بستان النخيل

بستان النخيل

قصة: دينيس جونسون ديفيز

دينيس جونسون ديفيز البريطاني المولود في كندا والذي عاش طفولته في إفريقيا ومعظم عمره في العالم العربي - خاصة مصر, قال عنه المفكر إدوارد سعيد (إنه رائد ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الإنجليزية), وهذا ليس إلا جزءاً من عالم دينيس جونسون الواسع, فهذا الرجل الذي يعبر الآن الثمانين من العمر بذهن شديد الصفاء وروح مسلم طيب, يترجم تصوّفه إلى سلوك إنساني زاهد ومتناء في زهده, لم تكن ترجمته لنماذج عدة من الأدب العربي ومشاركته في ترجمة ثلاثة أجزاء كبيرة من الأحاديث النبوية وكتاب عن الطعام للغزالي وتأليف مجموعات عدة من قصص الأطفال المستندة إلى الرؤية الإسلامية والمعطيات العربية ككتاب (جزيرة الحيوانات)... لم يكن ذلك كله إلا انعكاساً لبعض من روحه التي يستكمل الإشارة إلى بعضها الآخر عبر المجموعة القصصية التي صدرت له بالإنجليزية في لندن عن دار (كوارتت) تحت عنوان (مصير سجين). وهذه المجموعة - المأخوذة منها هذه القصة - ذات الانسياب السردي الهادئ والدراما غير المولعة بالصخب والحبكات الناعمة الذكية, إنما ترسم صورة لعالم مجهول لدينا برغم قربه المدهش منا, فنحن نعرف أن الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية عندما غربت عنها الشمس, تركت عالم المستعمرات ممزق الأوصال على خرائط مزروعة بالألغام ومنذورة للحروب الأهلية والحدودية وآلام الشعوب. أما الذي لا نعرفه وتقودنا هذه القصص إلى معرفته, فهو ذلك العالم الداخلي لفئة من أبناء الإمبراطورية الآفلة نفسها, قادتهم قلوبهم وأحاسيسهم إلى الجانب الآخر المجروح بسكين هذه الإمبراطورية, فلم يختاروا الحياة فقط على هذه الأرض المجروحة, بل عشقوها وحلموا بالذوبان بين أهلها. لكن نصيبهم من إرث الإمبراطورية الراحلة, كان خرائط أخـرى ملتبسة في دواخلهم, معذّبة بالحيرة بين عالمين ومثقلة بالشجن, وهو عند دينيس جونسون شجن عذب وموجع في آن **

توقفت الحمير الثلاثة خارج البوابة المزدوجة ذات الحليات المعدنية. كان الوقت في بداية الأصيل, وظلال الحمير وركابها تميل بزاوية نحو السور الطيني العالي الذي كان يطوق النخيل من ناحية, في حين كان النيل يحده من الناحية المقابلة.

كان الشخص الذي في الوسط, ولدا طويلا نحيفا اسمه جعفر, يلبس جلبابا منشى ناصع البياض وعمامة كبيرة من اللون نفسه لاحت متأرجحة فوق جبينه الأبنوسي وملامحه الجميلة, صفق بيديه ونادى بصوت عال. التفت إلى رفيقه الأصغر سنّاً, وكان ولداً أبيض يركب عن يمينه, وتبادلا بعض الكلمات, في حين كان يتم سحب المزلاج وفتح جناحي البوابة, تسابق الولدان وهما يتدافعان إلى الداخل.

كان الولد الأبيض, وهو أول من دخل إلى عالم الحديقة الظليل, يلبس بنطالاً قصيراً كاكي اللون وسترة كاكية اللون بها جيوب منتفخة, كان يحمي رأسه من حرارة الصيف السوداني الشديدة بقبعة واسعة من اللباد المزدوج, العضو الأخير من ثلاثي الأولاد, واسمه شاكر, كان خادم الولد الأبيض, كان يلبس جلبابا لونه أزرق باهت وطاقية, وكان حافي القدمين, كان وجهه يحمل تقطيبة قلقة, مصدرها - ولاشك - مسئوليات العناية بسلامة ابن مفتش المديرية المحلي.

صرخ الولد الأبيض والـذي كان اسمه الحقيقي دايفيد والذي كان جعفر يناديـه باسم داود: (أنا الكسبان).

صحح له جعفر قائلاً: (حمارك هو الذي كسب, فحمارك هذا أقرب إلى الحصان) - وانفجر الأولاد الثلاثة يقهقهون.

كان بستان النخيل, الذي يقع بين النيل والصحراء المحيطة, يبعد أكثر من الميل بقليل عن البلدة الممتدة حيث كان صاحبها, الشيخ عثمان عبدالغفار, يمتلك متجراً, كان كبير صائغي الفضة في البلدة, وينحدر من إحدى العائلات الكبيرة في كردفان, في حين جاءت زوجته, فاطمة, وكان جعفر آخر أبنائها, من الكبابيش, وهم من مربّي الماشية, وجلبت معها ثروة كبيرة ونفوذاً واسعاً, كان السائحون الذين يزورون البلدة قادمين من الحدود المصرية بالباخرة نادراً ما يرحلون دون أن يشتروا تذكاراً من متجر الشيخ عثمان, حتى لو كان منفضة سجائر من الفضة في وسطها عملة معدنية قديمة من زمن المهدي. رغم أن أي شخص غريب قد يتصوّر أنه ليس سوى صاحب متجر يبيع الفضيات ومجموعة ضئيلة من الساعات, إلا أن الشيخ عثمان كان في الواقع واحداً من كبار التجّار في المنطقة. كان منخرطاً في التجارة المربحة لنقل الماشية والجمال سيراً على الأقدام إلى مصر, وأحياناً حتى القاهرة نفسها, كذلك كان يشتري أغلب محصول البلح في المقاطعة ويبيعه إلى تجار الخرطوم. وكان يشاع أنه يشارك في عمليات التجارة غير المشروعة للآثار الفرعونية التي يتم التنقيب عنها بغرض السرقة من المقابر في أعالي النهر. بشكل عام كان رجلاً يحسب له حساب, وكان سعيداً أن ابنه جعفر على صداقة مع ابن مفتش المقاطعة الشاب, فهذا كان يمنحه صيتا إضافياً.

الفارق في درجة الحرارة بين خارج بستان النخيل وداخله كان شاسعاً جداً. حتى أن الراكبين أحسّوا للحظات برعشة برد وهم يجتازون خبباً الطرقات الطينية الممتدة على جانب قنوات المياه الملتمعة تحت الشمس.

وكان الحمام الرقيق يتحرك بين سعف النخيل العالي ويطلق هديله الناعم المخدر. بالنسبة للولد الإنجليزي كان ذلك مكاناً لا أفق له, حيث كانت هناك دائماً أشياء جديدة يمكن اكتشافها, وقنوات مياه يمكن تعقّبها, وجاموسات مغماة العيون يمكن مشاهدتها وهي تدور دون كلل حول السواقي. كان عالماً من السحر, وكان صديقه جعفر هو الذي يمتلك مفتاح هذا العالم.

ترجّل الأولاد الثلاثة بجانب إحدى السواقي المتوقفة. قام شاكر, بعد أن كنس مساحة من الأرض بسعف نخيل جاف, يمد ملاءة, أخرج الولد الإنجليزي ست بيضات صغيرة مسلوقة ملفوفة في منديل, كذلك علبة عصير مشمش وفتاحة, في حين فك جعفر صُرّة صغيرة وكشف عن عدة قطع من الكفتة كانت والدته قد أعدتها وبعض الأرغفة, بعد أن أكلوا وشرع شاكر في غسيل الأطباق المعدنية, قام الولد الإنجليزي بتقسيم قطع الحلوى التي أحضرها معه بينه وبين جعفر, ولكن جعفر أصرّ على أن يأخذ شاكر نصيباً مماثلاً لهما, ووافق الولد الإنجليزي على مضض. ثم قام جعفر ليغسل يديه في المياه الجارية التي كانت تمر بجانبهم وشاهده الولد الإنجليزي وهو يغترف المياه ليملأ بها فمه ثم يقوم ببصقها مرة أخرى, فقلده, بعد ذلك انتقل الولدان إلى مكان منبسط خلف الساقية حيث كانا قد وضعا بعض التماثيل الطينية لتجف في الشمس والتي كانا قد قاما بتشكيلها في آخر مرة جاءا فيها إلى الحديقة.

كانت هناك تماثيل لحمير وجمال وكذلك إبريق مياه وحلة طبيخ مصفرّة كلها, كان هناك أيضاً تمثالان لشكلين بشريين اختلف جعفر والولد الإنجليزي حول البروزات (المعيبة) فيهما.

حطّم الولد الإنجليزي التماثيل المختلفة برفسها بقدمه وقال لجعفر: (سنعمل أشكالاً أخرى في المرة القادمة).

ودع كل منهما الآخر, واتفقا على اللقاء في اليوم التالي بالسوق, ثم ركب الولد الإنجليزي وخادمه تجاه البيوت الصغيرة التي اصطفت على ضفة النيل مباشرة, في حين عاد جعفر إلى منزل الأسرة الذي كان يضم متجر أبيه.

أخذ الولد الإنجليزي حماماً, وكان يجلس لابساً الروب ويتناول عشاءه. كانت والدته تجلس بجواره وتقرأ له, وكانت كلما أدارت صفحة كانت تريه الصورة التي بجانب النص. كان الكتاب قد قُرأ للولد عدة مرات, وكان يحفظه تقريباً عن ظهر قلب. لذلك لم يبد اهتماماً كثيراً بما تقوله والدته, ولكن كان يستمتع بوجودها معه وهو يأكل. ثم دخل والده وعلى وجهه نظرة جادة دون أن يقول شيئاً, ولكنه أشار لوالدته بأن تخرج من الغرفة معه.

قالت له عندما عادت: (دايفيد, يبدو أن شيئاً حدث لجعفر), اتجهت ناحيته وأخذت في احتضانه وتقبيله, قالت له: إن حادثة وقعت بسبب انفجار المصباح وإمساك النيران بملابس جعفر.

سأل الولد: (هل يمكنني الذهاب لرؤيته?).

هزّت رأسها وقالت: إن جعفر مات. كان الولد في حيرة وارتباك حول كيفية الاستجابة لهذا النبأ. عندما رأى عينيها تدمعان انفجر في البكاء.

هدّأت من روعه وأدخلته في الفراش وارتاحت عندما نام مباشرة بعد يومه الطويل. في الصباح, سأل عن جعفر وقالت له والدته إنه, إذا أحبّ, يمكنه الذهاب إلى الشيخ عثمان ليعبّر له عن حزنه لوفاة جعفر.

قالت له: (سيكون في منزله), وانطلق مع شاكر, عندما وصل إلى منزل الشيخ عثمان شعر بالقلق, وتمنى لو أنه لم يجئ أصلاً, ترجّل ونظر عبر غرفة الاستقبال الطويلة حيث شهد والد جعفر يتلقى العزاء من كبار رجال البلدة. فكر في الرحيل, ولكن خادمه جاء واصطحبه إلى غرفة استقبال أصغر, وقف هناك لعدة دقائق وهو ينظر إلى الكراسي المطلية باللون الذهبي المرصوصة حول الغرفة قبل أن يدخل والد جعفر. رحّب الرجل العجوز به وأمسك يده بين كلتا يديه, كان الولد يعرف أنه يجب أن يقول شيئاً للشيخ عثمان.

لو كان جعفر هناك لكان سأله.

سأل بارتباك: (هل يمكنني رؤيته?).

جلس الرجل العجوز وأحاط الولد بذراعه.

أوضح الشيخ عثمان: (دفن مساء أمس), وأحسّ الولد بدموع الرجل العجوز وهي تتعلق بلحيته البيضاء الخفيفة وبالبلل على خده, كان أول مرة يشاهد فيها شخصاً بالغاً يبكي. تذكر الولد تلك المرة, منذ عدة أسابيع, عندما لدغ عقرب قطته ووجد جثتها في الفيراندا. وضعها هو ووالدته في علبة أحذية ودفنها في الحديقة.

فكّر في جعفر, وعن معنى أن يُدفن في الأرض, وفكّر أيضاً في أنه لن يذهب مرة أخرى إلى بستان الشيخ عثمان.

 

نادية رفعت