الإحالة والتهجـّم على الدعاوى الغـريبة, فكان دليله على دعـواه أن العقبان لا يمكن أن يكون لها وكور, وبما أنه يماثلها, فلا يمكـن أن يحتويه منزل. باختصار, نحن هنا أمام قيـاس منطقي بحت, يتشابه في تكوينه وغايته مع قول المتنبي:

وما أنا منهم بالعيش فيهم

ولكن معدن الذهب الرغام

أو قوله:

فإن تفق الأنام وأنتم منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

قد يلاحظ القارئ المتمعن وجود بعض التشبيهات من هذا النوع في شعر حافظ أو صبري أو عبدالمطلب, ولكنها لا تتعدى في ديوان أي واحد منهم عدد أصابع اليد الواحدة. أما عند شوقي والبارودي, فهي تكثر كثرة واضحة, وإن كانت النسبة العددية لهذا النوع عند البارودي أعلى مما هي عليه عند شوقي, ولا يعني ذلك أن البارودي كان أكثرهم عقلانية وجدلاً في جوانب شعره التقليدية, بل يعني أنهم سواسية في طريقة المعالجة الفنية والتعامل مع القارئ, وإن اختلفوا فيما بينهم في النوع البلاغي الذي يتكئ عليه كل منهم في عملية الإقناع.

 

جابر عصفور