مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

الوفاء لذاكرة المكان

ما إن أواجه صديقا لي بعد عودتي من سفر حتى يبادرني بالقول: (متى عاد السندباد. ومتى سافر? والسؤال يدخل في نفسي شعورا عميقا بالارتياح منذ أدمنت على المشاركة في النشاطات الثقافية العربية منها والدولية, طوال العقود الثلاثة الماضية والتي حملتني إلى أكثر من خمسين دولة, وفيها العواصم الثقافية الأساسية في العالم. لقد آمنت, منذ بداية مسيرتي الثقافية, أن أبقى وفيا لذاكرة المكان وأدون في مفكرتي اليومية أجمل اللحظات التي تنشط الذاكرة فتبقى حية على الدوام. وكم مرة عزمت على كتابة ومضات من الذاكرة يعتبرها الأصدقاء ذات فائدة للآخرين إلا أنني أقنعت نفسي حتى الآن بأن الأشياء الحميمة ملك لصاحبها فقط, والإفصاح عنها قد يفسد طهرانيتها إذ طالما تتضخم الأنا على حساب الآخرين.

الثقافة الحقة هي فعل إيمان بالانتساب الدائم إلى صفوف طالبي العلم, وهي تفاعل خلاق مع ذاكرة الأمكنة وحضاراتها, ومتعة الحوار اليومي مع شعوب أخرى عبر عاداتها وتقاليدها ولغاتها القومية. كثيرا ما عاب عليّ بعض الأصدقاء ما يتردد في أحاديثي من مسحةتشي بالتفاؤل الدائم. فأنا أرى أن مستقبل البشرية لابد أفضل من ماضيها رغم كل ما يبرز إلى السطح من حروب وويلات. فالمستقبل فعل تغيير حتمي نشهد نماذج رائعة عنه عبر التبدلات العلمية والإعلامية العاصفة في بعض البلدان.

وجميع شعوب الأرض, على تفاوت أحجامها ستنضوي تحت لوائه من موقع الفاعل أو المتلقي تبعا لقدراتها الذاتية وتماسك بناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في عملية التحدي والرد على التحدي. وكان أصدقائي يعزون تفاؤلي هذا إلى طبيعة عملي الثقافي كمؤرخ, خاصة وأن المؤرخين مؤمنون بالتفاؤل التاريخي القائل بأن المجتمعات دائمة التبدل.

أما حياتي الشخصية فتصلح كنموذج ملموس لتوكيد هذه المسحة التفاؤلية. فتحليل التطور التاريخي لأي شعب من الشعوب يمكن أن يندرج بين مقولتين أساسيتين: التاريخ الحافز, والتاريخ العبء. وما ينطبق على الشعوب قد ينطبق, بشيء من التحفظ, على الأفراد, فإذا كان الماضي أفضل من الحاضر, فتاريخ الفرد أو الشعب يتحول إلى عبء عليه. أما إذا كان الحاضر أفضل من الماضي فالتاريخ حافز, وأنا شديد الإيمان به منذ بدايات حياتي.

أبناء الفقراء

لقد ولدت في قرية فقيرة من قرى عكار, في شمالي لبنان, وهي من المناطق اللبنانية النائية التي كان يضرب المثل بتخلف أنماط السكن والعمل والثقافة والصحة فيها على مختلف الأصعدة. أما نظام الخدمات فيها فكان معدوما حين ولادتي قبيل منتصف القرن العشرين.

ورواية الأهل والجيران عن طفولتي المطابقة لطفولة كل أبناء الفقراء في بلادي, تجمع على رؤيتهم لي في سنواتي الأولى أحمل الكتاب بيميني وأنا في طريقي إلى الحقول والمراعي على غرار جميع أبناء المنطقة. فمن أين جاءني هذا التمسك اللا شعوري بالكتاب كخشبة خلاص من هذا الموقع الموغل في التخلف?

لم يكن للتعليم دور ملحوظ في عملية الترقي الاجتماعي إلا لدى قلة نادرة جدا من أبناء الفئات الوسطى في المنطقة دون أن يشاركهم الاقطاعيون أو كبار الملاكين الشعور عينه بضرورة تعليم أبنائهم. مع ذلك, مازال الشعور بضرورة التعلم يستبد بي حين أتوجه إلى بناتي بالقول أن لا شيء أستطيع تقديمه اليهن سوى تعليمهن في أفضل المدارس والجامعات في لبنان. علما أن راتبي كان متواضعا للغاية, وازداد سوءا في ظروف الحرب الأهلية الطويلة. وقد شاركتني زوجتي سونيا, الأستاذة في الجامعة اللبنانية, هذا الحرص على تعليم بناتنا لدرجة تفضيل العلم على شراء منزل مازلنا نفتقر إليه ونحن استاذان في الجامعة منذ قرابة ربع القرن, وفي طريقنا إلى التقاعد بعد عقد من الزمن. نشأت لدي إذن قناعة تامة بأن العلم وحده قادر على تحريري من أسر البيئة الفقيرة التي كنا نعيش فيها نحن أبناء عكار والمناطق اللبنانية النائية. فكان علي ان أنتقل في سن الخامسة عشرة إلى مدينة زحلة, البعيدة جدا عنا, للالتحاق بدار المعلمين فيها, وكسب لمنحة لم تصل إلى المائة ليرة شهريا. وما إن انتهت سنوات الدراسة حتى عينت معلما ابتدائيا في البقاع الغربي ثم نقلت إلى مدرسة حلبا التي لا تبعد عن قريتنا سوى عشر دقائق سيرا على الأقدام. إلا أنني ألححت في طلب الواسطة للانتقال إلى بيروت في العام نفسه, استعدادا لدخول الجامعة اللبنانية. ومازلت أذكر بكاء أمي الحار لحظة وداعي بعد أن سبقني إلى الرحيل أخواي الأكبر مني سنا, فتزوجا واستقرا خارج المنطقة.

كان جوابي أنني ذاهب لطلب العلم فقط, إلا أنني وجدت العروس أيضا فكانت زميلة لي في الجامعة. كانت بيروت عام 1964م تضج بالثقافة والإعلام, والتجارة والخدمات وكانت الجامعة اللبنانية تعيش مرحلة التأسيس المقرون بعذابات الولادة, فكان علي إلى جانب كثيرين من أبناء جيلي, أن ننخرط في الحركات الطلابية, والنضالات المطلبية دفاعا عن تطور الجامعة وحقوق المعلمين, ومازلت أذكر تلك الأيام بكثير من السعادة لأنني اكتسبت فيها خبرة نضالية رائعة بالإضافة إلى إيمان راسخ بأن على المثقف الحقيقي أن يقرن الإبداع بالكلمة مع الإبداع بالموقف العملي. فلم أتقاعس عن المشاركة في أي حركة مطلبية في صفوف المعلمين والطلاب الجامعيين طوال تلك المرحلة. كانت اضرابات بيروت متلاحقة وتعبر عن كل حركة احتجاج في لبنان, وصولا إلى دعم الفيتنام, مرورا بتأييد ثورة الجزائر وكان لي شرف الانتماء إلى اللجنة التحضيرية لروابط طلاب الجامعة اللبنانية في مرحلة التأسيس.

كذلك شاركت بنشاط في العمل السياسي من موقع قوى اليسار لسنوات طويلة ومازلت شديد الإيمان بأن على المثقف الانخراط الدائم في نشر ثقافة التغيير ورفض كل أشكال قمع الحريات. ومصادرة الحقوق الأساسية للأفراد أو الجماعات. وإذا تعذر عليه العمل السياسي كملتزم في صفوف أحد أحزاب التغيير التي تعاني الآن أزمات بنيوية وتنظيمية حادة, فعليه أن يبقى أمينا لتراث شعبه في النضال من أجل التغيير الديموقراطي, ومحاربة كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني, والدفاع عن المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية, والعمل الدءوب من أجل الوحدة العربية الشاملة على أسس ديموقراطية تحترم خصوصيات التجمعات الداخلية فيها مع السعي الحثيث لتوليد جيل عربي وحدوي على أسس جديدة ترفض كل أشكال قمع الحرية الشخصية, والتبعية, والتوحيد القسري إلى جانب النضال الديموقراطي الطلابي.

حصلت على أفضل النتائج السنوية في الجامعة اللبنانية.وكانت التقاليد الأكاديمية تنص على إرسال الطلاب المتفوقين في بعثات على حساب الجامعة لإكمال دراساتهم الأكاديمية ونيل الدكتوراه في الخارج. ولما كانت لغتي الثانية هي الفرنسية, أوفدتني الجامعة إلى فرنسا, فاخترت جامعة السوربون في باريس لإعداد أطروحتي الدكتوراه, الحلقة الثالثة والدكتوراه دولة, بإشراف البروفسور المعروف جاك بيرك.

الهم اللبناني

مع رحلة باريس فتحت أمامي خزائن الأرشيف الفرنسي لإعداد الدكتوراه ومن ثم لنشر عدد من الأبحاث في مرحلة تميزت بغلبة الهم اللبناني على ما عداه من همومي الثقافية. فنشرت تباعا: (تاريخ لبنان الاجتماعي) و(الاستقلال والميثاق والصيغة) و(الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية), و(الجذور التاريخية للمسألة الزراعية في لبنان), و(الهجرة اللبنانية إلى مصر, هجرة الشوام), و(بيروت وجبل لبنان على مشارف القرن العشرين استنادا إلى مذكرات العالم الروسي الكبير كريمسكي), بالإضافة إلى عدد كبير من المقالات والمؤتمرات العربية والدولية.

لقد داهمتني الحرب الأهلية في لبنان وأنا في عامي الأول من التدريس الجامعي, وأصابني ما أصاب معظم اللبنانيين من ويلات. فسرق منزلي بكامل موجوداته في مطلع سبتمبر 1975, أي بعد أشهر قليلة على انفجار الحرب الأهلية التي دامت خمسة عشر عاما حتى 1990. وقُدمت لي عروض كثيرة للعمل في الخارج رفضتها جميعها. كذلك آثرت الصمود إلى جانب قلة من المثقفين اللبنانيين والفلسطينيين تحت الحصار الإسرائيلي لبيروت في صيف 1982. فعملنا كل ما بوسعنا لرفع الصوت عاليا ضد الاحتلال الهمجي الإسرائيلي الذي لم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا سوى إحدى حلقاته الدموية.

والطريف في الأمر أن غالبية الذين عاشوا أيام الحصار المريرة وكتبوا في الصحف التي استمرت في الصدور في ظروف صعبة للغاية احتفظوا بفضيلة الصمت وعدم التبجح بتأدية واجب وطني أملاه عليهم الإبداع بالموقف وليس بالنص فقط.

ومازلت على قناعتي الأولى أن لا قيمة للمثقف إلا إذا كانت حياته الشخصية مرآة لثقافته. والثقافة المقاومة هي أعلى درجات الثقافة. وهي فعل إيمان تقوم به الشعوب الحرة التي تقدم أغلى التضحيات دفاعا عن الذات والمصير والمثقف الحر قادر على التعبير عن آلام وآمال شعبه بالكلمة الصادقة. أو باللوحة, أو بالموسيقى, أو بالمسرح, ولعل أروع صور الثقافة أن يرسم المثقف بدمه ملحمة الشهادة دفاعا عن الوطن, ودفاعا عن حرية شعبه وكل الشعوب المناضلة من أجل حريتها.

لقد قام الشعب اللبناني ببطولات خارقة ضد العدو الإسرائيلي وذلك على امتداد الأراضي اللبنانية المحتلة. وقد شاهدت بأم العين عددا من العمليات الرائعة ضد الجيش الإسرائيلي أثناء احتلاله لبيروت. فقدم اللبنانيون نموذجا يحتذى في الصمود وعدم النزوح عن الأرض مهما غلت التضحيات.

أذكر جيدا أن الحياة في العاصمة, ولسنوات طويلة كانت لا تطاق خاصة في فترات القصف المتبادل بين الأطراف المحلية المتنازعة وميليشيات الطوائف المنفلتة من جميع الضوابط الخلقية والإنسانية. مع ذلك, استمر التدريس في الجامعات العاملة في لبنان في ظل صعوبات مرعبة. وتعرض الأساتذة لمضايقات كثيرة من قبل الميليشيات أدت إلى استشهاد عدد كبير منهم, وفي طليعتهم حسين مروة, والشيخ صبحي الصالح, والشيخ حليم تقي الدين, وحسن حمدان (مهدي عامل), وجورج حنا, وجميل إبراهيم وعشرات غيرهم.

القنبلة والامتحانات

ولا أنسى ما حييث يوم انفجرت قنبلة قرب كليتنا ذهب ضحيتها ثلاثة قتلى وجريحان, في حين استمر جميع طلابنا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية, ومعظمهم من الطالبات, يكملون أجوبتهم على أسئلة الامتحان. وأذكر أن زميلا عزيزا كان يشاركني الرقابة في الامتحان توجه إلي بالعبارة التالية: (إن ظروف العمل لا تساعدنا على البحث والتأليف في لبنان, لكن حسبنا فخرا أننا نساهم في توليد جيل من الطلاب لا يهاب الموت بل يصر على استيعاب الثقافة وهو على قاب قوسين أو أدنى منه. نحن نعدجيل النصر بعد أجيال متعاقبة من الهزائم. فشباب يصر على طلب العلم على حافة قنبلة وفي ظروف حرب أهلية قذرة لا يقيم قادة المليشيات فيها وزنا للعلم والمثقفين, هو جيل لا ترهبه إسرائيل وكل حلفائها, الثقافة أقوى من الموت, لا بل هي نقيضه, وطائر الفينيق سينبعث من رماده, ونبع الحياة يتجدد كل عام ناصعا كثلج لبنان).

وثابرنا على العمل الثقافي الطليعي في (اتحاد الكتاب اللبنانيين), و(المجلس الثقافي للبنان الجنوبي) و(الرابطة الثقافية في انطلياس) وغيرها من المؤسسات الثقافية اللبنانية التي لعبت دورا طليعيا يثير الإعجاب ويستحق كل الشكر والتقدير. فنشطت العروض المسرحية, والمعارض الفنية, واستمرت دور النشر تعمل في بيروت والمناطق اللبنانية طوال الحرب الأهلية. وكان نتاجها يفوق أحيانا النتاج الثقافي والفني والمسرحي, كما ونوعا, لما يماثله في دول عربية أخرى.

واستمرت الفرق المسرحية والفنية ودور النشر اللبنانية تحصد جوائز تقديرية في معظم الدول العربية, وتعيد الألق الدائم لصورة لبنان الثقافي التي شوهتها بنادق الميليشيات الأخوية المتناحرة.

كان علينا جميعا أن نتأقلم مع ظروف الحرب ونمارس التدريس في ظل المدافع الأهلية والإقليمية والدولية.وحلت بنا أزمات مالية لا حصر لها بعد أن انهارت الليرة اللبنانية وانهار معها راتبنا وكامل مدخراتنا المحدودة. مع ذلك, بقي الاعتزاز بالصمود في الوطن والدفاع عن سيادته, واستقلاله, والحفاظ على مستوى ثقافي متميز لأبنائه يثير لدينا راحة نفسية لا يجدها مثقف هاجر بحثا عن شهرة أو مال أو راحة جسدية.

إلى جانب التدريس الجامعي, اشتركت في تأسيس (رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية) وفي نشاط (اتحاد الكتاب اللبنانيين) حيث تسلمت أمانة السر فيه عام 1978, وللمرة الثانية عام 1991 ـ 1992. كذلك شاركت في الهيئة التنفيذية للجمعية العربية لعلم الاجتماع منذ عام 1988, وفي اتحاد المؤرخين العرب حيث أشغل مركز الأمين العام المساعد لشئون البحث العلمي ووسام المؤرخ العربي منذ 1992. وقد منحتني مؤسسة عبدالحميد شومان جائزة العلماء العرب الشبان عن العلوم الإنسانية لعام 1983, ثم انتدبتني مرتين كعضو لجان التحكيم فيها. ومنحني اتحاد المؤرخين العرب وسام المؤرخ العربي عام 1993 إلى جانب أساتذة لي وزملاء من صفوة المؤرخين اللبنانيين. فأشرفت على إصدار عدد خاص من مجلة (المؤرخ العربي) حمل الرقم 52 لعام 1995, تكريما للمورخين الأعلام المتوفين, ثم أعدنا نشر المادة في كتاب صدر عام 1997 بعنوان: (مؤرخون أعلام من لبنان).

في هذا المجال, أرى لزاما علي الاعتراف لمؤرخين كبار لعبوا دورا ملحوظا في حياتي الثقافية فكانوا لي نعم المثال في سعة الثقافة وصلابة الموقف الوطني والقومي, وأخص بالذكر منهم يوسف إبراهيم يزبك, وعبدالعزيز الدوري, وقسطنطين زريق, مع تحية حب وتقدير للدكتورة زاهية قدورة.

على صعيد الإنتاج الثقافي, كانت محصلة هذه المرحلة إصدار عدد من الكتب غلب عليها الهم العربي على الهموم الثقافية الأخرى, وأبرزها: (المشرق العربي المعاصر, من البداوة إلى الدولة الحديثة), و(مجابهة الغزو الثقافي الإمبريالي الصهيوني للمشرق العربي), و(الدولة والمجتمع في المشرق العربي) و(مشكلات بناء الدولة الحديثة في الوطن العربي).

إلى جانب العربية والفرنسية تعلمت الإنجليزية بهدف الاطلاع على وثائق الأرشيف البريطاني وقد قمت بزيارة لندن عدة مرات. كذلك تعلمت اللغة الروسية لمدة ثلاث سنوات في لبنان ثم قمت بزيارة موسكو مرارا بهدف الاطلاع على الأرشيف الروسي ونشر بعض وثائقه الخاصة بلبنان والمشرق العربي. والتحقت بدورة مكثفة لتعلم الروسية في معهد بوشكين في موسكو.

في هذه المرحلة بالذات غلب هم نشر الوثائق التاريخية الروسية على ما عداه من مشاغلي الثقافية وذلك على الرغم من مشاركتي النشطة لحضور المؤتمرات العربية والدولية حول الوطن العربي وتقديم أبحاث علمية نشرت ضمن وثائقها, فأشرفت على ترجمة ونشر ستة مصادر مهمة هي من أفضل الوثائق حول المشرق العربي في القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين.

كذلك ساهمت في تقديم أبحاث علمية ضمن أكثر من عشرين كتابا ثقافيا جماعيا نشرت بالعربية, والفرنسية, والإنجليزية حول موضوعات ذات صلة بتطور الدول العربية في التاريخ الحديث والمعاصر, إلا أن دعوة وصلتني من معهد الاقتصاديات المتطورة في طوكيو لزيارة اليابان لمدة عشرة أشهر في عام 1989 ـ 1990 غيرت الكثير من برنامجي الثقافي. وأثناء زيارتي الأولى لليابان أتيحت لي الفرصة لمعايشة ثقافة من نوع جديد تختلف جذريا عما ألفناه من الثقافات الغربية. وما إن أنجزت دراستي التي نشرت بالإنجليزية في طوكيو عن (تطور لبنان الاقتصادي ـ الاجتماعي والحرب الأهلية فيه 1943 ـ 1990) حتى طلبت العودة إلى اليابان لدراسة تجربة التحديث فيها منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى الآن. فقد لفت نظري خلو الساحة العربية تماما من أي دراسة علمية موثقة توثيقا جيدا عن اليابان. كما أن ما يترجم من الدراسات والروايات عن هذا البلد الرائع لايزال, في الغالبية الساحقة منه, يترجم عن اللغات الأوربية, فتحمس اليابانيون للفكرة ودعوني إلى طوكيو لفترات متقطعة خلال أعوام 1993 و 1995 وكانت المرة الأخيرة لمدة عام كامل كأستاذ باحث في معهد الدراسات الشرقية في جامعة طوكيو للعام الجامعي 1997 ـ 1998. فباشرت بتعلم اللغة اليابانية في معهد اللغات التابع لجامعة طوكيو طوال العام المنصرم, على أمل متابعة تعلمها.

وبعد الهم الياباني

تجدر الإشارة إلى أن مؤسسة فولبرايت الأمريكية كانت قد منحتني الفرصة لزيارة واشنطن وإعداد بحث توثيقي عن (المسألة اللبنانية من خلال الأرشيف الأمريكي). فأمضيت النصف الثاني من عام 1995 بجامعة جورجتاون في واشطن كأستاذ باحث, تعرفت خلالها على وثائق الأرشيف الأمريكي حول لبنان والمشرق العربي, وحملت معي أكثر من عشرين مجلدا من الوثائق الأمريكية المصورة, بالإضافة إلى عدد مماثل من الميكروفيلم كلفتني الجامعة اللبنانية بشرائها ووضعها في متناول الباحثين في لبنان.

في هذه المرحلة غلب الهم الياباني على باقي همومي الثقافية, فصدرت لي بالإنجليزية دراسة بحجم يزيد على المائة صفحة تحت عنوان: (عملية التحديث في مصر واليابان في القرن التاسع عشر, دراسة مقارنة). وأنجزت دراسة بالإنجليزية هي الآن قيد الطبع تحت عنوان: (الاستمرارية والتغيير في تجربة التحديث اليابانية في النصف الثاني من القرن العشرين).

لقد استفدت الكثير الكثير خلال إقامتي في اليابان لفترة تجاوزت السنتين وأربعة أشهر بشكل متقطع ما بين 1989 و1998. فتعلمت المباديء الأولية للغة اليابانية على أمل العودة إلى اليابان في السنوات القادمة بهدف استكمال البحث والتوثيق لنشر عدد من الكتب عن حركة التحديث اليابانية منذ القرن التاسع عشر حتى الآن. فهي التجربة الأولى والناجحة للتحديث خارج المركزية الأوربية الأمريكية.

إلا أنها تفاعلت مع الغرب بشكل خلاق انطلاقا من شعار الإمبراطور المصلح مايجي Meiji الذي خاطب اليابانيين بالقول: (الحقوا بالغرب وتجاوزوه) وبالفعل. عرف اليابانيون كيف يستفيدون, إلى الحد الأقصى, من التكنولوجيا والعلوم الغربية, إلا أنهم وفي الوقت عينه, عرفوا كيف يحمون المجتمع الياباني من سلبيات التغريب, والأوربة, والأمركة, وكيف يحافظون على أصالة اليابان التي توغل في حداثة مدروسة تحمي التراث وتدافع عن قيمه الإيجابية. وقد سحرني جمال الطبيعة والمكان في اليابان, إلا أنني شعرت بمحبة عارمة للشعب الياباني بسلوكه الإنساني المفعم بالقيم الروحية في الحوار بين اليابانيين أولا, وفي علاقاتهم مع الشعوب الأخرى.

إلا أن تجربة التحديث اليابانية لم تقدم للآخرين بوجهها الإنساني الحقيقي.ويتحمل اليابانيون أنفسهم مسئولية التقصير في هذا المجال. فقد تركوا الساحة للإعلام الغربي ليشوه عمدا صورة اليابان, ويقلل من أهمية نموذج تحديثي خارج المركزية الأوربية والأمريكية, مظهرا الشك الدائم بقدرتها على التحول إلى نموذج عالمي يحتذى في مجال الجمع بين حداثة دون تغريب وأصالة لا تتعبدللتراث والماضي الذهبي. فرأيت من واجبي أن أجمع عددا كبيرا من الوثائق والدراسات عن اليابان فاق عددها الستين مجلدا, بالإضافة إلى كثير من الكتب والمجلات, وعلي الانصراف في السنوات القادمة إلى نشر كتب ومقالات علمية للتعريف بحقيقة تجربتي التحديث في اليابان, والإمكانات الكبيرة المتاحة أمام العرب للاستفادة من اليابان في بناء نهضتهم الثانية على أسس جديدة.

أخلص إلى القول أن جاذب ثقافة المكان حملني على زيارة أكثر من خمسين بلدا تضم مدنا ذات جمال طبيعي أخاذ, ولها شهرة ثقافية متميزة. ومع اتساع رقعة الأصدقاء أتيحت لي فرص عدة للمشاركة في أكثر من مائتي مؤتمر أو ندوة علمية, داخل الوطن العربي, وخارجه. هذه العلاقة التي أعتز بها كثيرا هي مصدر سعادتي الحقيقية, وأنا أتبادل من خلالها أعمق أواصر الود مع أصدقاء يزورونني في لبنان كما أزورهم في بلدانهم وأشعر معهم بهم ثقافي واحد ذي بعد إنساني شمولي.

ثقافة المكان تزداد حميمية وفاعلية لحظة اندماجها بثقافة ملتزمة بقضايا الإنسان, والحرية, والديموقراطية. نداء الأمكنة وثقافاتها مازال قويا لدي وكلي رغبة لإكمال المسيرة حتى النهاية.

 

مسعـود ضـاهـر

 
 




تاريخ لبنان الاجتماعي





الدولة والمجتمع في المشرق العربي













مشكلات بناء الدولة الحديثة





المشرق العربي المعاصر من البداوة إلى الدولة الحديثة