الصوم تحت مجهر العقل

الصوم تحت مجهر العقل

ربما كانت أكثر العبادات التي استأثرت بالتفكير على مستوى العقل والعلم هي تشريع صوم رمضان.

لقد أجهد العلماء والأطباء والفلاسفة عقولهم ومداركهم بغية حصر ما ينطوي عليه الصوم من فوائد وحكم ودلالات، فما وقفوا إلا على اليسير الذي أثبتته تجارب الطب والعلم. وألمحت إليه بعض نصوص الوحي المعصوم، وارتاحت إليه الأرواح والنفوس الطيبة المطمئنة، وهكذا هي التشريعات الإلهية لا يمكن للمدارك والعقول أن تحيط بجل أسرارها وأبعادها والحكمة من تشريعها وفرضيتها، بيد أن إقرار هذه الحقيقة لا يعني من جهة أخرى انتفاء أهمية وقيمة ما يمكن أن يتوصل إليه العقل والتجربة مما له صلة بتشريع من التشريعات الإلهية.

وعن حمل هذه الإيماءات على محمل العقل يقول سيد قطب في تفسيره ذائع الصيت: "فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد، كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق.. وذلك إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمن من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان، ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات ـ بصفة خاصة ـ بما يظهر للعين من فوائد حسية، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره في الأرض، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة.. مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض والتوجيهات، وذلك ارتكاناً إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان". (في ظلال القرآن ج،1 ص 167).

ومن دون شك فإن هذه النظرة المتوازنة المعتدلة تمكننا من الوقوف على بعض المدركات العقلية المتعلقة بأسرار الصوم وحكمة تشريعه، وذلك بطبيعة الحال بجعل الاهتداء والنظر فيما ورد بهذا الشأن من المنقول والمظان المعصومة إجمالاً منطلقاً للفكر والمعقول أملاً في الإحاطة بأسرار وأبعاد هذا التكليف.

يتميز الصوم عن بقية العبادات والشعائر المفروضة على المكلف المسلم بسر خاص يتعلق بنية الصائم التي لا يعلمها إلا الله تعالى.

فقد جاء في حديث قدسي في رواية لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قال الله عز وجل: كُلُّ عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن سابه أحدٌ أو شاتمه. فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه.

فضائل الصيام

وللإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبي قبلي، أما الأولى فإنه إذا كان أول ليلة منه نظر الله إليهم، ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبداً، وأما الثانية فإن الملائكة تستغفر لهم كل يوم وليلة، وأما الثالثة فإن الله يأمر جنته فيقول لها: تزيني لعبادي الصائمين فإنه يوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى دار كرامتي، وأما الرابعة فإن رائحة أفواههم حين يمسون تكون أطيب من ريح المسك، وأما الخامسة فإنه إذا كانت آخر ليلة منه غفر الله لهم جميعاً، فإن العمال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم (أخرجه أبوداود).

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله (رواه الطبراني).

وينطوي الصوم على الكثير من الحكم والأسرار التي لا يمكن حصرها، فهو محك للإرادات النفسية، وقمع للشهوات الجسمية، ورمز للتعبير في صورته العليا، ورياضة شاقة على هجر اللذائذ والطيبات، وتدريب منظم على حمل المكروه من جوع وعطش وسكوت، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه، وتحكمه في أهوائها، وقد أثبت الطب الحديث ـ عن طريق التجربة العلمية ـ أهمية الصوم في علاج الكثير من الأمراض والأسقام التي ما فتئت تنخر وتحطم صحة وأبدان بني آدم، ولم يُعثر لها على علاج شاف، بل إن العلم يؤكد على أهمية الصوم حتى بالنسبة للأصحاء أنفسهم.

الصيام بمنظار غير المسلمين

يقول الدكتور الإمريكي "ماك فادون" ـ في حوار له كانت قد أجرته معه إحدى المجلات العلمية الأمريكية: لقد عالجت كثيرا من الأمراض عن طريق الصوم.. إن كل إنسان يحتاج إلى الصيام وإن لم يكن مريضاً، لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض، فتثقله وتقلل نشاطه.. فإذا صام خف وزنه وتحللت هذه السموم من جسمه بعد أن كانت مجتمعة فتذهب عنه، حيث يصفو صفاءً تاماً، ويستطيع بعدئذ أن يسترد وزنه ويجدد حيويته في مدة لا تزيد على العشرين يوماً بعد الإفطار، ولكنه يحس بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل.

وأضاف هذا الحكيم قائلاً: إن أكثر الأمراض تأثرا بالصيام أمراض المعدة، فالصوم بالنسبة لها كالعصا السحرية، فهو يسارع تماماً في شفائها، ويرى المعالج به العجب العجاب.. وتلي أمراض المعدة، أمراض الدم ثم أمراض العروق كالروماتيزم وغيره.

وكان الزعيم الهندي المهاتما غاندي يقول عن الصوم: إن الصيام بالنسبة للروح كالعين للجسد، فما تفعله العينان للدنيا الخارجية، يفعله الصوم للدنيا الباطنية.

وسُئل يوما الفنان الإيطالي العالمي "مايكل أنجلو" عن سر صحته الجيدة، ونشاطه المتدفق ـ بعد أن جاوز الستين ـ فقال: إنني أعزو احتفاظي بالصحة والقوة والنشاط في سنوات كهولتي إلى ممارستي الصوم من حين لآخر. ففي كل عام أصوم شهراً، وفي كل شهر أصوم أسبوعاً، وفي كل أسبوع أصوم يوماً، وفي كل يوم آكل وجبتين بدلاً عن ثلاث!.

أما حجة الإسلام أبي حامد الغزالي فيقول: الصيام زكاة للنفس، ورياضة للجسم، وداع للبر، فهو للإنسان وقاية، وللجماعة صيانة.. وفي جوع الجسم صفاء القلب، وإيقاد القريحة، وإنفاذ البصيرة، لأن الشبع يورث البلادة، ويعمي القلب، ويكثر الشجار في الدماغ فيتبلد الذهن، والصبي إذا ما كثر أكله بطل حفظه، وفسد ذهنه.. أحيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع وقلة الحسد، وطهروها بالجوع حتى تصفو وترق. وبخصوص علاقة وآثار الصيام إزاء الحفاظ على الصحة المتوازنة، فمن المعروف لدى الجميع أن مرض السكر له علاقة وثيقة جداً بالطعام وكمياته ونوعه وطريقة طهيه، ولقد كانت الطريقة المتبعة في علاج مرض السكر قبل اكتشاف الأنسولين والأدوية الحديثة التي تستعمل في الفم هو الإقلال من تعاطي المواد النشوية، وقد أتبع في ألمانيا وأمريكا في أواخر القرن الميلادي الماضي وأوائل القرن العشرين طريقة السيطرة على مرض السكر في الحالات المتوسطة عن طريق الصوم لمدة يومين إلى أسبوعين، وقد أوصى البروفيسور "نوفن" أبو السكر في العصر الحديث" المرضى أن يصوموا تماماً عن الطعام، ما عدا تناول العصير بكميات قليلة لمدة يومين.

فالصوم يقيناً ـ كما أثبت العلماء والعلم الحديث ـ ذو فائدة كبرى في السيطرة على مرض السكر خاصة عند بدء اكتشاف المرض.. وهكذا تتبدى الحكمة الربانية الجليلة في تشريع الصوم، وجعله فرضية في الدين الإلهي الخاتم، وفيما قبله أيضاً من تشريعات السماء.

نحن والصوم..!

لكن وعلى الرغم من تضافر ما تهدي إليه النصوص المعصومة، وما يؤكده العلم والتجربة، من أهمية الصوم، وآثاره الجليلة النافعة روحياً ونفسياً وصحياً واجتماعياً، فإن واقع المسلمين اليوم يُعد بعيدا عن أهداف ومدلولات هذه الشعيرة الدينية الجليلة.

إنه من المؤسف حقيقة، بل من المخجل ألا يستوعب المسلمون غايات ودلالات ومقاصد البناء الاجتماعي والحضاري في شعائرهم التعبدية، وشرائعهم السلوكية والفكرية وغيرها، فصوم رمضان في الكثير من مجتمعات المسلمين اليوم هو صورة قاتمة حقيقية، ماثلة للكسل وهدر الطاقة والوقت، والاستهلاك الفوضوي البعيد تماما عن الوعي والعقلانية، وروحانية الإسلام الحقة.. وأخلاقيات هذا الدين الحضارية..

ومن إنه من الواجب على مختلف المجتمعات الإسلامية تقديم صورة مشرقة لعباداتهم ومناسكهم وسلوكياتهم، ليس فقط في شهر رمضان، وإنما على سبيل الدوام.. حتى تكون هذه المجتمعات في موضع القدوة والمثل، ولله در سلفنا الصالح إذ قال: إذا صُمت فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.

 

إبراهيم نويري