سبيل للصغار

سبيل للصغار

عندما عدت من عملي عصرا ودخلت الشارع شعرت بأن شيئا ما قد حدث. كان الصمت واضحا. الأولاد الذين اعتادوا اللعب والصياح اختفوا تماما وخلت عتبات البيوت من النسوة اللائي اعتدن الجلوس أمامها الأمر الذي جعل الشارع يبدو أكثر اتساعا. تقدمت وأنا ألاحظ حركة غير عادية أمام المنزل المجاور لمسكني, وعندما عبرته رأيت أن الباب مفتوح على الناحيتين وبعض الأغراب يقفون في الحوش من الداخل. صعدت السلالم في طريقي إلى الشقة وأنا أفكر بأن السيدة العجوز التي اعتادت الجلوس في الشمس لابد أن الله قد توفاها. ضغطت الجرس وما إن فتحت لي زوجتي حتى سألتها من باب التأكد وهي قالت إنه:

(الولد احمد, ابن نورا).

كنت أعرف نورا لأن بلكونتها تجاور بلكونتنا ولا يفصل بين بيتينا إلا المنور الصغير المشترك. ولأن صوتها العالي وهي تتشاجر مع زوجها أو عيالها أو تنادي: (يا أحمد) كان حاضرا معنا في الشقة سواء بالليل أو بالنهار, كما كنت أصادفها وهي تجلس على الباب أو تشتري شيئا من الباعة الذين يمرون بالشارع وأرى كيف أنها تبدو في جلبابها الأبيض بزهوره الدقيقة الزرقاء دائما, بدينة مثل هضبة صغيرة السن فوقها وجه مدور وعينان باسمتان. أما الولد فإنني رغم معرفتي باسمه الذي كان يتردد سواء على لسان أمه أو الأولاد الذين ينادون عليه من الشارع, وصوته وهو يرد عليهم أو يسبهم من البلكونة العالية أو يسير بينهم وهو يحمل طائرة ورقية ملونة في ضعف حجمه. لم أتمكن أبدا من تذكر أن ينتبه الواحد لملامح الناس الذين يعيش بينهم حتى يجنب نفسه مثل هذا الضيق. ولما سألتها عن عمره قالت إنه لا يزيد عن السنوات العشر كنت قد خلعت ثيابي عندما سألتها مرة أخرى عن شكله. وهي توقفت في الطرقة المؤدية إلى المطبخ وسألتني عما أقصد. قلت:

(أقصد الولد)
(ماله?)
(شكله إيه?)
قالت في استنكار:
(الله?! الولد أحمد, ابن نورا)

قلت:
(غريبة)
وأخبرتها أنني غير قادر على تذكر ملامحه. وهي علقت بأنه عيل مثل كل العيال.
(كان عيان?)
وهي ردت في اقتضاب إنه وقع من السطح:
(كان بيلعب بالطيارة)

وراحت تسب الطائرات ومن اخترعها وهي تضع أمامي طبق الملوخية والباذنجان المخلل والرغيف الذي سخنته على البوتاجاز ووضعته في الكيس البلاستيك حتى يحتفظ بحرارته ويظل طريا. وقلت:

(لازم أعزي والده).

وهي قالت إن الرجال كانوا يحملونه لأنه لم يستطع الوقوف على قدميه وأن الشارع كله قدر موقفه مع أنه مدمن بانجو عندما قال للضابط إن الولد وقع من بلكونة بيتهم حتى لا يتسبب في مشكلة لأم محسن. لم أفهم أبدا معنى هذا الكلام الذي كانت تقوله بطريقتها التي اعتادت أن تصيبني بضيق الخلق. ولكنني استطعت أن ألم كلامها على بعضه وأفهم منه أن الولد كان يلعب بالطائرة على سطح الست أم محسن في أول الشارع عندما تراجع بظهره ووقع في حوش البيت. وما إن اتضحت الصورة في ذهني حتى قلت لها:

(طيب ما تقولي كده من الأول)
قالت إن الشارع كله جرى إلى بيت أم محسن وأن نورا:
(قعدت على الأرض وهو في حجرها)
(ليه?)
(أصلها عرفته من لون الجلابية)
(وإيه اللي قعدها?)
(الله. مش بتسألنا تعمل إيه)
(أنا قايم أنام)
و(الأكل?)
(أما أقوم)
قالت:
(على العموم العيش برد ونشف)

في المساء نظرت من البلكونة ولم أجد أحدا يجلس للعزاء أمام الباب. ارتديت ثيابي واتجهت إلى المقهى لكي أعزي والد الولد وجده. كان المقهى صغيرا ولا يوجد إلا عدد قليل من الزبائن. لم أجد جده ولكني وجدت والده يحمل الكراسي وارجلها إلى أعلى ويذهب بها مسرعا إلى هذه الناحية ثم يعود بكراسي أخرى ليضعها في الناحية الأخرى. كان شابا عندما انتبه لوجودي بدا عليه أنه لا يعرف إن كنت أتيت لأعزيه أم أنني أتيت كزبون. تقدمت منه وشددت على يديه وربت على كتفه وانصرفت. بعد ذلك رأيت مجموعة كبيرة من الأولاد يحفرون حفرة عميقة في الناحية اليمنى من مدخل بيت الولد أحمد ويغرسون ماسورة قوية بها مجموعة من الأسياخ الغليظة التي امتدت مثل الأغصان تنتهي كل منها بحلقة وضع فيها كل ولد قلة من الفخار الأحمر يقطر منها الماء, وكانت الشجرة الحديدية مطلية كلها باللون البرتقالي المضاد للصـدأ. وفي الليل كنت انتبه فجـأة على صـوت نورا وهي تصيح بكل قوتها:

(أحمد). لم تكن تنطقها في حزن أو في صيغة النداء, ولكنها كانت تصيح بها كأنها تجيب على أحد يسألها عن اسمه. أما في النهار فإنني كنت أرى الأولاد يأتون من هنا أو هناك. يغادر الواحد منهم بيته ويتجه إلى الشجرة الحديدية يتناول قلة يشرب منها وهو يتطلع إلى البلكـونة العالـية ويعود إلى بيته.

 

إبراهيم أصلان