موت الخلية المبرمج.. علاج جديد للأمراض المستعصية

موت الخلية المبرمج.. علاج جديد للأمراض المستعصية

الموت والخلق وقود الحركة الدائبة والحياة النابضة للكائن الحي. حيوية جسم الكائن الحي تعني موت الملايين من الخلايا وإنتاج خلايا أخرى. إن حركة الموت والخلق في الجسم مسيرة للانبعاث والتجدد ونبض للنمو والحركة. فالموت والحياة مظهران من مظاهر الديمومة والبقاء.

ويتجلى التلازم بين الحياة والموت مشرقاً خلاباً في جسم الكائن الحي في ملحمة دائبة من الموت والحياة آية من آيات الإبداع في الخلق ومظهر من مظاهر الدقة والنظام الذي تجلى باهراً للعقول في ما عرف عند العلماء في العقد المنـصرم بـ (موت الخلية المبرمج (Programmed Cell Death) وهذا شكل من الموت الفلسجي (الطبيعي) أو انتحار الخلية تحت إشراف مورثات متخصصة تراقب موت الخلية عبر سيناريوهات متشابكة.

وقد ألف العلم الحديث الإدمان على تعقيد مصطلحاته باشتقاقها من لغة الإغريق القديمة, وجرياً على العادة فقد اشتق مرادفاً لموت الخلية المبرمج باسم الـ (Apoptosis) ويعني باللغة الإغريقية تساقط الزهور أو أوراق الشجر.

مراحل الموت

وبدراسة مقـارنة دؤوبة في الإنسـان وجد أن موت الخلية المبرمج يطوي ثلاث مراحل حيـوية لتـحقق مصداقيـته من القوة إلى الفعل.

والمرحلة الأولى هي التفعيل أو الاستثارة والتي تعني أن لموت الخلية المبرمج مستقبلات تعمل عمل المستقبل لملايين الإشارات ولها مستقبلات تحملها الخلايا لتمر من خلالها نذر الموت وللمستقبلات أسماء معقدة وأما المرحلة الثانية فهي التطبيقية أو الأدائية يتحكم في هذه المرحلة التي فيها يتخذ القرار المحدد لمصير الخلية مورثات تتوزع على فريقين متضادين. فريق يشمل مورثات الموت وفريق يضم مورثات الحياة أو المضادة للموت.

وبضرب من الغموض الذي يتعذر على العلماء هتك ستره تتناغم هذه المورثات المضادة وتتعايش في تحديد مصير الخلية, والحديث عن أسماء هذه المورثات هو حديث الطلاسم والألغاز فمورثات الموت في الإنسان على سبيل المثال هي مثيل (Cell Death Ubnorman (Ced4), (Ced3) )والمكتشفة في الدورة الاسطوانية السالفة الذكر (P35) ضروري لموت الخلايا السرطانية ومورثات الحياة ( BCL-x و BCL-2).

تعمل مورثات الموت على مراقبة إنتاج جملة من الأنزيمات التي تعمل بشكل غير مباشر على إنتاج سلسلة من المركبات المدمرة لمركبات الخلية الحيوية وخصوصا مادتها الوراثية (DNA).

إن انكفاء الميزان من الحياة إلى الموت أو ذهاب إشارة الموت أدراج الرياح أمر يثير الكثير من البحث والتقصي. إن مرور إشارة الموت من جدار الخلية إلى أعماقها ليس كافيا لدخول الخلية مرحلة الانتحار, بل كما يقول أحد العلماء وجود مركب يتمتع بالدور المركزي ضروري لتحديد مصير الإشارة المستقبلة. إلا أن رحلة الموت أو استمرار الحياة تتحدد من خلال جملة من الظواهر والعلامات. أهم علامة لرحلة الموت دون عودة هي ظهور فجوات في جدران المايتو كاندريا (Mitochondaria). أما الإشارات المبطلة لإشارة الموت والمفعلة لمورثات الحياة هو تفاعل بعض الخلايا كالملفاوية مع بعض الإفرازات المناعية كالأنترلوكين ـ 2 والأنترلوكين ـ 15.

وهكذا في جو يلفه الغموض والعتمة تلعب المورثات الحيوية لعبتها هذه في محاولة من كل منها تسجيل هدف على الآخر قد يكون باهظا يعادل حياة الخلية وديمومتها وربما يكون جميلاً حلواً يضمن البقاء والديمومة لها. وليس بالضرورة أن تكون الحياة للخلية شيئا جميلاً. فكما نرى بعد سطور يغدو الموت للخلية السرطانية أو الخلية التي تتخذها الفيروسات وكراً تعبيراً عن الجمال والحيوية.

وفي ظل هذه المعادلة الحيوية بين الموت والحياة يتضح جلياً أن قرار الموت والحياة يتخذ بعد مرور الإشارة في دهاليز وقنوات تستبطنها الخلية إمعانا في التثبت من صحتها أو سقمها. لو كانت الإشارة الطائشة التي ترسلها مستقبلات الخلية إلى أعماقها كافية لتحديد مصيرها لانهار الجسم على عروشه.

المرحلة الثالثة: الدمار والتفكك:

حالما تترجم الإشارات إلى إشارة الموت تدخل الخلية رحلتها النهائية التي تبدأ بانحلال مركبها الوراثي إلى قطع ومن ثم انهيار النواة. وتتشرنق الخلية على نفسها ومن ثم تنحل إلى قطع صغيرة تتلاقفها الخلايا الملتهمة التي هي بمنزلة الطيور الجارحة الباحثة عن فريستها.

وانحلال الخلية على هذه الهيئة هو حماية الجسم من سلسلة الالتهابات التي قد تدخل الجسم حالة من الفوضى والدمار. فانكماش الخلية على محتوياتها يعني الحيطة والحذر للإثارة غير المرغوبة لجهاز المناعة. أما تحولها إلى قطع صغيرة فلسهولة التهامها وإخلائها من محيط الأنسجة.

وقاية الذات

يطلق على جهاز المناعة مجازاً جهاز تمييز الذات عن غير الذات إشارة إلى قدرته الفائقة على تمييز ما يخص الجسم من أنسجة وإفرازات فسيولوجية وغيرها عن ما هو دخيل عليه من الخارج.

ولأبحاث موت الخلية المبرمج الفضل الكبير في إكمال الجانب الكبير من اللوحة الزيتية لهذه الظاهرة. حالما تفرز الخلايا اللمفاوية من نخاع العظم (Bone marrow) ينتقل جزء منها خلال قنوات من الطرق المعبدة والتي تعرف بـ (Iymphocyte Traffic) إلى الغدة الصعثرية (Thymus) حيث المعاهد العلمية المناعية التي تتكفل بتربية وإعداد الخلايا اللمفاوية لمهمة التمييز بين الذات والضد. وفي هذه الغدة العجيبة تربى الخلايا على الانتماء لهوية الذات والولاء لها كي تكون ذاتية الانتماء تعمل من أجل حماية الذات ووقايتها من الدخلاء الأجانب والتخلص من الخلايا ذات الولاء المتأرجح بين الذات والضد. وبدقة متناهية, فصولها لم تتضح كاملة بعد تقوم خلايا الغدد الصعثرية بالتفاعل مع جميع النزلاء الجدد من الخلايا اللمفاوية للسماح للخلايا ذاتية الولاء بالتكامل والتطور ومن ثم التخرج إلى ميادين الخدمة. ويطلق على ظاهرة التخلص من الخلايا التي لم يتضح ولاؤها أو يشوبه الخلط بين الذات والضد بظاهرة الـ (Clonal Deletion) من خلال استشارة موت الخلية المبرمج فيها.

في هذه الصورة الرائعة من صور التناغم والتكامل يعبر الجسم عن تماسك هويته وتمظهرها بالوحدة ليرسم درسا معبرا وبليغا بهذه الظاهرة الفسلجية الحيوية التي تشير إلى أن الهوية الحية المتكاملة لابد أن تستند إلى العناصر المتنوعة والمتناغمة والمتفاعلة في وظائفها وجوهرها.

كاتم صوت

موت الخلية المبرمج سلاح فتاك وفاعل توظفه المناعة الخلوية للقضاء على الخلايا السرطانية والمصابة بالفيروسات والجراثيم والأوليات (Protozoa). تمتلك الخليتان, خلية (ت) اللمفاوية القاتلة (T-Cytotoxic Lymphocyte) والخلية القاتلة الطبيعية قدرة على تشخيص الخلايا السرطانية والخلايا المصابة بالفيروسات والمصابة ببعض الجراثيم وغيرها وتدميرها بحقنها بمركب يثير فيها نظام موت الخلية المبرمج. ويعتبر مركب الجرانزايم (Granzyme) من المركبات القاتلة التي تفرزها هاتان الخليتان للقضاء على الخلية المستهدفة بإثارة موت الخلية المبرمج. ما إن تلتحم الخلية المناعية بالخلية المستهدفة حتى يحقن الجرانزايم في الخلية عبر قناة تفتحها الخلية اللمفاوية باستخدام مركب كيميائي يعرف بـ البيرفورين (Perforin) ويعمل الجرانزايم المحقون بإثارة سلسلة من التفاعلات التي لم تتضح طبيعتها بعد للانتهاء بـ بتقطع المادة الوراثية للخلية الـ (DNA) ومن ثم دخول الخلية مرحلة التدمير الذاتي بالتفكك.

وهكذا بهدوء وأناة تمشط الخلايا اللمفاوية أنسجة الجسم للقضاء على الخلايا المصابة دونما إثارة ضجة أو بلبلة. سلاح فيه للمتأني العبر في فعالية العمل الهاديء الذي يضمن جني النتائج وتحقيق الأهداف المنشودة.

ترياق للأمراض

بتقدم الدراسات العلمية لمعرفة المزيد من أسرار موت الخلية المبرمج وإزاحة الستار عن الكثير من طرق ودروب هذه الظاهرة أصبح ممكنا للعلماء التوصل إلى ابتكار الكثير من العقاقير والمركبات التي بإمكانها إثارة موت الخلية المبرمج أو منعه من الحدوث. حيث جربت هذه العقاقير وتم تتبع أثرها في بعض الأمراض المستعصية كالسرطان والحساسية وأمراض المناعة الذاتية وغيرها.

ما تقوم به هذه العقاقير بكل بساطة هو إثارة مورثات الموت في الخلايا السرطانية أو الخلايا المتراكمة في بعض الأمراض أو تنشيط مورثات الحياة في الخلايا التي يضمن بقاؤها وحيويتها الصحة والشفاء وقد تم اختيار الكثير من هذه العقاقير المثيرة أو المثبطة لموت الخلية المبرمج كعلاج لكثير من الأمراض المستعصية على المستوى المخبري والسريري. ويمكن استعراض تأثير هذه العقاقير في علاج الأمراض التالية:

أولا ـ الأمراض السرطانية:

بجانب قدرتها على التكيف في تظليل جهاز المناعة تستطيع الخلايا السرطانية سرعة تطوير قدرتها لمقاومة العقاقير المستخدمة في علاج السرطان. وقد وجد العلماء ضالتهم في موت الخلية المبرمج للخروج من هذا المأزق في علاج أمراض السرطان المستفحلة والمتزايدة بالرغم من تقدم الطب وتحسن أدائه. وقد جذب موت الخلية المبرمج الكثير من الباحثين والعديد من شركات الأدوية لتطوير عقاقير تعتمد في علاجها موت الخلية المبرمج وعدم وضوح تأثير هذه العقاقير.

ونظراً لطول الطريق وشقة البحث في هذا المجال فقد أجري الجزء الأعظم من التجارب للعقاقير المنتجة على حيوانات التجارب أو على خلايا السرطان في أنابيب الاختبار وجزء يسير منها على مرضى السرطان. وما يمكن ذكره هنا غيض من فيض إذ لا سعة ولا شأن لهذا المقال أن ينشغل بتفاصيل هذه البحوث بالغة التعقيد التي تتجاوز اهتمام القاريء الكريم. لقد تم اختبار جملة من العقاقير التي من شأنها إثارة موت الخلية المبرمج في خلايا السرطان وذلك بإسكات مورثات الحياة فيها أو إثارة سلسلة من التفاعلات الحيوية التي تؤدي إلى إثارة مورثات الموت في هذه الخلايا أو الدمج بين الاثنين. وقد جربت هذه العقاقير على سرطان المثانة مثلا وذلك باستخدام عقار السيزبلاتين.

ثانيا ـ أمراض الحساسية:

يعتبر الربو (Asthma) من أكثر أمراض الحساسية انتشارا في العالم ومن أكثرها إزعاجاً. وبالرغم من الأبحاث المستفيضة في هذا المجال لم يستطع العلماء الوصول لعلاج فاعل وناجح لهذا المرض. ولكن يجد الباحثون والدارسون إطلالات جديدة في التغلب على هذا المرض من خلال موت الخلية المبرمج.

يتميز الربو بتراكم أعداد كبيرة من خلايا اليوزينيات (الحمضات) (Eosionphils) وخلايا ـ ت اللمفاوية في الرئتين وما يتبع ذلك من إفرازها المستمر لكثير من العوامل والمركبات التي تؤدي إلى تفاقم المرض ومضاعفته.

وقد أثبتت الدراسات الأولية تأثيرها المشجع في القضاء على خلايا اليوزينيات الذي يؤدي بدوره إلى تخفيف حالة الربو ومن ثم الشفاء منه. والأبحاث على قدم وساق, وقد يكون المستقبل القريب حافلاً بعقاقير تأتي بالشفاء العاجل والدائم للربو.

ثالثا ـ موت الخلية المبرمج والأمراض الفيروسية:

تسبب الفيروسات الكثير من الأمراض الفتاكة مع قدرة البعض منها على إنتاج السرطان. وقد لوحظ قدرة الفيروسات على تطوير جملة من الإستراتيجيات التي تكفل لها إطالة حياة الخلية للتكاثر فيها, وقد اكتشف العلماء المهتمون بموت الخلية المبرمج جملة من المورثات الفيروسية النظيرة لمورثات الخلية المسئولة عن إطالة الحياة ومنع موت الخلية المبكر.

وعبر تفعيل هذه المورثات تضمن الفيروسات تعطيل موت الخلية المبرمج في الخلايا التي تصيبها والمفترض وقوعه حال دخولها لهذه الخلايا. وعبر تفعيل القنوات التي تثير موت الخلية المبرمج, يأمل العلماء الوصول إلى طرق علاجية جديدة في القضاء على قدرة الفيروسات للبقاء والتكاثر في أنسجة الجسم.

 

أحمد اللويمي

 
 




الخلية المتأذية (قبل السرطانية)





كروموزمات موجودة في نواة الخلايا الحية