لو نفذ البترول والفحم هل نشعل الماء؟ أحمد الناغي

منذ انفجار واشتعال منطاد هايدنبرج، الذي كان مملوءا بالهيدروجين عام 1937 وموت 35 من ركابه، والناس يفكرون في الهيدروجين كغاز خطر. لكن بعد مرور أكثر من نصف قرن يعود الهيدروجين ليكون أحد اقتراحات الطاقة البديلة، التي تشعل حماس العالم المتقدم الآن، وتطرح علينا أسئلة عديدة، ستواجهها "العربي" ابتداء من هذا العدد ولأعداد قادمة .. بحثا عن إحاطة، وطموحًا إلى إجابات.

إن توفير الطاقة بثمن رخيص يعد من أهم متطلبات الحياة العصرية ومقياسًا لمدى التقدم البشري. والطريق إلى ذلك لابد أن يأخذ في عين الاعتبار المحافظة على سلامة البيئة وعدم تعريضها للمزيد من الأذى ويكفي ما تراكم حتى الآن من آثار سلبية للاستخدام المتزايد للوقود الأحفوري (الفحم والبترول والغاز) بطريقة عشوائية غير رشيدة ولا مرشدة. ومن أمثلة الآثار السلبية هذه: ارتفاع متوسط درجة حرارة جو الأرض نتيجة لزيادة نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون أو ما يُعرف ب " تأثير المستنبت الزجاجي" (الصوبة) وسقوط "الأمطار الحمضية" الناتجة من ذوبان غاز ثاني أكسيد الكبريت في بخار الماء الموجود بجو الأرض وما تؤدي إليه من القضاء على الزرع والضرع، وكذلك حدوث "ثقب" في طبقة الأوزون من الغلاف الجوي المحيط بالأرض والتي تعمل على امتصاص الأشعة فوق البنفسجية وتنفذ القدر المقنن منها واللازم لسلامة الحياة على كوكب الأرض، وإذا زاد هذا القدر كما في حالة ثقب الأوزون فإن ذلك يضر بكائنات الأرض ويصيب الإنسان مثلا بأمراض العيون وسرطان الجلد. ولتقدير الضرر، وعلى سبيل المثال لا للحصر، فإن محطة حرارية تعمل بالفحم لتوليد الكهرباء قدرتها مليون كيلو واط تلقي في الجو سنويًا 6 ملايين طن من غاز ثاني أكسيد الكربون ويلزم لامتصاصه غابة من الأشجار الخضراء مساحتها حوالي 6000 كيلو متر مربع. وطبقًا لما أعلنته الهيئة الدولية للطاقة الذرية فإن مقدار الطاقة المستخدمة تجاريًا في عام 1985 م تقابل قدرة حرارية حوالي 10 مليارات كيلو واط وتؤدي لإلقاء21 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض.

طاقة نظيفة

إن ما ذكر يستدعي إجراء تحسينات جذرية في تقنيات الصناعة وبالدرجة الأولى فيما يتعلق بمصادر ونوعيات الوقود المستخدم. ويبدو أن المستقبل سيشهد تطورًا لمصادر الطاقة النظيفة التي يجب أن تتمتع بخاصتين مهمتين: رخصها وعدم إضرارها بالبيئة. وقد تعرضت الصحف والمجلات العربية لعديد منها من أمثال الطاقة الشمسية وطاقة الاندماج النووي ولكن نادرًا ما تناولت غاز الهيدروجين برغم مزاياه العديدة كمصدر للطاقة وفي هذا المقال نتناول هذا الموضوع بالعرض والتحليل مع التركيز على التجربة الأوربية في هذا المجال. حيث إن دول أوربا أسهمت بأكبر نصيب في تطوير تقنيات إنتاج غاز الهيدروجين واستخداماته على نطاق تجاري.

ومن المثير حقًا أن كاتب قصص الخيال العلمي الفرنسي جول فيرن قد أشار قبل قرن من الزمان لإمكان استخدام الهيدروجين كمصدر للطاقة بديلاً عن الفحم، فلم يكن البترول قد عرف بعد. كتب جول فيرن في قصة "الجزيرة الغامضة" : " وما الذي سيحرقه الناس حين ينفد الفحم؟ الماء؟ نعم، أعتقد أن الماء سيستخدم يومًا ما كوقود وأن الهيدروجين والأكسجين سيزوداننا بمعين لا ينضب من الحرارة والضوء".

فإذا كان للهيدروجين مثل هذه الخلفية التاريخية وإذا كانت وكالة الجماعات الأوربية قد رصدت الأموال الطائلة لأبحاث إنتاج واستخدام الهيدروجين، فما هي مزايا الهيدروجين كوقود للمستقبل؟

وقود للمستقبل

يحتوي الهيدروجين على أكبر قدر من الطاقة لوحدة الكتلة، فكيلو جرام واحد منه يعطي عند حرقه 142000 كيلو جول (الجول/ ثانية = واط) من الحرارة، بينما يعطي كيلو البنزين 47200 كيلو جول والديزل 45800 كيلو جول، أي أن الهيدروجين يعطي حوالي ثلاثة أمثال القيمة الحرارية لأي من البنزين أو الديزل.

ويمكن التعامل معه واستخدامه في أي من أطواره الثلاثة: فيمكن نقله على هيئة غاز مضغوط في خطوط أنابيب مثل تلك التي تستخدم لإمداد المنازل بالغاز، وفي صورة سائل يمكن تعبئته وخزنه في صهاريج أو نقله في اسطوانات. ولا يقتصر الأمر على الطورين الغازي والسائل بل يتعداهما إلى الطور الصلب. فالهيدروجين يتميز بقدرته الفائقة على الاتحاد بالمعادن (الفلزات) لتكوين هيدريد المعدن مع انطلاق كمية محدودة من الحرارة. وهيدريد المعدن يسهل أن ينحل بامتصاص قدر يسير من الحرارة، ليعود أدراجه إلى غاز الهيدروجين والمعدن..

هيدروجين + معدن = هيدريد المعدن + حرارة

وقد قامت حكومة ألمانيا الفيدرالية سنة 1973 برعاية أبحاث عن الوقود الهيدروجيني، وفي هذه التجارب استخدمت هيدريدات المعادن لخزن الهيدروجين اللازم لإدارة محرك سيارة من نوع ديملر - بنز Daimler - Benz وأحرزت التجارب نجاحًا لا بأس به ..

إن سهولة تخزين الهيدروجين لفترات طويلة تعطي حرية لاستخدامه طبقًا لرغباتنا ولا نضطر للتأقلم مع القيود التي يفرضها مصدر طاقة لا يمكن خزنه.

ومن أهم مميزات الهيدروجين أنه يتوافر بكثرة في الطبيعة فكل جزيء من الماء يحتوي على ذرتين من الهيدروجين وذرة واحدة من الأكسجين. ومن الجدير الإشارة إلى أننا لكي نستخلص الهيدروجين من الماء نحتاج لمصدر أولي للطاقة (كهربائية، حرارية، ضوئية) وعليه فإن الهيدروجين ليس مصدرًا أوليًا للطاقة، بل هو وسيط فقط، أي أننا نقوم بتحويل المصدر الأولي للطاقة إلى هيدروجين. وحين يحترق الهيدروجين يتحد مع الأكسجين معطيًا حرارة ومنتجًا ماء أي أنه يعود لسيرته الأولى، وبهذا تكاد تنعدم ثاره التلويثية.

مشكلة التقنية

إن ارتفاع درجة حرارة لهب الهيدروجين تجعله مناسبًا للاستخدام في الأغراض الصناعية مثل عمليات لحام المعادن وغيرها.

فإذا كان للهيدروجين كل هذه المزايا كوقود فلماذا لم يطرد البترول من مملكة الطاقة وينفرد هو بالمكانة السامية والدرجة الرفيعة متربعا على عرشها؟

والإجابة أن تقنيات الحصول على الهيدروجين - مثل الكثير من أنواع الوقود غير التقليدي - مازالت ذات كلفة عالية نسبيا وهناك حاجة ماسة لتطوير وإبداع في تقنيات إنتاج واستخدام الهيدروجين.

وبرغم تعدد طرق إنتاج الهيدروجين فإن طريقة التحليل الكهربائي للماء تلعب الدور الرئيسي من الناحية العملية، وأن التعويذة السحرية التي تفتح كنز الهيدروجين تتمثل في الارتفاع بكفاءة عملية التحليل الكهربائي للماء Electrolysis Of Water. ويحدث التحليل الكهربائي عندما يمر تيار كهربائي بين قطبين معدنيين خلال الماء فيتفكك إلى جزأين من الهيدروجين وجزء من الأكسجين. وتتناسب كمية الغازات المنطلقة (الأكسجين والهيدروجين) تناسبًا طرديًا مع كمية التيار الكهربائي المار بين القطبين. إن المحللات (أجهزة التحليل) Electrolysers التي أنتجت قبل عام 1986 لم تكن بالكفاءة التي تكفي لإنتاج كميات كبيرة من الهيدروجين بطريقة اقتصادية وكان ذلك سببًا أن تضع وكالة الجماعات الأوربية، قبل ذلك ببضع سنين، هدفاً عاجلاً هو تطوير تقنية جديدة لإنتاج محللات أكثر كفاءة. وتم التوصل لمحلل متفوق تستطيع أقطابه إمرار تيار كهربائي أشد عند فرق جهد أقل من ذي قبل. وهذا يعني أن الكهرباء زهيدة الثمن تعطي كلفة أقل للحصول على الهيدروجين من التحليل الكهربائي للماء. ومن بين الدول الأوربية فإن فرنسا وبلجيكا تعتبران مكانًا نموذجيًا لتنفيذ هذه التقنية الجديدة، لأنهما تنتجان الكثير من الكهرباء عن طريق المفاعلات النووية والقوى الهيدروليكية.

وبعد أزمة النفط عام 1973م قامت الوكالة الأوربية European Commission بتمويل أبحاث في مجال إنتاج واستخدام الهيدروجين وامتدت فترة البحث الأولى حتى عام 1983 م وتكلفت حوالي 16 مليون جنيه استرليني، وأجري البعض منها في مركز الأبحاث المشترك للوكالة في "اسبرا" Ispra بإيطاليا وأعطت النتائج رسالة واضحة: يستطيع الهيدروجين أن يلعب دورًا مهما في اقتصاديات الطاقة، مع قبوله من الناحية البيئية وإمكان استخدامه في النقل البري والجوي إلى جانب استقطابه كوقود لثلثي صناعة الأمونيا (المستخدمة في الأسمدة النشادرية)، وكذلك دخوله صناعة تكرير النفط والصناعات الكيماوية.

لقد كانت هذه النتائج الباهرة ثمرة لتقنية جديدة هي: التحليل الكهربائي المتقدم Advanced eletrolysis ويسمى جهاز التحليل في هذه الحالة بالمحلل المتقدم .Advanced electrolyser

التحليل الكهربائي المتقدم

هناك عاملان يؤثران في كلفة إنتاج الهيدروجين بالتحليل الكهربائي للماء. عامل متغير والآخر ثابت. ويعتمد الأول على الجهد الكهربائي (الفولطية) اللازم للتشغيل والثاني (الثابت) يتناسب مع: ثمن المحلل Electrolyser وكمية التيار الكهربائي وكثافة التيار الذي ينساب في النظام. وتعتمد كثافة التيار (التي تقاس بالكيلو أمبير للمتر المربع) على تصميم وكفاءة الأقطاب. وبديهي أن ثمن إنتاج الهيدروجين ينخفض إذا قلت الفولطية المستخدمة وكذلك ثمن المحلل وإذا زيدت كثافة التيار الكهربائي.

والحقيقة أن العوامل سابقة الذكر يعتمد بعضها على البعض الآخر بطريقة معقدة، وهذا يصعب اختيار استراتيجية معينة لخفض تكاليف إنتاج الهيدروجين.

وقد اختارت وكالة الجماعات الأوربية استراتيجية تقليل الفولطية بقدر الإمكان مع زيادة كثافة التيار الكهربائي في الوقت نفسه، ويقوم عامل مساعد Catalyst (مادة تساعد على حدوث التفاعل ولا تدخل فيه) بتغطية كل من المصعد والمهبط بتقليل فرط الفولطية. وكلما كانت خلية التحليل مدمجة Compact انخفضت قيمة المقاومة الكهربائية، لاسيما إذا صنعت الصفيحة المسامية الموجودة بين القطبين من مواد مقاومتها الكهربائية صغيرة. ومع ذلك يجدر التنويه إلى أن الخلايا الصغيرة ذات الكفاءة العالية تخلق بعض المشاكل الفنية (الهندسية)، حيث إنها تولد غازات أكثر في فراغ محدود نسبيًا وذلك مقارنة بالخلايا الأكبر حجمًا والأقل كفاءة.

إن درجة حرارة المحلل من المتغيرات المهمة. فدرجة الحرارة المرتفعة تقلل من فولطية الخلايا وبالتالي تنخفض الكلفة. ومع ذلك فإن رفع درجة حرارة الخلايا يجعل المحلول الكهربائي (الألكتروليت) يهاجم مكونات الخلايا بضراوة أكثر. وهذا يتطلب بدوره مواد أغلى ثمنا، مثل النيكل النقي الذي يقاوم التآكل (الأكسدة). تآزر علمي أوربي لقد قامت الوكالة الأوربية بتقسيم العمل في مجال التحليل الكهربائي للماء عند درجات حرارة: منخفضة، متوسطة، ومرتفعة. وقد اضطلعت بعض شركات ومعاهد بلجيكا وفرنسا بالأبحاث التي تجرى عند درجات الحرارة المنخفضة. أما الدرجات المتوسطة فقد قامت بأبحاثها شركات ومعاهد من فرنسا وألمانيا. وعند درجات الحرارة المرتفعة قامت بالأبحاث شركة Dornier System" بألمانيا. أما شركة UHDE في دورتمند Dortmund فقد فحصت وأجرت مراجعة شاملة لكل هذه الأبحاث، وعلى أساس ذلك اقترحت نظامًا متفوقًا للتحليل الكهربائي للماء.

إن المحلل المتفوق المقترح من قبل شركة UHDE مدمج من حيث التصميم وقد أضيفت عوامل مساعدة جديدة لتنشيط أقطاب النيكل: فأضيف كبريتيد النيكل للمهبط (الكاثود) وأكسيد الكوبالت للمصعد (الأنود). كما أدخل تطوير كبير على صناعة الصفيحة المسامية فصنعت من حامض بولي أنتيموني acid Polyantimonic ملفوف بمادة بولي سلفون Polysulphone وتعمل هذه الصفيحة المسامية عند درجة حرارة 120 م وهذه أعلى بكثير من تلك المستخدمة في حالة أغشية الأسبستوس الموجودة في الخلايا التقليدية للتحليل الكهربائي. وهذه الدرجة العالية تعمل على حفظ المقاومة الكهربائية عند قيمة منخفضة. أما المحلول الكهربائي (الألكتروليت) فيتكون من محلول صودا كاوية بتركيز 15% وعند ضغط 2 جوي تقريبا.

الكمبيوتر يضبط الحسابات

وفي عام 1986 م صمم أحد الباحثين في وكالة الجماعات الأوربية وهو باول جلن Glynn paul برنامج حاسوب أسماه " هاي تيك HYTECH " ليقدر تكاليف إنتاج الهيدروجين. ويقارن النموذج الإمكانات النسبية ل: التحليل الكهربائي للماء، الغاز الطبيعي، وتغيير الفحم (أي تحويله لغاز) Coal gasification للوفاء بالمتطلبات من الهيدروجين حتى عام 2000 م.

وقد أخذ في الاعتبار اختلاف سعر الكهرباء طبقا للظروف ففي بلجيكا تباع الكهرباء رخيصة في غير أوقات الذروة الكهربائية OFF - Peak Power أي أن السعر يتغير في اليوم الواحد من وقت لآخر أما في فرنسا: فتتغير"طبقا للموسم فتكون رخيصة في الصيف غالية في الشتاء. ويتضمن البرنامج أيضًا الحاجة الممكنة لإيجاد مخازن لغاز الهيدروجين. كما يحتوي على النتائج الحديثة للتحليل الكهربائي المتفوق، ويقارن بين أرخص أنواعه وأرخص الطرق البديلة الأخرى.

وقد أعطى برنامج جلن مؤشرات عن إمكان استخدام التحليل الكهربائي المتفوق لإنتاج الهيدروجين اللازم لصناعة الأمونيا في فرنسا والذي سيتراكم منه الكثير في فصل الصيف حين تكون الكهرباء زهيدة الثمن، وعليه يجب أن تكون مناطق الإنتاج قريبة من أماكن التخزين مثل غرب فرنسا أو مناجم الملح في الألزاس، كما أظهر البرنامج أن استخدام التحليل الكهربائي المتفوق في بلجيكا لن يتم على نطاق تجاري واسع قبل عام 2000 م. وفي النهاية يتوقع البرنامج أنه بحلول عام 2000 م فإن طريقة التحليل الكهربائي المتفوق ستنتج حوالي 6% أو 30 بنتاجول (30 ×1015 جول) من جميع الهيدروجين المستخدم في الأقطار الأوربية. وفي خارج أوربا تستطيع الدول إنتاج 90 بنتاجول إذا أمدتها أوربا بأجهزة التحليل الكهربائي المتفوق بمعدل جهاز واحد للخارج لكل محلل يباع في داخل القارة الأوربية.

إن فوائد المحلل المتفوق ستتضاعف في القرن الحادي والعشرين إذا اهتم به رجال الأعمال والصناعة وأمكن تسويقه على نطاق تجاري. والسؤال في النهاية. ألا يمكن الاستفادة من هذه التقنية الجديدة في بعض البلدان العربية؟، متى نرى أبحاثا في هذا المجال الحيوي؟.