السنة الحاسمة في مسيرة فن عبدالوهاب الجميل

السنة الحاسمة في مسيرة فن عبدالوهاب الجميل

قدم 20 لحنا خلالها أسست لشهرته بعد ذلك

حين بدأت سنة 1927, لم يكن محمد عبدالوهاب قد صار مشهوراً حقاً. كـان لا يزال يدرس في معهد الموسيقى الشرقي, الذي كان من أقطابه مصطفى بك رضا, وصفر علي. وكان أمير الشعراء قد بدأ الاهتمام به اهتماما جديا منذ أربع سنوات. لكن اكتساحه هذه السمعة الشعبية التامة لدى الناس, لم يكن قد حدث بعد.

ما الذي كان محمد عبدالوهاب قد فعله قبل 1927? ثم ما الذي فعله في تلك السنة, حتى تكون هذه سنة حاسمة في مسيرته المهنية المذهلة?

كان محمد عبدالوهاب قبل السنة المذكورة قد سجل عددا من الاسطوانات بعضها لثلاثة ملحنين غيره:

ـ أغنيتان, قصيدتان لسلامة حجازي, سجلهما عبدالوهاب سنة 1921, على اسطوانات, هما: (ويلاه ما حيلتي) و (أتيت فألفيتها ساهرة). وقد ظهر في غناء عبدالوهاب فيما بعد تأثر واضح بأسلوب حجازي في الغناء, لاسيما غناؤه التعبيري, لأن حجازي كان فنانا مسرحيا على الخصوص, وكانت الروايات الغنائية المسرحية تحتاج إلى عنصر التعبير الوجداني والتمثيلي والتصويري. وحين أسس عبدالوهاب الأغنية السينمائية, استفاد من هذا العنصر التعبيري في غنائه, بدءا بفيلم (الوردة البيضاء) (1933).

ـ أربع محاورات غنائية سنة 1923, مع سميحة المصرية, لحنها الموسيقي محـمود رحمي, وألفها الأديب بديع خيري: (الله يجازيك يا ودانية), و(نوبة على كوبري قصر النيل) و(والله زمان يا خفافي), و(يامين يحكم بيني وبينك). ولم تكن تلك من أبدع الغناء.

ـ وفي السنة نفسها سجل عبدالوهاب, من شعر الشيخ أحمد عاشور, ولحن كبير وموسيقيي العرب في القرن التاسع عشر محمد عثمان, موشحه الخالد (ملا الكاسات وسقاني).

علاقة وطيدة

وكان عبدالوهاب قد ظهر مع الشيخ السيد درويش, في مسرحيته التي بدأ عرضها في 30 يونيو 1921 (شهرزاد). إذ مرض السيد درويش الذي كان يلعب دور البطل (زعبله) ولم يرض الشيخ زكريا أحمد أن يلعب الدور بدلا منه, فاستقدم له المطرب الشاب محمد عبدالوهاب.

وكف عبدالوهاب سنة 1924 عن الغناء من ألحان غيره. ولم يكن قد غنى من ألحانه قبل ذلك على اسطوانة سوى مونولوج لم يلفت إليه الانتباه سنة 1923, ألفه أحمد رامي (غاير من اللي هواك). كانت تلك سنة وفاة الشيخ السيد درويش (15 سبتمبر 1923). وكانت تلك الأغنية على مقام الكورد (مقام دور (أنا هويت) أشهر أدوار الشيخ السيد) وغناء عبدالوهاب فيها أشبه ما يكون بغناء الشيخ السيد. ولحن عبدالوهاب وغنى تلك السنة 1923 أغنية أخرى هي طقطوقة (مانيش بحبك) وهي أغنية أقل قيمة بالتأكيد من سابقتها.

ويبدو أن العلاقة بين أمير الشعراء أحمد شوقي وعبدالوهاب توطدت في سنة 1924 حتى لحن وغنى له أربع أغنيات, هما قصيدتا (قلب بوادي الحمى) و(منك يا هاجر دائي) (لحن لها لحنا ثانيا, ولم تغنها سمية قيصر باللحن الثاني الا بعد وفاته سنة 1991), وموال: قلبي غدر بي). بل أن الأغنية الرابعة التي لحنها عبدالوهاب تلك السنة 1924 وغناها من شعر شوقي كانت طقطوقة: (دار البشاير), التي وضعت أصلا ليغنيها في عرس علي بن أحمد شوقي.

في تلك السنة أيضا غنى عبدالوهاب من ألحانه وشعر أحمد رامي قصيدة: (تعالي نفن نفسينا غراما), وشعر إبراهيم عبدالله موال: (مال الفؤاد).

بعد هذه الأغنيات الست سنة 1924, حدثت ظاهرة غريبة بعض الغرابة, إذ مضت سنتان بعدئذ, لم تظهر فيهما سوى أربع أغنيات لعبدالوهاب, هي قصيدة: (باتت تناجيني عيونه), وموال: (سيد القمر) (1925) ومونولوج: (امتى أشوف في المنام طيفه), ودور (يا ليلة الوصل استني) (1926), وهو أول دور لعبدالوهاب, ولم يكمله وسجله ناقصا لأسباب غير معلومة.

هل شح نتاج عبدالوهاب هاتين السنتين, لأنه كان يتحفز لقفزة تاريخية في سنة 1927? هذا تفسير معقول. لكن ثمة تفسيرا منطقيا اقترحناه في كتابنا (السبعة الكبار في الموسيقى العربية) وجاء في التفسير: (إن شركة (بيضافون) كانت تصنع اسطواناتها خارج مصر, ولذا كانت الأغنيات تجمع وتصدر في مواسم. ويؤيد... (هذا) إعلانات كانت تظهـر فـي صحف وتعلن وصول دفعات من الاسطوانات بين فينة وفينة.

وهذا يعني أن الأغنيات التي دخلت تاريخ الأسطوانة على أنها ظهرت سنة 1927, لم يغنها عبدالوهاب ويسجلها في تلك السنة بالضرورة). وهذا في الواقع منطقي, ذلك أن (كتير يا قلبي) و(عايزك تصد وتهجرني) مثلا لا تنتميان إلى سنة واحدة قطعا, لا في أسلوب العزف, ولا في تطور الغناء, ولا في الموسيقى. ويلاحظ الفارق على الخصوص في جملة: (أنا اللي طالب هجرانك), في (عايزك تصد), حيث كان عبدالوهاب لايزال شبثا لأسلوب الغناء القديم, فيما تبدو (البوليفونيا) وأسلوب تعدد الأصوات متقدما في مقطع: (حبيت وقاسيت) من أغنية (كتير يا قلبي).

عشرون أغنية

وما يصح في تطور الفكر التأليفي في لحن عبدالوهاب هذا وغنائه, سنة 1927, يصح في أغنية (اللي يحب الجمال) أيضا في السنة نفسها.

عشرون أغنية ظهرت مرة واحدة لعبدالوهاب في هذه السنة الغزيرة الغنية:

1ـ أخاف عليك من نجوى العيون (أحمد رامي) ـ قصيدة.

2ـ اللي اتكتب عالجبين (ابراهيم عبدالله) ـ موال.

3ـ اللي يحب الجمال (أحمد شوقي) ـ مونولوج.

4ـ أنا انطونيو (أحمد شوقي) ـ قصيدة.

5ـ بتتقلي ليه (حسين حلمي المنسترلي) ـ مونولوج.

6ـ تراضيني وتغضبني (أحمد شوقي) ـ طقطوقة.

7ـ تكايديني وليه يعني (?) ـ طقطوقة.

8ـ خدعوها بقولهم حسناء (أحمد شوقي) ـ قصيدة.

9ـ شبكتي قلبي يا عيني (أحمد شوقي) ـ مونولوج.

10ـ شكيت من الوعد آه (?) ـ مونولوج.

11 ـ الصد طال وانت مش راضية (?) ـ مونولوج.

12ـ عايزك تصد وتهجرني (?) ـ طقطوقة.

13ـ فيك عشرة كوتشينة (محمد يونس القاضي) ـ طقطوقة.

14ـ كتير يا قلبي (أحمد عبدالمجيد) ـ مونولوج.

15ـ الليل بدموعه جاني (أحمد شوقي) ـ مونولوج.

16ـ الليل يطول علي (أمين عزت الهجين) ـ مونولوج.

17ـ النبي حبيبك (أحمد شوقي) ـ موال.

18ـ يا حبيبي أنت كل المراد (?) ـ موشح, هو الموشح الوحيد لعبدالوهاب.

19ـ يا حبيبي كحل السهد جفوني (أمين عزت الهجين) ـ مونولوج.

20ـ يا قلبي ما حد قاسي (?) ـ موال.

جميع هذه الأغنيات جميلة على الأقل, وإن كان بعضها خفيفا في موضوعه ومستواه: (فيك عشرة كوتشينة) لكن فيها روائع خالدة, كانت في تلك السنة فتحا في الغناء العربي, مثل: (اللي يحب الجمال), و(كتير يا قلبي), اللتين تضمنتا تعدد أصوات محبوكا حبكا محكما لم يكن معروفا بعد في الغناء العربي. وفيها أسلوب غناء متطور, كان محمد عبدالوهاب يحاول أن يبثه في أذواق المستمع العربي, مثل (شكيت من الوعد آه) و(الصد طال) و(الليل بدموعه جاني), و(يا حبيبي انت كل المراد), و(يا حبيبي كحل السهد جفوني). وفيها رائعة تعبيرية خطيرة تصور السماء والليل والغيم تصويرا قلما شهدته الموسيقى العربية بعدئذ: (الليل يطوّل علي). وفيها واحد من أجمل مواويل الغناء العربي: (اللي انكتب عالجبين).

غير أن القنبلة التي نصبت عبدالوهاب على عرش الموسيقى والغناء العربيين: (يا جارة الوادي) (أحمد شوقي 1928) لم تكن قد انفجرت بعد.

فما الذي حدث ليجعل سنة 1927, سنة استثنائية, بل سنة (بداية) صعود لا يقاوم في سيرة محمد عبدالوهاب الفنية?

كان الشيخ السيد درويش قد مات في الواحدة والثلاثين من العمر, سنة 1923, ولما يكمل بعد مسرحية غنائية لحن فصلها الأول, هي مسرحية كليوباترا ومارك انتوني. فلما مات حاولت منيرة المهدية أن تستأجر ملحنين آخرين لإكمال تلحين الرواية, غير أن النتيجة لم ترضها.

المسرح الغنائي

كان محمد عبدالوهاب سنة 1923 قد تعاون مع الشيخ السيد درويش, على ما أسلفنا, إلا أن كعبه لم يكن بعد قد علا في التلحين, حتى كانت سنة 1926, وأخذ صيته يتسع. فكلفته منيرة إكمال المسرحية, فأكمل الفصل الأول, ولحن الفصلين الثاني والثالث.

وفي يوم الخميس 20 يناير 1927, ظهرت المسرحية المغناة, فكتبت مجلة (روز اليوسف) تقول في هذا اليوم الأول:

(اجتمع صوت منيرة الساحر الملائكي ورشاقتها إلى صوت عبدالوهاب الحنون وموسيقاه السماوية.. فكان نجاح الرواية المحتم وكان الهتاف والتصفيق يصمان الآذان استحسانا وطربا).

وكاد محمد عبدالوهاب أن يتابع سلوك طريق المسرح الغنائي, مع هذا النجاح المدوي, لاسيما أن أقطاب الغناء العربي قبله كانوا قد سلكوه بنجاح. وكان المسرح الغنائي أكثر أساليب الغناء العربي تطورا في تلك المرحلة. كان الشيخ أحمد أبوخليل القباني, قد استقر في مصر سنة 1883 مهاجرا من دمشق, وأسس فرقته الغنائية المسرحية, مؤسسا فنه هذا على بواكير لم تثمر الكثير, ظهرت في مسرح مارون النقاش منتصف القرن التاسع عشر. وتخرج من مسرح القباني اسكندر فرح وسلامة حجازي وغيرهما. واستقل حجازي بفرقته الخاصة أوائل القرن العشرين, وذاع صيته, وامتلك عرش الغناء العربي منفردا, بعدما توفي محمد عثمان في ديسمبر 1900, وعبده الحامولي في مايو 1901.

ومع مسرحيات سلامة حجازي الغنائية, صلبت أقدام هذا الفن, وظهر أساطين منهم كامل الخلعي, ثم السيد درويش, الذي صادف بدء انخراطه في المسرح الغنائي سنة 1917 وفاة سلامة حجازي, وكأن غناء درويش في آخر مسرحيات حجازي في أكتوبر من ذلك العام كان بمنزلة تسلم وتسليم لعرش المسرح الغنائي.

ومع أن صعود السيد درويش الصاروخي لم يستغرق سوى سبع سنوات, فإن عبقريته الفذة في التعبير التمثيلي والتصويري والوجداني بالموسيقى, ثبتت أقدام هذا الفن.

وعند وفاة السيد درويش, لم يكن الشيخ زكريا أحمد قد انتج سوى مسرحية (فقراء نيويورك) سنة 1916, مع فرقة هواة. لكن هذا العبقري الآخر, انصرف تماما إلى المسرح الغنائي, وبين 1924 و1930 ظهرت له 46 مسرحية غنائية.

وبين 1926 و1928 أدلى محمد القصبجي هو الآخر بدلوه في فن المسرح الغنائي, بخمس مسرحيات, منها أربع لفرقة منيرة المهدية وواحدة لفرقة نجيب الريحاني.

ولذا كان متوقعا ومنطقـيا أن يتجه فكر الشاب محمد عبدالوهاب, بعد نجاحه في (كليوباترا ومارك انتوني), إلى متابعة العمل في المسرح الغنائي, لاسيمـا أن نجاحـه المعنوي والفني في هذه المسرحية, رافقـه نجاح مالي أيضا, إذ ارتفع أجره في بضعـة أسابيع من جنيه, إلى عشرين جنيها.

واستعدت منيرة المهدية نفسها لإعطاء المطرب الساطع الجديد رواية أخرى ليلحن أغنياتها, وهي أوبرا (توسكا) التي اقتبسها إبراهيم المصري وحامد الصعيدي. غير أن خلافا نشب بين عبدالوهاب ومنيرة. ففيما كان أمين صدقي صاحب مسرح سميراميس يحل فرقته لتكوين فرقة جديدة تجمع عبدالوهاب والمطربة اللامعة فتحية أحمد, كان يمكن لهذا المسعى أن يريب منيرة في نيات عبدالوهاب, أو أن يدفع المطرب الشاب إلى محاولة تحسين مرتبته ومرتبه عند منيرة.

مزاج حاد

وأخذت الصحف تنشر قصص خلافات بينهما على الأجر, وقصصا أخرى عن مهلة يحتاج إليها عبدالوهاب ليلحن أعماله الجديدة, فيما كانت منيرة على عجلة من أمرها لتقديم الجديد. وكانت قد ظهرت آنذاك مجلة (الصباح) لصاحبها مصطفى القشاشي, وقد أنشئت لغرض واحد, هو محاربة عبدالوهاب ومع أنها أقلعت عن هذا الغرض فيما بعد, فإن الخلاف كان قد وقع بين منيرة وعبدالوهاب.

ويروي البعض من خفايا قصص الأروقة أن منيرة, التي كانت ذات مزاج حاد شديد الغيرة, لم تكن بالرشاقة التي ذكرتها مجلة (روز اليوسف), وكان محمد عبدالوهاب سنة 1927 نحيلاً. وكان وقوع شاب دقيق رقيق ونحيل في غرام سيدة تميل إلى البدانة, أمرا غير مقنع بعض الشيء في مسرحية (كليوباترا). وقد يكون هذا ضمن أسباب أحنقت منيرة. ولم يكن نجاح المسرحية وأغنيات عبدالوهاب إلا ليزيد شدة هذا الحنق وتلك الريبة, فليس ذلك غريبا على المشاعر بين الفنانين. وأهل (الوسط) يعرفون تماما هذا النوع من المشاعر.

المهم أن محمد عبدالوهاب توقف عن العمل مع منيرة, وفوجيء بأن فتحية أحمد التي كانت مرشحة لعقد شراكة فنية معه, حلت محله في دور مارك انتوني مع منيرة المهدية.

حينئذ اتجهت أنظاره صوب أم كلثوم, النجم الصاعد الآخر آنذاك في سماء الغناء العربي.

وقد نشرت مجلة (روز اليوسف) نبأ جاء فيه: (يعرف القراء أن السيدة منيرة المهدية ملأت اسطوانات كليوباترا ومارك انتوني, وقامت بالدورين. والظاهر أن محمد عبدالوهاب يعتقد أن السيدة لم تحترم حقوقه ولا واجب اللياقة, وأن الذوق كان يقضي عليها بأن تدعوه إلى القيام بدوره غناء, وأن يشترك معها في ملء الاسطوانات, والآن يفكر عبدالوهاب جديا في الاتفاق مع أم كلثوم على ملء الاسطوانات بألحان الرواية بعد تحفيظ أم كلثوم ألحان كليوباترا. ويرى عبدالوهاب, ويرى كثيرون معه أن هذه الاسطوانات تكون مزاحما خطرا على الاسطوانات التي ملأتها السيدة منيرة.. وبقي أن نعرف, هل تقبل (ثومة) وهل يقبل مستشاروها من أصحاب الفضيلة المشايخ..).

ولم تقبل أم كلثوم, ولم يقبل مستشاروها. فطوي المشروع. ولم يكف محمد عبدالوهاب عن القول بعدئذ, إن المسرح الغنائي هو المستقبل في الموسيقى العربية, ولم يقلع عن دعوة الدولة إلى الإنفاق في هذا الميدان لأن أي فنان, مهما عظمت ثروته الشخصية, لا يقدر على هذا المشروع.

غير أن منعطفا جديدا كان وشيكا حينذاك, وهو منعطف بدل كل عناصر الموضوع, وهو ظهور السينما الناطقة سنة 1932. وكان أول فيلم ناطق هو فيلم (أولاد الذوات) ليوسف وهبي, وأول غنائي هو (أنشودة الفؤاد) لزكريا أحمد والمطربة نادرة.

كان (أنشودة الفؤاد) أول فيلم ظهرت فيه أغنيات, لكن الفيلم الذي أسس للسينما الغنائية بعناصرها التمثيلية والتعبيرية, كان فيلم عبدالوهاب (الوردة البيضاء) سنة 1933.

وتلك سنة أخرى.

 

فكتور سحاب

 
 




عبدالوهاب في أحد أفلامه الشهيرة









الفنان الكبير محمد عبدالوهاب