إحسان عباس شاعراً
إحسان عباس شاعراً
إحسان عباس شاعرا!؟ خبر متأخر جداً، فقد عرفناه ناقداً وأديباً ومحققاً ومترجماً، وهذه المعرفة واضحة لكل من له إلمام بالمكتبة العربية، فعشرات الكتب القيمة التي توالت في الظهور منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وإلى نهاياته تؤكد لنا وجهة الرجل، أما أن يظهر له ديوان شعر بعنوان (أزهار برية) في منتصف عام 1999م فهذه هي المفاجأة التي فاجأت الكثير من قرائه، وحتى بعض من كان على صلة أكيدة بأدب إحسان عباس ومؤلفاته. الأعجب من ذلك أن هذا الشعر كتب في فترة زمنية قديمة، أي في مطلع شبابه فمن عام 1940م - 1948م هي الفترة التي كتب بها هذا الشعر، ثماني سنوات فقط هي المساحة الزمنية لهذا الشعر، وهذه المدة تمثل عادة باكورة لأي شاعر مبتدئ. ولكن ما الأسباب التي تقف وراء إخفاء هذا الشعر طوال هذه المدة التي تصل إلى نحو واحد وخمسين عاماً، أكثر من نصف قرن من الزمان والشاعر يكتم شعره، لا يظهره في صحيفة أو مجلة، بل لا يلقيه في مجالسه وأمام زملائه ومعارفه كما يقول: «ولم أنشر من هذا الشعر شيئاً في الصحف والمجلات، ولم أقرأ منه إلا القليل لبعض الأفراد أو لجمهور من الناس، وربما كانت أسباب ذلك ذات صلة بخجل مستحكم لدي من أن أستغل وقت الآخرين وأفرض عليهم الاستماع إلى مواجدي وشئوني العاطفية، كما كنت أخشى المجاملة الاجتماعية، وأمقتها لدى الآخرين عند استماعهم لشعر غيري. وكنت شديد الحساسية تجاه ما ألحظه من اعتداد بالنفس لدى الشعراء في المناسبات العامة، وأنفر منه بشدة، ومن مواقف تلحق بالغرور أحياناً أو تتجاوزه غلواً في التقدير الذاتي، وكانت هذه المشاعر تصدني عن طلب الظهور والانقياد لداعي الشهرة». ولكن هل الخجل وعدم حب الظهور هما سببان كافيان؟ أم هناك أسباب أخرى؟ فهل تعود هذه الأسباب لضعف هذا الشعر؟ أم لعدم رضاء الناقد القدير عن شعر لا يوازي الأشعار التي يقرؤها أو ينقدها؟ أو أنه يمثل مرحلة لم تعد تليق بمكانة الأديب الكبير؟ وإذا كان ذلك كذلك، فما الدافع الذي دفعه لإظهار ما خفي، وإشهار ما طوي؟ أهو اقتناع متأخر؟ أم كانت نتيجة إلحاح وتأثير من بعض الإخوان والأصدقاء؟! أما الضعف وعدم الرضا فذلك لا يتضح لكل من له أدنى بصيرة بالشعر، بل على العكس فإن هذه البواكير تؤكد على رصانة ورؤية وقدرة لو قدر لها الاستمرار لأثمرت ثمراً طيباً. فشعره يمثل ويلتقي مع الشعر الذي كان سائدا في تلك الفترة، حيث كان الشعراء يتغنون بالطبيعة، ويصوغون أفكارهم وفق رؤية رومانسية من خلال مظاهر الطبيعة، والنظر في بعض عنوانات قصائده يعطي هذا الانطباع، مثل: «في هيكل الأحزان، إلى كيوبيد، ابن الطبيعة، رماد ثورة، عمر الزنبقة، حجر الفلاسفة، إلى الطين، حديث الأمواج، وهذا ما يمثله شعر إحسان عباس، ولنأخذ مثالاً على ذلك قصيدته (شقائق النعمان) حيث يقول: يا فرحتا هذا رشاش دمي استوى في الحقل زهرا أما كونه يمثل مرحلة غير لائقة أدبياً أو اجتماعياً أو ذوقيا، فليس في هذا الشعر ما يثبت ذلك، ففنياً وموضوعياً تسير قصائد الديوان في إطار من القبول الفني والاجتماعي، بل إن الشاعر نفسه يرى ذلك كما يقول: «وقد يتساءل القارئ: لماذا ينشر هذا الشعر بعد مضي كل هذه السنين؟ وأقول مجيباً إنه لم يمر بي وقت اعتقدت فيه أن هذا الشعر أدنى مستوى مما نشره أكثر أبناء جيلي من الشعراء، وأن مرور الزمن نفسه لم يشككني في صلاحيته للنشر أبداً، وأن الذين اطلعوا عليه ممن أومن أنهم يتمتعون بقدرة نقدية عالية، وأخص منهم بالذكر صديقي الحميم الأستاذ الدكتور إبراهيم السعافين، وأخي وصديقي بكر عباس كلا الناقدين رأى في هذا الشعر حلقة متميزة من حلقات الشعر الفلسطيني». ونجده يأسى لعدم ظهور شعره، كما في هذا القول: يا حسرتا أأظلُّ أمضغ في دجى النسيان شعري فهذا التساؤل المرير يوحي بالأسى والألم لعدم ظهور هذا الشعر في وقته. العودة للطفولة والمتأمل في شعر إحسان عباس يجده ينطلق في اتجاهات الريف والمرأة والعودة للطفولة، وينزع في شعره إلى شيء من الوطنية والأسرة، والنقد الاجتماعي، ويبدو تأثير التراث العربي والشعر الرعوي الإنجليزي واضحاً في العديد من قصائده. وإذا كانت الطفولة قد حازت نصف سيرته النثرية، فإنّ شعر الطبيعة أو الشعر الرعوي، كما يحب أن يسميه ينال النصيب نفسه في ديوانه، ويكاد يغلب عليه، فمن أول قصيدة «بين الرعاة، إلى الراعي الصغير تنتقل في عدد من القصائد التي تحمل هذه العنونة، مثل: «إلى الراعية»، و«صوت الراعي»، و«تغير الرعاة»، و«عدو الرعاة»، و«من كرم الرعاة»، و«حنين إلى الرعاة»، و«رثاء أخي الراعي»، و«غيبة الراعي»، و«في مجلس الرعاة»، فهم نشيده الذي لا يفتر: نشيد الرعاة وصفصافة وسيصرف كل نشيد لهم دون سواهم: رعاتي سأصرف عن غيركم ويكاد شعره يقطر عذوبة في هذا الوصف الذي ينتمي إلى الغزل الواله في الريف الفلسطيني فقريته والكرمل والطنطورة، والجرمق، والبحر والشاطئ والأمواج، والربيع ونيسان وزهوره، والقمر والنجوم تملأ عليه نفسه وشعره، ولعل قصيدته في قريته تبين عن هذا العشق كما يظهر من هذه الصور الرفيفة في قوله: من ديري النائي وراء الجرمق وتبقى علامتان تشعان في شعر إحسان عباس: أما العلامة الأولى فهي رؤيته لوطنه وهو يسلب، ومحبته لهذا الوطن، ويظهر ذلك في قصيدته «إلى فلسطين وابن البيئة، وقصائد الاغتراب، كما يبدو ذلك في قوله: كل دمع بت لا أسكبه والشاعر يكاد يرى ما حدث لوطنه، وكأن نبوءته هذه بسقوط الوطن من خلال سقوط غرناطة لون من استشفاف المستقبل، فالقصيدة قبل احتلال وطنه بفترة، وقبل احتلال الأقصى بسنين طويلة تصل إلى أكثر من اثنين وعشرين عاماً، يقول: وطني أنت أنت غرناطة الأمــ مسحات الحزن والنفور والرمزية والعلامة الثانية هي الروحية الإسلامية والشوق إلى أم القرى، في قصيدته (عرس النور في أم القرى، وفي ليلة الإسراء، ومن وحي الهجرة). وتعلو هذا الشعر مسحات ثلاث تغلب عليه: مسحة الحزن التي تجلل الكثير من صوره، وتتغلغل في ثناياه ولاتكاد تفارقه في الواقع والذكرى، في الحب والكره، والألم والشكوى، ومسحة النفرة من المرأة وعدم الإيمان بالحب، ومسحة الإيحاء أو الرمز الشفيف الذي لا يغلف بالغموض الكثيف. ومنابع المسحة الأولى متعددة فالشعور بالحزن والبؤس والحرمان والفقر هي المحاور المعتمدة، ولعل إيراد بعض الشواهديكفي دون تعليق، وتأمل في هذه الشواهد: كم دمعة للبائسين تعثّرت بظلال فقري والفقر هو الموت بعينه كما يرى: أمن وصمة الفقر هذا الذهول ويصور الفقر معادياًِ له يلقي في وجهه التراب: حثا الفقر في وجهي التراب فليتني أما المسحة الثانية فهي النفرة من المرأة التي يرى فيها: اذهبي اذهبي لقد فضح الليل وهو وإن أحسن ظنه بالنساء فإنهن: وأحسنت ظني بالنساء فلم أجد هذا الموقف من المرأة يبدو أنه يعود في بعض أسبابه إلى شعور الشاعر بالفقر والبؤس، وهذا يظهر من قوله: إن كان أبعدك الغنى وأذلني أو مرد ذلك لثقافة ثقفها وعمل بها دون الوقوع في تجارب حقيقية، ونستنتج ذلك من صياغته قصيدة على غرار مقطعة لشاعر أندلسي هو الغزال، ذلك الشاعر الذي يرى في المرأة سرجاً لكل راكب: يا راجيا ود الغواني ضلة فيعارضها إحسان عباس قائلا: تؤرقني فيك الهواجس كلما أما المسحة الثالثة، فهي مسحة الإيحاء أو الرمزية الشفافة التي تنم من خلال غلالة رقيقة، فيظهر ما يريد الشاعر محاولة إخفائه، ولعل الكثير من شعراء أوانه نحوا هذا المنحى، لكن شاعرنا لم يتخذ ذلك مسلكاً في شعره، وإنما هي كما ذكرنا مسحة خفيفة، تظهر في بعض قصائده. وقبل أن نختم جولتنا في رحاب محراب هذا العابد نقول: إن إحسان عباس قد عمّر الذاكرة العربية بروائع ماضيها، وأضاء ليلها بمصابيح تحقيقاته، وأماط النسيان من طريقها، وشحذ همتها للعبور للمستقبل، وبذل ما وسعه في دفعها للأمام، وظلّ يرعى جنباتها بالعلم والمعرفة، ويزرع حدائقها بشجر الأصالة، حتى أصبحت لغة الضاد الشوق المزروع في الأحداث، والتمثال المنحوت من قلوب العشاق، والأغنية التي نتلذذ بترديدها, لقد تأتّى لهذا العلم الفرد أن يرفرف مع لغتنا في ماضيها وحاضرها تراثاً ومعاصرة على سارية واحدة. ولكن لا بد مما ليس منه بد، فالفارس الذي ظلّ ملتحماً بسرج جواده يترجل، يغمض جفنيه، يتخلّى عن سيفه ورمحه، تسقط عصاه، وينكسر قلمه، فتنتثر الحروف بكاءً، والكتب نحيباً، بعد أن ظلّ يمتشق قلمه لأكثر من ستين عاماً. فإذا خمد هذا الجسد الذي آن له أن يرتاح بعد طول مصاولة، فإن النار التي سرقها - على ما توحي به الأسطورة الإغريقية - والتي استعارتها تلميذته وزميلته الدكتورة وداد القاضي في كتابها المجموع عنه (من الذي سرق النار) أقول ستظل هذه النار المعرفة تضيء لنا طريق إحسان عباس.
|