جمال العربية.. بمثل هذه الموشحات.. نعالج الغناء العربي المعاصر

جمال العربية.. بمثل هذه الموشحات.. نعالج الغناء العربي المعاصر

تلتمع الموشحات الأندلسية في ديوان الشعر العربي كما تلتمع اللآلئ المصقولة، تستبي العيون والعقول، وتُشعّ نقاءً وصفاءً وبهاءً، ينطق بما لها من قيمة غالية، ومنزلة باقية بين غيرها من نفائس شعرنا العربي.

والتاريخ الأدبي يموج بكلام كثير عن نشأة الموشحات باعتبارها فنًّا شعريًا مغايرًا لما كان عليه نموذج القصيدة العربية المألوفة في مدينة قُبَّرَة التي تقع وسط جزيرة الأندلس بين قرطبة وغرناطة من جهة، وغرناطة وإشبيلية من ناحية أخرى. هذا القرب من غرناطة وإشبيلية مكّن في رأي الباحثين ومؤرخي الأدب لهذه الموشحات في فنون الغناء والموسيقى والشعر، فظهرت أول ما ظهرت على يد مقدم بن معافى القُبَّرَيّ وهو أحد شعراء الأمير عبدالله المرواني جدّ عبدالرحمن الناصر، وعن القبري انتقل هذا الفن إلى آخرين، وازدهر على أيدي شعراء أصحاب قامات شعرية سامية، من أمثال الأعمى التَّطيْلي، وابن بقّي، وابن باجة، وابن زهر، وابن سهل الإشبيلي، ولسان الدين بن الخطيب وابن زمرك وغيرهم. ثم انتقل هذا الفن الشعري الجديد من الأندلس وشمال إفريقيا إلى المشرق بواسطة المرتحلين إلى الحج، فتلقفه المصريون عن شعراء الأندلس والمغرب، يتقدمهم الوزير ابن سناء الملك الذي عني به وبدراسة أوزانه في كتابه «دار الطراز»، وأبدع فيه بالإضافة إلى ابن سناء الملك، ابن النبيه المصري وابن نباتة المصري والنصير الإدفوي وغيرهم.

وسرعان ما أصبح هذا الفن الوليد في بيئة أندلسية خالصة مصاحبًا لمجتمعات الغناء والموسيقى والرقص، يمثل ثورة كبرى على القصيدة التقليدية في الشعر العربي القديم، ومهادًا لثروة الموسيقى العربية عبر العصور، ومجالاً رحبًا لاختراع فن «الزجل» ونشأة أنواع متعددة من الأغاني الشعبية، بسبب شعبية الموشحات بين الناس وما يتجلى فيها من ألحان، كما يقرر الأستاذ الكبير مصطفى السقا في كتابه «المختار من الموشحات» الذي قام بتحقيقه المحقق الكبير الدكتور حسين نصار، وقامت بإعادة نشره حديثًا الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «الذخائر» التي يرأس تحريرها الدكتور عبدالحكيم راضي عاكفًا من خلالها على نشر نفائس التراث العربي من خلال تحقيق علمي، وحرص على حيوية المضمون المعرفي.

هي إذن فرصة سانحة لعرض لوحات من جمال العربية من خلال هذه الموشحات المختارة، التي نستهلها بهذه الموشحة لابن سهل الإشبيلي شاعر إشبيلية وسبْته ويقول فيها:

هل درى ظبي الحمى أنْ قد حمى
قلب صبٍّ حلَّه عن مكنْسِ
فهو في حرٍّ وخفْقٍ مثلما
لعبت ريحُ الصَّبا بالقَبسِ

-1-

يا بدورًا أَطلعتْ يوم النوّى
غُررًا تُسْلَكُ في نهج الغَررْ
ما لقلبي في الهوى ذنبٌ سوى
منكمو الحسْنُ ومن عيني النظر
أَجْتني اللذاتِ مكلوم الجوى
والتذاذي من حبيبي بالفِكَرْ

***

كُلّما أشكوه وجدًا بَسَما
كالرُّبى بالعارض المُنْبجسِ
إذ يقيم القطْرُ فيها مأتما
وهي من بهجتها في عُرُسِ

-2-

غالبٌ لي غالبٌ بالتؤدة
بأبي أفديه من جافٍ رقيقْ
ما رأينا مثل ثغرٍ نضّدهْ
أُقحوانا عُصرت منه رحيقْ
أخذت عيناه منه العربدَه
وفؤادي سُكرهُ ما إن يفيق

***

فاحمُ الجمَّةِ معسولُ اللَّمَى
أكحلُ اللحْظِ شهيُّ اللَّعسِ
وجههُ يتلو الضحى مُبتسما
وهو من إعراضهِ في عَبَسِ

-3-

أيها السائلُ عن ذُلّي لديْه
لي تجنّي الذنب وهو المُذنبُ
أخذت شمسُ الضحى من وجنتيْه
مَشرقًا للصبِّ فيه مُغربُ
ذهبت أدمعُ أجفاني عليهْ
وله خدٌّ بلحْظي مُذهبُ

***

يطلعُ البدر عليه كُلّما
لاحظتْهُ مقلتي في الخَلسِ
ليت شعري أيُّ شيءٍ حرَّما
ذلك الوردَ على المُغْترسِ

-4-

كُلّما أشكو إليه حُرَقي
غادرتْني مُقلتاهُ دَنِفا
تركت ألحاظهُ من رمقي
أثرَ النَّمْلِ على صُمِّ الصَّفا
وأنا أشكرهُ فيما بَقي
لستُ ألحاه على ما أَتلفا

***

فهو عندي عادلٌ إن ظلما
وعذولي نُطقهُ كالخرسِ
ليس لي في الحبِّ حُكمٌ بعدما
حلَّ من نفسي محلَّ النَّفسِ

-5-

منه للنار بأحشائي اضطرامْ
يلْتظى في كلِّ حينٍ ما يَشَا
وهي في خدَّيْه بَرْدٌ وسلامْ
وهي ضُرٌّ وحريقٌ في الحشا
أتقي منه على حكم الغرام
أسدَ القلبِ وأهواه رشا

***

قلتُ لمّا أن تبدَّى مُعْلَما
وهو من ألحاظهِ في حرسِ
أيها الآخذ قلبي مَغْنَما
اجعل الوصل مكان الخُمسِ

هذا الموشح أو هذه الموشحة نموذج فاتن ودالّ لقصيدة العصر الأندلسي المستحدثة، قصيدة الغناء والرقص والجسد، التي ولدت وتشكلت من خلال بيئة حضارية مغايرة للبيئة الصحراوية التي عاشت فيها القصيدة العربية قرونًا، ومن خلال تفاعل لغوي بين اللغة العربية، لغة الفاتحين الوافدين على إسبانيا واللغة الرومانثية السائدة، لغة أهل البلاد المتطورة عن اللاتينية القديمة. فجاء الموشح الأندلسي تعبيرًا عن ارتباط الفن الشعري لدى عديد من شعراء الأندلس والمغرب بالرقص والغناء وحركة الجسد، في الحدائق والميادين وفي شتى المناسبات الاحتفالية المختلفة، طقسًا أصيلاً من طقوس الحياة الاجتماعية والشعبية والرسمية، وبدأت في مثل هذا الجو الغنائي الراقص قناة جديدة من قنوات اتصال الشعر بالناس، وهو الجو الذي يصوره موشح لسان الدين بن الخطيب الذي ذاعت شهرته في مجالات الغناء والطرب تعبيرًا عن فضاء الحرية والرفاهية والانطلاق في المجتمع الأندلسي حين يقول:

جادك الغيثُ إذا الغيثُ همى
يا زمانَ الوصل بالأندلسِ
لم يكن وصلُكَ إلا حُلُما
في الكرى أو خُلْسةَ المختلسِ

-1-

إذ يقود الدهر أشتاتَ المنى
تنقلُ الخطْوَ على ما يرسمُ
زُمرًا بين فُرادى وثُنى
مثلما يدعو الوفودَ الموسمُ
والحيا قد جلَّل الروض سنا
فثغور الزهر منه تبسمُ

***

وروى النعمانُ عن ماءِ السَّما
كيف يروي مالكٌ عن أنسِ
فكساهُ الروضُ ثوبًا مُعلَما
يزدهي منه بأبهى ملبسِ

-2-

في ليالٍ كتمت سرَّ الهوى
بالدجى لولا شموس الغُررِ
مال نجم الكأس فيها وهوى
مستقيم السّيْرِِ سعدَ الأثرِ
وطرٌ ما فيه من عيْبٍ سوى
أنه مرَّ كلمْحِ البصرِ

***

حين لذّ الأنسُ شيئًا أو كما
هجم الصبح هجومَ الحرسِ
غارت الشُّهْبُ بنا، أو رُبّما
أثّرت فينا عيونُ النرجسِ

-3-

أيُّ شيءٍ لامرئٍ قد خَلَصا
فيكون الروض قد مُكّن فيه
تنهبُ الأزهار فيه الفُرَصا
أَمِنتْ من مكرهِ ما تتّقيه
فإذا الماء تناجَى والحصى
وخلا كلُّ خليلٍ بأخيه

***

تُبصر الورد غيورًا بَرِما
يكتسي من غيْظهِِ ما يكتسي
وترى الآسَ لبيبًا فهِما
يسرقُ السّمْعَ بأُذنيْ فَرسِ

-4-

يا أُهيْل الحيِّ من وادي الغضَى
وبقلبي سكنٌ أنتم بِه
ضاق عن وجدي بكم رحْبُ الفضَا
لا أُبالي شرقهُ من غرْبهِ
فأعيدوا عهد أُنسٍ قد مضى
تُعتقوا عانيكُمْ من كَرْبِه

***

واتقوا الله وأحيُوا مُغرما
يتلاشى نفَسًا في نفَسِ
حبسَ القلب عليكم كرَما
أفترضوْنَ عفاءَ الحبُسِ

-5-

وبقلبي منكمو مُقتربُ
بأحاديث المنى وهو بعيدْ
قمرٌ أطلع منه المغرِبُ
شِقْوةَ المُغْرىَ به وهو سعيد
قد تساوى محسنٌ أو مذنبُ
في هواهُ بين وعدٍ ووعيد

***

ساحر المُقلةِ معسول اللَّمى
جال في النفسِ مجالَ النَّفسِ
سدّد السهم وسمَّى ورمى
ففؤادي نهبةُ المفترسِ

-6-

إن يكن جار وخابَ الأملُ
وفؤاد الصبِّ بالشوقِ يذوب
فهو للنفسِ حبيبٌ أولُ
ليس في الحب لمحبوبٍ ذنوب
أمرهُ مُعتملٌ مُمتثلُ
في ضلوع قد براها وقلوبْ

***

حكّم اللَّحْظ بها فاحتكما
لم يراقب في ضعافِ الأنفُسِ
منْصفَ المظلومِ ممن ظلمَا
ومُجازي البرِّ منها والمُسي

-7-

ما لقلبي كلما هبّت صَبَا
عادهُ عيدٌ من الشوقِ جديد
كان في اللّوح له مُكتَتَبا
قوله إنّ عذابي لشديد
جلبَ الهمَّ له والوَصَبا
فهو للأشجان في جَهدٍ جهيدْ

***

لاعجٌ في أضلعي قد أُضرما
فهي نارٌ في هشيم اليَبسِ
لم يدعْ في مُهجتي إلا ذَمَا
كبقاء الصبحِ بعد الغَلَسِ

لقد جاءت الموشحات إضافة إلى رصيد ديوان الشعر العربي من الشعر الجميل ومن تجليات العربية: لغةَ تعبير وتصوير، وفيض موسيقى وإيقاع. وعندما نتأمل سوق الغناء من حولنا الآن، وما يتحكّم فيها من سوقية وهبوط وتدنٍّ وابتذال، في كثير مما تمجّه الآذان الصحيحة والأذواق السليمة، نجد الحاجة ماسّة إلى استحضار هذه النماذج الممثلة لجمال العربية في ديوان شعرنا العربي قديمه وحديثه. وما أولانا بأن نسارع إلى تراثنا من هذه الموشحات الجميلة البديعة، والمختار منها بوجه خاص، نطرد بها ما يشيع من غثاثة في كلمات الأغاني الآن، ونعيد بها إلى الغناء العربي جلاله وإشراقه وحيويته ونضارته، بعيدًا عن الإسفاف والابتذال. فبمثل هذه الموشحات البديعة يمكننا أن نبدأ صحوة غنائية وموسيقية ولحنية جديدة، تنقذ الغناء العربي وتنقذنا مما نحن فيه.

 

 

 

فاروق شوشة