اللغة حياة.. أثر النيّة والسياق في معنى الصيغة الصرفيّة

اللغة حياة.. أثر النيّة والسياق في معنى الصيغة الصرفيّة

بيّنا في المقالة السابقة أنّ معاني «استفعل» تكاد تكون مفتوحة، وكلّما قلّبتَ العبارات التي استعملتها العرب فيها وجدت معاني جديدة لم يلحظها اللغويّون؛ وممّا لحظناه مثلاً معنى الدوام أو الثبات، كما في فعل استقرّ الذي مِزْنا معناه من معنى قرَّ، وفي فعل استجاع، أي طال به الجوع حتى لا يراه الرائي إلاّ جائعاً.

وثمّة قضية هامّة لم يلتفت إليها اللغويّون، في هذا الصدد، وهي أنّ معنى الصيغة اللغويّة يخضع لنية المستعمل في التعدية واللزوم وفي استخدام حروف المعاني الجارّة، مثلاً، التي يفرض استعمالها وتبديلها وغيابها معاني مختلفة، تبلغ أحياناً حدّ التضادّ. أي أنّ صيغة «استفعل»، التي نحن يصددها، لا تفرض معاني صرفيّة بنفسها، بل تفرض ما يقتضيه السياق التعبيريّ. وقد سقنا أمثلة على التعدية واللزوم، في المقالة السابقة، ونعرض هنا أمثلة لأثر حروف الجرّ. فصيغة استعانَهُ، مثلاًَ، غير صيغة استعان به، خلافاً لما هو شائع؛ فالأولى تعني: طلب منه العون، وتعني الثانية: جعله عَوناً له؛ واستخفّه غير استخفّ به؛ فمعنى استخفّه، كما هو معروف، وجده خفيفاً (معنى الحُكم)، في نحو قولنا: استخفّ فلانٌ الحِمْل؛ أو معناه: جعله خفيفاً (التصيير أو التحويل)، وذلك في نحو قولنا: استخفّه الطربُ؛ على حين أنّ معنى استخفّ به هو استهان به؛ فحرف الجرّ (الباء) ذهب بالمعنى إلى حيّز آخر، إذ أُشربت الخِفّة معنى مختلفاً، هو معنى المهانة والهزء، وفِعلا هذين، أي استهان واستهزأ، يقتضيان باء الجرّ. فالتضمين قد أدّى إلى تجاوز كلّ المعاني التي نعرفها لصيغة «استفعل»، وجعل للكلمة معنى لا يستقيم لمعنى صرفيّ متعارف.

وممّا يدلّ على التضادّ أو الاختلاف، بسبب نيّات المستعملين المتعدّدة، مثال فعل استأصل الذي عرضنا له في المقالة السابقة؛ فالذي ذهب إلى معنى الطلب، ولو مجازاً، أراد أنّه طلب أصل الشجرة أو النبات عامّة، أو ما أشبه النبات، وذلك لاقتلاعه؛ أمّا من ذهب إلى معنى الدوام أو الثبات، فقد محض فعل استأصل معنى: ثبت أصلُه. ومثل ذلك استبعد؛ فالذي أراد معنى الرؤية أو الحُكم جعل لهذا الفعل معنى اعتبار الشيء بعيداً؛ أمّا من رأى فيه طلب البعدِ أعطاه معنى فعل تباعد. ومن أراد معنى الرؤية أو الحكم جعل لفعل استجاد معنى: وجَدَهُ جيّداً؛ ومن أراد معنى الطلب جعل له معنى: طلبَ جودةَ الشيء. وأمثال ذلك كثيرة.

وتنشئ النيّة تصوّراً، ونمثّل لذلك بفعل استتلى؛ فهذا الفعل يقتضي تالياً ومتلوّاً؛ ومِن تصوّرِ الموقع الذي يكون فيه هذان يأتي معنى الفعل. فمثلاً، إذا أراد أحدهم أن يتبعه شخص قريب منه، اتخذّ فعل استتلى معنى الدعوة إلى التُلوّ، أو معنى جعل الشخص تالياً، فيقال: استتليتُه؛ وفي هذا يختلط معنى الطلب ومعنى الجَعْل الذي أشار إليه المجمع؛ أمّا إذا كان الشخص بعيداً، ارتدى فعلُ استتليتُه معنى انتظرتُه؛ بمعنى أنّ المتلوّ تمهّل في السير أو العمل، أو توقّف، ريثما يدركه التالي ويتبعه؛ وهذا يدخلنا في ما يمكن أن نسميه التصوّر المركّب، وهو لا يسمح بإعطاء أيّ دلالة خاصّة لـ«استفعل»، لأنّ الفعل المزيد ينتقل إلى معنى لا صلة له بالفعل الأصليّ المجرّد، أي ينتقل هنا إلى معنى الانتظار. فقد تصوّر المنشئ مرحلتين: مرحلة التباعد بين شخصين أو شيئين، ومرحلة استدراك هذا التباعد والسعي إلى الدخول في التُلوّ. لكن قد يشارك في العمل طرف ثالث غير التالي والمتلوّ هو من يسعى إلى إتلاء أحدهما للآخر، وحينئذ يكون ثمّة مفعولان، فيقال: استتلاكَ فلانٌ الشخصَ أو الشيءَ، أي جعلك تتلوه، أو دعاك إلى تُلوّه.

وممّا ينتقل فيه المعنى من الفعل الأصليّ إلى فعل تبعيّ أو مقدّر، إذا صحّ التعبير، فعل استثأر؛ فمعنى هذا الفعل ينبغي أن يدلّ على طلب الثأر فحسب، لكنّه دخل في دلالة تبعيّة هي الاستغاثة؛ بمعنى أنّ طالب الثأر لم يشأ أن يقوم به منفرداً، لسبب من الأسباب، بل أراد الاستعانة بغيره، وكان ذلك على صورة استغاثة؛ وقد غلب «معنى المعنى» هذا، حسب تعبير عبد القاهر الجرجانيّ، أو ما كان نتيجة للمعنى الأصليّ، على المعنى الأصليّ نفسه وكاد يلغيه. ومعنى انتظر في استتلى، واستغاث في استثأر، ممّا لا يمكن استنتاجه من خلال الدلالات الصرفيّة التي يمكن أن تعطى لصيغة «استفعل»، لاستحالة معرفة النيّات والتصوّرات المركّبة، وإدراك ما اختاره المنشئ من مئات الاحتمالات التي ترتبط بالعمل.

وممّا يصعب معرفة معناه ويقتضي الرجوع إلى الاستعمال، سواء بما اكتُسِب بالعادة أو استُنتج بالقرينة أو أُخذ من مصادر اللغة، ما يلتبس أصل الفعل فيه، أو تلتبس معانيه الأصليّة والفرعيّة؛ ومن ذلك فعل استجاش الذي لا ندري من أي معاني جذر «جيش» هو؟ أمِنْ معنى الجائشة (النفس)، أم معنى الجَيْش (جماعة الجُند)، أم غير ذلك ممّا شمله هذا الجذر؟ الواقع أنّ الجوهريّ لحظ معنىً واحداً لهذا الفعل، هو معنى: طلَبَ منه جيشاً، على حين أنّ الزمخشريّ لحظ معنيين هما: معنى الغليان، ومعنى طلب الجيش؛ واكتفى صاحب «اللسان»، بما يتّصل بالجيش فأكّد ما قاله الجوهريّ، وزاد معنى: أو طلب جيشاً وجَمَعه، واستشهد لذلك حديثاً منسوباً لعامِر بن فُهَيْرة يقول: «فاستجاشَ عليهم عامرُ بن الطفيل» - ولم نجده في كتب الحديث - واكتفى الزَبيديّ بقول الجوهريّ؛ والكلمة ليست في كتاب «العين» للخليل ولا في «أساس البلاغة» و«المُجمَل» لابن فارس ولا في «الجمهرة» لابن دريد؛ ولذلك يحقّ للمستعمل أن يرتاب في صحّتها، ولاسيّما أنّ ما نُسب لابن فُهيرة يوحي معنى: أغار عليهم بجيشه، أي أُشرب التجييش معنى الغارة بفضل السين والتاء. وهذا، وما تقدّم، يدلاّن على أنّ زيادة السين والتاء قد تستعمل للتضمين.

على أنّ من استعمالات «استفعل» ما يكاد يستحيل تأويله، مثل فعل استمرّ؛ فهل أصله من المرور أم المِرّة، أي القوّة، أم المَرارة؟ ذاك أمر حيّر مفسري القرآن الكريم فأوّلوا صفة «مستمِرّ»، بالذاهب، وبالمحكَم القويّ، وبالمُرّ، وبالنافذ، وبالباطل، وبالدائم، وبالمتشابه. وجعل المعجميّون للكلمة معاني شتى منها: الذهاب مطلقاً، والمضي على طريقة واحدة، والاستحكام، وصلاح الأمر بعد فساد. والمعنى المعروف اليوم هو دوام العمل أو الحال واتصاله؛ وإذا كان الاستفعال يفيد معنى الدوام، فإنّ ذلك الدوام يكون للفعل بمعناه الأصليّ هنا، وهو المرور، في ما نرجّح، ولا يكون مطلقاً لصيغة استفعل وحدها.

 

 

 

مصطفى الجوزو