الكوليرا لم تلق السلاح بعد عبدالغني عبدالحميد
منذ شهرين وقبل أن يبدأ الموسم التقليدي للكوليرا - في ذروة الصيف - أعلنت البرازيل أن الوباء صار متوطنا لديها. وليست البرازيل وحيدة في هذا المضمار، وليست الكوليرا هي الوباء الوحيد الذي يعود للإطلال برأسه بعد غيبة، وفي أماكن لم تكن مرتعًا له. حتى أن التدرن الرئوي ظهر من جديد في الولايات المتحدة، وهي على ما هي عليه من قوة وتقدم علمي. مفارقات تدعونا إلى فتح صفحات كنا طويناها.. لنستذكر.
في الأساطير اليونانية كان هرقل كلما هشم رأسا من رءوس الأفعى "هيدرا" نما مكانه رأسان، وفي الوقت الذي يعتقد فيه الإنسان أنه قضى على الأمراض الوبائية تخرج له الوبائيات سبعة ألسن.
تسابق الزمن وتطوي المسافات
في 31 يناير سنة 1991 بدأت رسميا متاعب بيرو مع الكوليرا عندما استوثق من الحالات الأولى في المدن الساحلية، ثم أستشرت الكوليرا كالنار في الهشيم، تسابق الزمن ورحلت مسافة 1200 ميل على طول ساحل بيرو في أسبوعين. وفي شهر واحد أصيب بالعدوى 70 ألف نسمة. حملت الكوليرا عصا الترحال متتبعة الساحل الباسيفيكي شمالا وجنوبًا حتى وصلت الأكوادور في 28 فبراير، وكولومبيا في 8 مارس، وشيلي في 16 أبريل، وفي 22 أبريل وجدت الكوليرا طريقها إلى داخل البرازيل، أما بيرو كبش الفداء والمحمولة على وطيس جنون الوباء ففيها 270 ألف حالة، أي 84% من الحالات المكتشفة في أمريكا الجنوبية. وعندها راحت السكرة وجاءت الفكرة، فالمرض ليس مجرد إسهال يأتي في أوقات غير ملائمة، فالتناقض الظاهري بين التأثير الأول للإسهال وعواقبه الوخيمة يجعل المصاب في حل من البحث عن العلاج السريع كما يقول المثل العربي القديم "انج سعد فقد هلك سعيد" فكثرة الضحايا تعلمنا الحذر والتحرك السريع واحترام قدرات العدو، لكن هل لابد من رأس الذئب الطائر؟ أليس درهم وقاية خيراً من قنطار علاج؟ وهنا يبرز شعار "اعرف عدوك".
إن أمراض الإسهال تقتل كل عام أكثر مما يقتل الإيدز والأورام الخبيثة، يموت كل عام أكثر من النصف من جميع الحالات غير المعالجة من الكوليرا، وذلك بسبب تأثيرات الاسهال وعواقبه الوخيمة، فإخراج السوائل من الجسم يرتفع إلى جالونين في اليوم، وفي بعض الحالات يرتفع إلى خمسة جالونات، وفي خلال أسبوع يستطيع المصاب بالكوليرا إخراج المعادل لكل وزن الجسم في صورة سائل عن طريق الإسهال، ثم تأتي الضربات القاضية: الجفاف - انخفاض ضغط الدم - الغيبوبة - احمضاض الدم - فشل الدورة الدموية - الفشل الكلوي، وهذا يحدث عادة خلال أيام قليلة، لكنه أحيانًا خلال ساعتين أو ثلاث من الوقت الذي ظهرت فيه الأعراض أول مرة، والكوليرا - من بين جميع الأمراض المعدية - واحدة من أسرع القواتل المعروفة. خلال يوم واحد طالت الكوليرا ثلاثين ألف نسمة في مصر سنة 1831، وفي الفترة من يونيه وحتى نهاية سبتمبر من العام نفسه طالت مائة ألف نسمة في هنغاريا، وفي صيف 1849 قتلت عشرة في المائة من سكان سانت لويس.
وليست الكوليرا هي مرض الإسهال الوحيد - لكنها بلا شك مرض الإسهال النشيط - هناك أنواع كثيرة تصنع واحدة من المخاطر الصحية الكبرى، كما تصنع بقعة سوداء على جبين العصر والعلم.
وباء على جناح التقدم
في أوائل القرن التاسع عشر ونتيجة التقدم السريع في وسائل الانتقال بالسكك الحديدية والسفن التجارية خرجت الكوليرا من مكمنها في شبه القارة الهندية حيث كانت تحصد مئات الآلاف سنويا لترى الدنيا وتسافر بحرًا وبرًا وهي لا تحتاج جوازًا للسفر الذي لا تدفع نفقاته ولا نفقات الإقامة، وهكذا عسكرت الكوليرا في دوريات وبائية مدمرة أولاها بدأ سنة 1817، لكن هذه النوبات الهجومية اكتسبت حدة جديدة منذ سنة 1961 (بداية الوباء السابع) لكن الكوليرا وقد اجتاحها جنون الترحال شدت الرحال إلى العالم الجديد، ليس بالطبع للتعرف على معالمه السياحية، فبعد ثوران الكوليرا حديثًا في بيرو - وهو الأول في القرن العشرين الذي يصل إلى العالم الجديد - دفع ذلك بالمرض نحو دائرة الضوء وزرع بالمخاوف من ان يقيم إقامة دائمة في أمريكا.
القديم والجديد علميا
قبل النهضة العلمية وتطور وسائل البحث تنوعت التفسيرات عن سبب الكوليرا حسب ثقافة المنطقة الموبوءة وعاداتها الاجتماعية، لكن بلاشك أن أول تفكير علمي عن سبب الكوليرا تم على يد الطبيب جون سنو. ففي حي سوهو في لندن توفي مئات بسبب الكوليرا في الوقت الذي افتقد فيه سكان معظم المنازل مياه الأنابيب واستعاض السكان عنها بمياه الينابيع المنتشرة في لندن، وبتفقد أماكن الموت بالكوليرا في حي سوهو، أدرك الطبيب جون سنو أنها تحدث بالقرب من نبع شارع بروود المعروف بمذاق مائه العذب والمشهور بنقائه، وكانت هناك حالات وفاة قليلة بالقرب من 11 نبعًا آخر بالجوار، لكن التفاصيل قطعت الشك باليقين، فهاهم سبعة رجال يعيشون خارج سوهو، لكنهم يعملون فتي رقمي 8 و9 بروود ستريت وشربوا من ماء النبع ماتوا جميعًا واثنان عاشا في المبني نفسه لم يشربا من مائه فلم يصبهما ضرر. سبعون رجلاً يعملون في المنطقة نفسها لكنهم لم يشربوا من ماء النبع لم يحدث لهم شيء وأرملة تعيسة الحظ تعيش على بعد أميال في هامبستيد لكنها تعشق ماء بروود ستريت وتأمر بإحضار زجاجة منه يوميًا شربت منها ليلة الخميس فماتت يوم السبت. وفي 7 سبتمبر أقنع سنو السلطات المحلية أن تزيل مقبض مضخة بروود ستريت، وهكذا قضي على الفتنة في ريعانها. في مصر والهند بعد ثلاثين عامًا من حادثة بروود ستريت نظر البكتريولوجي الكبير الألماني روبرت كوخ خلال مجهره في العينات المأخوذة من رفات الموتى المصابين بالكوليرا في مصر والهند حتى تعرف على البكتريا التي تشبه "الضمة" والمعروفة الآن باسم بكتريا الكوليرا الواوية. هذه البكتريا التي تخرج من ضحاياها في جالونات السائل الإسهالي وتحت ظروف عدم النظافة حيث مياه الصرف الصحي تلوث مياه الشرب والطعام - والتي يعاني منها معظم الناس - يستفحل الميكروب ويزيد عدد الضحايا. لم يؤخذ اكتشاف روبرت كوخ العظيم مأخذ الجد من كل العلماء، فقد أخذه بعضهم مأخذ الهزل، مثال ذلك نظير روبرت كوخ ومثيله في السن ونده في الفكر ماكس فون بتنكوفر الذي لم يؤمن أن البكتريا التي اكتشفها كوخ هي المسببة لمرض الكوليرا، وطلب زجاجة من البكتريا كافية لتسميم فرقة عسكرية كاملة، وسوف يتقدم ليشربها - في صحة روبرت كوخ - ولأنه ظل على قيد الحياة ولم يمسسه سوء أرسل برقية الابتهاج والانتصار لروبرت كوخ: "الهر الدكتور بتنكوفر يرسل تحياته إلى الهر الأستاذ الدكتور روبرت كوخ ويشكره على تلك القارورة المحتوية على ما يسمى بالكوليرا الواوية التي تعطف سيادته وأرسلها". هر دكتور بتنكوفر شرب محتوياتها بالكامل وهو سعيد أنه قادر على أن يعلم الهر الأستاذ الدكتور روبرت كوخ أنه يتمتع بكامل صحته العادية الجيدة، اعتقد بتنكوفر أنه بهذا العمل - البطولي وربما الجنوني - قد دحض نظرية كوخ في أن تلك البكتريا هي المسببة للكوليرا، لكن كوخ أشار إلى توضيح يبدو ملائًما، وهو أن إفرازات المعدة قادرة على قتل معظم البكتريا المتناولة بالفم، ويكفي هذا لحماية معظم الناس ضد العدوى، ومما يدعم نظرية كوخ أن المرضى الذين أصيبوا بالكوليرا خلال الوبائيات يميلون إلى أن يكونوا من أولئك الذين عندهم معدل إفراز الحامض المعدي أقل من العادي.
تجربة على السجناء
النقطة نفسها برهنت بالتجربة في دراسة تمت في سجن ماريلاند منذ عقدين مضيا من الزمن - قبل اتخاذ القوانين التي تشترط تحديدات أكثر لإجراء تلك التجارب - أعطي فيها المتطوعون من المساجين جرعات من بكتريا الكوليرا ليتناولوها. ومثلما يحدث في المريض المصاب طبيعيا، فالذين تطورت عندهم الكوليرا هم أصحاب معدلات الحامض المنخفضة في المعدة. وعندما أعطيت البيكربونات لتعادل حامض المعدة كانت جرعات صغيرة جدًا كافية لتصيب المساجين بالمرض. هل تلقي البكتريا المسببة للكوليرا السلاح وتعلن الاستسلام - بلا قيد ولا شرط - بعد أن تم عزلها - معمليا - على يد العلامة روبرت كوخ ومعرفة كنهها وأنها لا تنتمي للقوى الشريرة الغيبية كما كان يعتقد في السابق، أم أن في الجعبة المزيد؟ وماذا في غرارة الساحر؟.
وفي سنة 1905. ظهر نوع جديد من بكتريا الكوليرا بين الحجاج المسلمين الذين ماتوا في معسكر الحجر الصحي في جبل الطور، وهذا النوع أكثر فعالية ونجاحًا من الكوليرا الكلاسيكية، فهو يستطيع أن يعيش بصورة أحسن خارج الجسم البشري ويبقى مدة أطول في جسم المريض. وأما من يحمل المرض وينقله ولا يصاب به فكثيرون، وهؤلاء هم الجنود المجهولون يعملون في صمت وبلا ضوضاء أو جلبة على نقل المرض في أوسع دائرة ممكنة.
سوائل المواجهة
إن ميكروب الكوليرا يبذل قصارى جهده، فهل نقف مكتوفي الأيدي والعقول؟ حالما تأتي هجمة البكتريا الشرسة فعلى الطبيب أن يصف المضاد الحيوي ليحد منها فقط لأنه لا يعمل بالسرعة الكافية لحماية المرضى ضد خطر الموت من الإسهال الحاد خلال الساعات القلائل الأولى، لكن خط الدفاع الطبي الأولى في المعركة هو العمل على موازنة السوائل المفقودة من المريض وذلك يجعل المريض يشرب في الأقل أحجامًا متساوية من السوائل المحتوية على الصوديوم والكلوريد والبوتاسيوم واللكتات (اللبنيات) وكذلك السكر فالسكر يحث الأمعاء على امتصاص الماء وما يحتويه من الصوديوم والكلوريد، أما لو كان الإسهال ضخمًا والمريض في خطر الموت فيعطى محلول ملح معقما بالوريد ليعالج الجفاف بالسرعة المطلوبة ونتيجة لهذا العلاج "الفموي أو الوريدي" السريع الذي يستبدل ما ضاع من سوائل، تم تقليل نسبة الوفيات بسبب الكوليرا من 50% إلى 1% أو أقل في أمريكا الجنوبية العام الماضي، لكن لا يمكن أن نأخذ تلك النتائج كقضية مسلمة، ففي المدة الزمنية نفسها تقريبا مات في أحد الأوبئة في إفريقيا 9%، فإخراج السوائل من الجسم يزداد إلى عدة جالونات يوميا فيحدث الجفاف الذي يقتل ملايين سنويًا، ومعظم ضحاياه من العالم الثالث، حيث يوجد في الأقل أربعة ملايين رضيع وطفل تحت سن خمس سنوات مصاب بسوء التغذية يموت من الإسهال الذي يشكل أكثر من ربع أسباب وفيات الأطفال في هذا العمر.
نوائب وفوائد
عواقب الإسهال - بأشكاله العديدة - واضحة الخطورة، ولهذا فالإسهال يستحق دراسة علمية جادة ليس فقط لأنه من مهددات الصحة لدول العالم الثالث، لكن أيضًا لأنه يمثل مجالاً للبحث العقلي الفاتن - لدول العالم الأول - وخصوصًا من وجهة النظر الفسيولوجية والتطور، فلأجسامنا خطوطها الدفاعية الطبيعية ولحظة العدوى بالكوليرا تنشأ في المرضى الذين عاشوا أجساما مضادة تجعل الإصابة مرة ثانية بعيدة الوقوع، وهناك وسائل دفاعية ضد الأمراض المعدية بجانب الأجسام المضادة التي تنشأ فقط عند التعرض للمرض منها ما يتعلق بالوراثة كمثال لذلك المورث أو الجين الذي يحمل هيموجلوبين الخلية المنجلية يحمي الأفارقة السود من مرض الملاريا ومورث مرض تاي - ساكس ربما يحمي يهود أوربا الشرقية من السل، فهذا المورث يحمل النعمة والنقمة في الوقت ذاته، فلو ورث هذا المورث من كلا الوالدين يسبب مرضا قاتلا وهو أنيميا الخلية المنجلية أو مرض تاي ساكس، فهنا يحمل النقمة، بينما لو وُرث هذا المورث من أحد الأبوين يحمل النعمة والحماية من الملاريا والسل.
وربما توفر المورثات الحماية للحالات التي تتعرض للأوبئة ولا تصاب بها. فالمورثات التي تؤثر في معدل إفراز الحامض المعدي تحمل الخطر في تعريضنا لقرح المعدة التي عادة لا تكون قاتلة ولا تأتي قبيل منتصف العمر، ومن استقراء التاريخ البشري فمعظم الرجال يموتون قبل بلوغ منتصف العمر بطريقة أو بأخرى، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، وفي المقابل وحتى في القرن العشرين فإن عدوى الإسهال من بين أهم أسباب الوفيات خاصة بالنسبة للأطفال، فالقرح الناشئة من زيادة إفراز الحامض المعدي، ربها كانت الثمن الذي يجب أن يدفعه البعض منا كمقابل للحماية الحامضية ضد العدوى البكتيرية المؤكدة في الطفولة.
وفي مرض التليف الحوصلي يبطل المورث مفتاح التحكم في إفراز الكلوريد في الرئتين والبنكرياس، ونتيجة لذلك يخرج الكلوريد أقل وكذلك الماء ويتكون عضو مخاطي كثيف ومعرقل، وهذا يفسر كيف أن معظم ضحايا التليف الحوصلي يتوفون قبل البلوغ، لكن الرعاية الطبية الحديثة قللت من حالات الوفاة، لكن عرف حديثًا أن قطع الاتصال في إفراز الكلوريد ليس فقط في الرئتين والبنكرياس، لكنه يحدث أيضا في الأمعاء، ونجد أن السموم المسببة للإسهال - بصفة خاصة - والتي تعمل مثل الكوليرا لا تستطيع أن تمارس دورها في الأمعاء المصابة بالتليف الحوصلي. وعلى هذا فالمرضى المصابون بالتليف الحوصلي يعتقد أن عندهم مناعة ضد أمراض الإسهال التي تعمل بتلك الطريقة، أما من يحمل مرض التليف الحوصلي وهم مائة حامل للمرض مقابل كل مريض بالتليف الحوصلي فيفقدون السوائل بصورة أقل من الآخرين في أثناء وبائيات الإسهال.
ثم ماذا؟
وماذا بعد؟ أعتقد أنه بعد أن أطلت الكوليرا من كهوف التاريخ بوجهها القبيح متحدية سافرة بل ومتطورة لتناسب العصر، فلابد لنا من وقفة مع العلم لنضع النقاط على الحروف، وكذلك علامات الإعراب لنميز الخبيث من الطيب والغث من السمين، ونعمل على أن يكون العلم في صالح البشرية على طول الخط وليس على خط وخط. وحتى لا يفسد العلم بعد الظهر ما أصلحه في الصباح، وحتى لا ننفق على أبحاث الترفيه أضعاف ما يمكن أن يزرع بسمة على شفاه العالم الثالث، الذي أرجو ألا يكون المقصود به: العالم الآخر في شقه الجحيمي فقط.