حزم السلطان عبدالحميد أمام المشروع الصهيوني... كلّفه عرشه

حزم السلطان عبدالحميد أمام المشروع الصهيوني... كلّفه عرشه

الاستيطان أكبر من حصره في حادثة منفردة

أثار مقال نشرته العربي في العدد (504) نوفمبر 200 تحت عنوان (تواطؤ والي القدس وصمت السلطان عبدالحميد وراء ضياع أراضي فلسطين) ردود فعل واسعة, وقد وصلتنا حول هذا الموضوع مقالات عدة نشرنا بعضها, وهنا مقال آخر.

كانت الإمبراطورية العثمانية تضم رعايا من أعراق وقوميات وأديان ومذاهب مختلفة, ولكن الأغلبية العظمى في تلك الإمبراطورية كانت من العرب المسلمين على اختلاف مذاهبهم, وكان العربي المسلم يشعر بأن الإمبراطورية العثمانية هي إمبراطوريته لأنها كانت إمبراطورية إسلامية.

وقد بدأ العالم يشعر اعتباراً من مطلع القرن العشرين بأنه توجد قضية عربية داخل الإمبراطورية العثمانية, وفي عام 1905, نشر نجيب عازوري في باريس كتاباً باللغة الفرنسية اسمه (يقظة الأمة العربية), وفي هذا الكتاب بيان موجّه إلى الدول الغربية العظمى, من قبل ما أطلق عليه اللجنة الوطنية العربية, يشير فيه إلى أن العرب الذين يعيشون ضمن الإمبراطورية العثمانية, يرغبون في الانفصال عن الأتراك, وتأسيس دولة عربية مستقلة. هذه الدولة العربية ستكون من وادي دجلة - الفرات إلى السويس, ومن البحر الأبيض المتوسط إلى بحر عمان, وستكون دولة ملكية دستورية حرّة يرأسها سلطان عربي, أما بالنسبة لولاية الحجاز ومعها مقاطعة المدينة, فإنها ستكون مملكة مستقلة على رأسها حاكم يكون في الوقت ذاته خليفة المسلمين, فنجيب عازوري, بهذا الحل الذي يطرحه ضمن كتابه يقظة الأمة العربية, يفصل الدولة المدنية العربية عن الدين الإسلامي ويقلص الخلافة في الحجاز والمدينة. وهذا الطرح يختلف اختلافاً مهماً عما نادى به عبدالرحمن الكواكبي, فقد كان الكواكبي كغيره من زعماء الإصلاح المسلمين أمثال الشيخ محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا الذين كانوا يطالبون تطهير الإمبراطورية من الفساد, وبالرجوع إلى الإسلام الصحيح, والدفاع عن الإسلام أمام التيارات الأوربية المسيحية, وكانوا كجمال الدين الأفغاني يرون أن تقهقر المسلمين يرجع إلى جهلهم حقيقة دينهم, واستبداد حكامهم.

ولكن الكواكبي كان يتميز عن زملائه من دعاة الإصلاح الإسلامي, بأنه كان يفرق بين العرب المسلمين, والمسلمين غير العرب, فكان يعطي أفضلية للعرق العربي بفضل لغتهم لغة القرآن, وما كان يراه من شرف نسبهم, ولذا فإنه كان يرى أن العرب هم المؤهلون لإعادة مجد الإسلام, وأن الخلافة يجب أن تعود إلى العرب, والكواكبي - وإن كان من دعاة الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية - فإنه لم يكن يفكر بدولة عربية مدنية, وأخرى إسلامية تقتصر على سلطة دينية رمزية تنحصر على الحجاز والمدينة كما يتصوّرها أو ينادي بها نجيب عازوري وأمثاله من رعايا الإمبراطورية العثمانية من العرب المسيحيين, وحتى السنوات الأخيرة من الحكم العثماني, لم يكن يخطر ببال أغلب العرب المسلمين أن ينفصلوا تماماً عن السلطنة العثمانية, لأنهم كانوا يجدونها سلطنة إسلامية, وهي الدولة الإسلامية القوية الوحيدة في العالم وربما كان جل ما يطالبون به هو إصلاح الوضع السياسي وترسيخ الشورى وتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للبلاد العربية الداخلة في السلطنة العثمانية. حتى المتطرفون الذين كانوا يوصفون بالثوريين, فكل ما كانوا يطالبون به هو الاستقلال الذاتي إنما داخل الإمبراطورية العثمانية لا خارجها, أما بالنسبة للعرب المسيحيين وخاصة في لبنان, فإن شعورهم كان مختلفاً, وهدفهم متبايناً جداً, وهكذا نرى أن نجيب عازوري أيضاً بعد أن ترك القدس وذهب إلى مصر غادرها إلى فرنسا وكان دوماً في رعاية وزارة الخارجية الفرنسية.

ملاحظات عدة

والآن بعد مرور قرن تقريباً, يأتي الأستاذ جان داية فيحدثنا عن السيد نجيب عازوري, كبطل قومي عربي, وأنه هو أول من نبّه إلى خطر الاستطان الصهيوني, وأن السلطان عبدالحميد كان مسئولاً عن الاستيطان الصهيوني في فلسطين, في مقاله المنشور تحت عنوان (تواطؤ والي القدس وصمت السلطان عبدالحميد وراء ضياع أراضي فلسطين, (عازوري) حذّر في بداية القرن العشرين من خطورة الاستيطان الصهيوني), وذلك في العدد/ 504/تاريخ نوفمبر 2000م, من مجلة العربي.

ولذا وددت بعد قراءتي لهذا المقال أن أعلق عليه بما يلي:

  • منذ بداية المقال يعترف كاتبه بأن السلطان عبدالحميد كان قد أصدر قراراً بمنع بيع أراضي الفلسطينيين لليهود.
  • يتضح من المقال أن نجيب عازوري الماروني (على الأغلب) الذي أتم دراسته العليا في فرنسا, والذي كان متقناً للغات العربية والفرنسية والتركية, كان قد عيّن بما ساعدته به مؤهلاته بوظيفة معاون لمتصرف القدس آنذاك كاظم بك.
  • لم يوضح المقال السبب الذي فصل من أجله نجيب عازوري من وظيفته المهمة (المعاون لمتصرف القدس), حيث إنها وظيفة لا يصل إليها ذاك الوقت أي شخص كان مالم يكن قد تدرّج طويلاً في السلك الإداري, ولكن على ما يبدو فإن مؤهلات عازوري المتميزة آنذاك مكّنته وهو في عمر مبكر من تسلم هذه الوظيفة, فإن لم يمكن الجزم بالسبب الحقيقي الذي دعا المتصرف أن يبعده عن هذه الوظيفة, فإنه ربما يتبادر إلى الذهن, أن المتصرف ربما كشف ثمة علاقة بين السيد عازوري والحكومة الفرنسية, لأن السيد عازوري بعد فصله من وظيفته وذهابه إلى مصر ومنها إلى فرنسا, فإنه كان يجد في الخارجية الفرنسية ملاذاً له أي أن الهجوم الذي شنّه نجيب عازوري على المتصرف كان بعد أن تم عزله من وظيفته وبدافع الانتقام لنفسه مما تعرّض له.
  • إن نجيب عازوري في مقالاته كان دوماً, يهاجم كاظم بك من نقطة الضعف التي كان يأمل أن تكون سبباً كافياً لعزل من أقصاه عن وظيفته, ألا وهي تسهيله لبيع أراضي الفلسطينيين لليهود على غير رغائب جلالته (سلطاننا الأعظم) ورغم ورود إدارة سنية مكررة قاضية (بعدم السماح لليهود بأن يستملكوا شبر أرض في تلك الأراضي المقدسة).
  • من الإفادة السابقة يبدو جلياً أن نجيب عازوري يقر بأن السلطان قد منع منعاً باتاً بيع الأراضي الفلسطينية للمستوطنين اليهود, وهو يريد أن يكشف الأعمال غير القانونية وغير المشروعة والمخالفة للإرادة السلطانية السنية, التي يقوم بها كاظم بك متصرف القدس الذي يعتبره خصمه, فيتوجه في مقالاته إلى السلطان عبدالحميد أملاً أن يعاقب المتصرف, ولكن يبدو أن كاظم بك كان من نوع الأشخاص الذين يعرفون كيف يدبّرون أمورهم ويغطّون على أفعالهم, بإرضاء جهات عليا في السلطة بوسائلهم الخاصة.

خلع السلطان

  • لقد ثبت تاريخياً أن السلطان عبدالحميد الثاني, الرجل الذكي, قد عرف أبعاد المطامع الصهيونية وأغراض اليهود من الاستيطان في فلسطين, وكما هو معروف, فإنه بعد أن عقدت جمعية صهيون اليهودية مؤتمرها الأول في مدينة بال بسويسرا عام 1897, كانت قد قررت الخطوط الأساسية للبرنامج الصهيوني في بروتوكول مؤلف من 24 مادة, وركّزت جهودها نحو تخريب روسيا القيصرية والإمبراطورية العثمانية, وقد نجحت في ذلك, وربما كان سعيهم إلى تخريب روسيا بسبب ما كان يدّعيه اليهود من اضطهاد يلاقونه من الحكومة القيصرية والكنيسة الأرثوذكسية. أما بالنسبة للإمبراطورية العثمانية, فكان السبب هو رفض السلطان عبدالحميد منحهم حق إقامة موطن لهم في فلسطين, وكان هذا الرفض أحد الأسباب الخفيّة وراء الانقلاب الذي حدث عام 1908 وبالتالي إلى خلع السلطان عبدالحميد الذي اعتبره اليهود العائق المهم أمام تحقيق أحلامهم في فلسطين. وقد استغلت الجمعية الصهيونية الضائقة الاقتصادية التي كان يمر بها العالم والدولة العثمانية بشكل خاص فلجأت إلى الإغراء المالي لتحقيق أهدافها واختارت محامياً يهودياً كان قد أسس محفلاً ماسونياً إيطالياً في مدينة سالونيك اليونانية (وكانت ضمن الدولة العثمانية) اسمه (آمانوئيل قره صو) لمقابلة السلطان عبدالحميد. هذا المحامي تمكن بواسطة زميل له يدعى عارف بك من المثول أمام السلطان عبدالحميد بتاريخ 17 سبتمبر 1901 (أي بعد 4 سنوات من مؤتمر بال الصهيوني), وقدم إليه عريضة يلتمس فيها منح اليهود منطقة ذات إدارة ذاتية في فلسطين تمتد من شمال يافا إلى شرق بحيرة طبريا ثم إلى جنوب غزة انتهاء بالبحر. وفي مقابل ذلك تقدم الجمعية الصهيونية قرضاً لمدة غير محدودة قيمته (20) مليون ليرة ذهبية دون فائدة إلى خزينة الدولة و (5) ملايين ليرة ذهبية إلى خزينة السلطان الخاصة كهدية, ولكن عبدالحميد فور سماعه لفحوى العريضة, استشاط غضباً وطرد (قره صو) ووبخ عارف بك بشدة مما اضطره إلى الهرب إلى أوربا في مساء اليوم نفسه خوفاً من السلطان, وقال عبدالحميد ما خلاصته: (إن أرض فلسطين هي ليست ملكي, وإنما ملك الأمة الإسلامية, وما حصل عليه المسلمون بدمائهم لا يمكن أن يباع بالفلوس, وربما إذا تفتت إمبراطوريتي يوماً, يمكنهم أن يحصلوا على فلسطين دون مقابل)... وهذا ما حصل!

ولقد انتقم (قره صو) من عبدالحميد انتقاماً فظيعاً, لأنه بعدها تسلل إلى جماعة الاتحاد والترقي في سالونيك وفتح لزعيمهم طلعت أبواب محفله الماسوني, لكي يجري اجتماعاته السرية فيه, واستغل الماسونية ومبادئها (الحرية, الأخوّة, المساواة) في جذب العديد من الضباط الشبّان وغيرهم من المدنيين للانخراط في الماسونية وفي جمعية الاتحاد والترقي التي اتخذت لها شعاراً مماثلاً هو: (الحرية, العدالة, المساواة).

وتطورت الأمور بسرعة, أدت في النهاية إلى تحرك الجيش الثالث العثماني في مقدونيا, وهوّلت الصحافة العالمية التي تخضع للنفوذ الصهيوني, لهذا الحدث, وعظمت الأمور وكأن الجيش العثماني بتمامه قد هب في وجه السلطان عبدالحميد وأن هذه الانتفاضة نابعة من الأمة العثمانية جمعاء, ذلك كله, مما أدى إلى نجاح الحركة التي قام بها الجيش الثالث في (24) يوليو 1908, وخضوع السلطان عبدالحميد لمطالب الجيش, ثم إلى خلعه تماماً عن العرش في العام التالي 1909, ومن المفارقات أن الهيئة التي كلفت من قبل مجلس (المبعوثان) (البرلمان) بتبليغ السلطان عبدالحميد قرار الخلع كان أحد أعضائها (آمانوئيل قره صو) بصفته نائباً عن سالونيك.

وهكذا نرى أن الجواب القاسي والحازم الذي واجه به السلطان عبدالحميد العرض الصهيوني, كلفه عرشه, ثم ما أعقب ذلك من تسلط جمعية الاتحاد والترقي وضباطها الشبان ورجالاتها الذين لم يكونوا ممن يتحلون بالروح العثمانية الإسلامية, وظهور تيارات التتريك الطورانية, ثم دخول الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى في 5 يوليو 1914, دون سبب مبرر وجيه, وكأنها حكمت على نفسها بالانتحار, ذلك كله أدى في النهاية إلى تفتيت هذه الإمبراطورية واقتسامها من قبل الدول الأوربية الطامعة فيها وصدور وعد بلفور المشهور في عام 1917 (قبل نهاية هذه الحرب), الذي اعترف بحق اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين وكأن هذا الوعد كان تحقيقاً للحلم الخيالي الذي كان يراود مجموعة من كبار الساسة البريطانيين أمثال بالمرستون, ودزرائيلي ثم هربرت صموئيل, ولويد جورج, و ونستون تشرتشل.

مستعمرة في أوغندا

وكذلك لويد جورج رغم أن أصله من ويلز فإنه ولد في مدينة مانشستر موطن أكبر جالية يهودية في بريطانيا, والمدينة التي كان حاييم وايزمان العالم الكيميائي اليهودي الروسي الأصل قد استقر فيها, وقد عمل لويد جورج محامياً في عام 1903 للحركة الصهيونية ومؤسسها الدكتور تيودور هرتزل.

أما آرثر جيمس بلفور, فمنذ أن كان رئيساً للوزارة البريطانية, فإنه بعد اجتماعه بهرتزل, كان قد وافق على اقتراح جوزيف تشامبرلين الذي لاقى قبولاً من هرتزل نفسه, بإنشاء مستعمرة يهودية في أوغندا, فكأنه بذلك أعطى أول وعد ضمني لليهود بحقهم في إنشاء وطن قومي لهم, وحدثت بلبلة في الحركة الصهيونية حول مكان الوطن القومي, ومات هرتزل في عام 1904, ثم تطورت الأحداث إلى أن أصبح لويد جورج رئيساً للوزارة البريطانية في عام 1916, وربما كان أقدر سياسي بريطاني يمكنه تفهّم الطموحات الصهيونية والتفاهم مع زبائنه اليهود, وكانت خطة بريطانيا الاستيلاء على فلسطين, وكانت فرصة لتكثيف الجهود اليهودية, لاستصدار بيان رسمي من الحكومة البريطانية لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين, فرئيس الوزراء كان لويد جورج ووزير الخارجية هو آرثر بلفور. ولذا فإن الجو كان مهيأ لمثل هذا البيان المنتظر.

فإذن قصة الاستيطان اليهودي والخطة المهيأة لاستملاك الأراضي في فلسطين فكرة عميقة محضّرة ومدروسة منذ زمن طويل وعلى مستوى عالمي, ووفق تعاون وثيق بين اليهودية العالمية والصهاينة المسيحيين.

وكانت أكبر عقبة أمام تلك الأحلام هي وجود إمبراطورية إسلامية, وعلى رأسها رجل ذو نظرة بعيدة وفهم عميق للسياسة الدولية والأطماع الأوربية الصهيونية, وليست المسألة بالبساطة التي يعرفها الأستاذ جان دايه في مقاله بأن نجيب عازوري كان هو المنبّه لخطر الاستيطان الصهيوني, وأن السلطان عبدالحميد كان غافلاً, صامتاً تجاه هذا الموضوع.

  • وهكذا فإن وجود متصرف (الذي هو أقل رتبة من الوالي) , سيئ, مستغل لنفوذه بمخالفة للقوانين الصادرة في سبيل تحقيق أطماع مالية شخصية, لا يعني أن تصرّفاته هذه يمكن أن تعتبر سياسة دولة, كانت تعد إحدى الدول الكبرى في العالم, وقد حددت خطتها تجاه موضوع الاستيطان اليهودي في فلسطين, بمنعه قانونياً, وليس هذا الكلام دفاعاً عن السلطان عبدالحميد ولا هو نفي لما أورده السيد نجيب عازوري في مقالاته التي كتبها في مصر عن العلاقة المشبوهة بين متصرف القدس آنذاك وجماعة الاستيطان اليهودي في فلسطين, ولكنها جملة حقائق تاريخية ثابتة, يتحتم ذكرها إذا توخينا الموضوعية العلمية المجردة.

 

محمد بشير الكاتب