إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

اطلبوا العربية في الصين!

لا يتساوى كل المستعربين في إجادة اللغة العربية، وصرفها ونحوها على الخصوص، فبينهم مَن هو ضعيف في معرفتها، وفي نطقها أو الكتابة بها، ولكن بينهم مَن يُعتبر حجّة في معرفتها، حتى لكأنه أمضى شبابه مع أبي الطيب المتنبي الذي كان من علمائها الثقات، والذي قيل إنه من أجل إتقانها قصد البادية في صباه، وعاش فترة من حياته مع قبائلها، ثم عاد إلى الكوفة كأنه من العرب العاربة.

ولو سُئلت عن المستعرب الذي لفت نظري أكثر من سواه في إتقان العربية لدرجة إضافة اجتهادات إلى صرفها ونحوها، لقلتُ إنه مستعرب صيني التقيت به في أحد المؤتمرات العربية اسمه فوي يو تشانج، يشغل منصب عميد كلية اللغة العربية في جامعة بكين. والغريب أن هذا المستعرب درس العربية لا في جامعة الأزهر، ولا في كلية دار العلوم بالقاهرة، ولا في أي عاصمة عربية أخرى، بل في عاصمة بلاده بالذات، حيث تنهض اللغة العربية نهضة لا تعرفها البلاد العربية نفسها. فقد روى لي أن ألوفًا مؤلفة من طلاب الصين تتخرّج كل عام في أقسام اللغة العربية في جامعات الصين، وأنه هو بالذات يقوم الآن لا بتدريس العربية وحسب، بل بالتأليف فيها. فقد وضع كتابًا في قواعد العربية تربو صفحاته على الألفين ويقع في أجزاء عدة. وأضاف وهو يحدّثني عن كتابه الضخم: «في كل باب من أبواب هذا الكتاب تقريبًا، وضعت تجديدات في قواعد العربية وجدت أن أسبابًا شتى تدعو إلى اعتمادها. وقد ناقشت هذه التجديدات لاحقًا مع علماء عرب كبار منهم الدكتور شوقي ضيف أستاذ الأدب العربي، المعروف جيدا عندكم وعندنا. ولعلنا نحن الأجانب عنكم، نهتم بقواعد اللغات الأجنبية أكثر مما يهتم بهذه القواعد أبناؤها الأصليون».

على أن البروفسور فوي يو تشانج ليس بالمستعرب الوحيد الذي قام بمثل هذه الرحلة الشاقة، والشائقة معًا، في عالم العربية ودقائقها وأسرارها. فقد اطلعت قبل فترة على كتاب آخر في صرف العربية ونحوها، وضعه مستعرب فرنسي شاب اسمه بول كوانا يعمل أستاذًا للعربية في إحدى جامعات باريس. وإن أنس لا أنس الإشارة إلى مستعرب سلوفاكي كان يمضي قبل سنوات فترة تدريب في إحدى كليات الآداب العربية. لقيت هذا المستعرب في مكتب رئيس قسم اللغة العربية في هذه الكلية عندما جاء يستأذن في إلقاء محاضرة كان موضوعها تصريف أحد الأفعال العربية. وقد أخبرني رئيس قسم اللغة العربية المذكور بأن معرفة هذا المستعرب بالعربية أفضل من معرفة أساتذة الأدب العربي في كليته. وعندما اطلعت لاحقًا على محاضرته ذُهلت لعمق ثقافته اللغوية، وإحاطته بدقائق لغتنا.

فالأجانب عندما يتصدّون للدراسة والبحث، كثيرًا ما يشقون ويجورون على أنفسهم، وتبلغ قمة ذلك عندما يتصدّون لدراسة لغة أجنبية تعتبر إحدى أصعب لغات الأرض، وتأتي العربية إلى جانب الصينية في هذا المجال، فهي لا تقل عن الصينية صعوبة، كما ذكر لي المستعرب الدكتور فوي يو تشانج.

طبعا يفرحنا أن تلقى العربية مثل هذه العناية في الخارج، ولكن يؤلمنا ألاّ تلقى مثلها في بلادنا، أي عند أهلها ومثقفيها. فالأهل في غياب كامل عنها وكأنهم أوكلوا أمر الاهتمام بها لمجامع اللغة العربية، أما المثقفون، وإن كانوا أقل غربة، فإنهم لا يعرفونها كما يعرف الإنجليزي لغته على سبيل المثال. والكثير من أدبائنا عندما يلجون عالم الفصحى، يعتمدون على السماع، وعلى أن هذه أسلم من تلك، لا على الأصول والقوانين العائدة لها.

ولكل هذا - بالطبع - نتائجه الكارثية، وبخاصة على الأدب، فالأدب، ومنه الشعر، عندما يُكتب بلغة رثّة، يفتقر إلى شرط جوهري من شروط كتابته وبقائه. فلا بقاء للأدب إلا إذا كُتب أفضل كتابة، وجاء في أحسن تكوين. ولأن أكثر أدبنا الحديث اليوم، ليس بمثل هذا التكوين الحسن الذي نتحدث عنه، فإنه يتهافت لحظة ولادته، إن صح أنه وُلد أصلاً!.

 

 

 

جهاد فاضل