الشرعية الإسلامية والشرعية الدستورية
الشرعية الإسلامية والشرعية الدستورية
من المكتبة العربية تأليف: الدكتور إبراهيم دعيج الصباح الشريعة الإسلامية والشرعية الدستورية تنافر أم توافق? تعارض صريح أم مواءمة ممكنة? وما هو موقف المذاهب الفقهية التقليدية والتيارات الفكرية والسياسية المعاصرة من هذه القضية المتفجرة? وهل نجح المجتمع الكويتي الحديث في تحقيق التوازن المنشود بين احترام القواعد والأصول الشرعية ووضع أسس المشروعية الدستورية المنسجمة مع تلك القواعد والأصول المعاضدة لها في إطار عصري مناسب لحاجات المواطنين ومتطلبات العصر? تلك هي الأسئلة الصعبة التي تصدى لها بحدب وموضوعية فائقة الدكتور الشيخ إبراهيم دعيج الصباح في مؤلفه الصادر أخيرا عن دار الشروق بالقاهرة, والذي ينقسم إلى اثني عشر فصلا لا تغيب عن عنوان أيها كلمة الشريعة أو كلمة الدستور. فالدراسة من ناحية تأصيلية في بيان القواعد الشرعية المتعلقة بأساس الحكم وممارساته ومجالات الاجتهاد فيها, ومن ناحية ثانية تطبيقية في بيان التطور التاريخي للأوضاع الدستورية في دولة الكويت والمقومات الأساسية للحكم فيها, ومن ناحية ثالثة تحليلية في بيان العلاقة الجدلية بين الشريعة والدستور في النظرية والتطبيق. في مقدمة الدراسة حدد المؤلف مفهومها الأساسي وهو (الشريعة التي ينبثق عنها الفقه الذي يشكل مجموعة الأحكام, ومن الأحكام الأساسية يوضع الدستور, وما يتبقى من أحكام تسن بشكل قوانين تتغير وتتبدل حسب المجتمع وتغير الظروف الداخلية والخارجية والمصالح المرسلة). ويحدد المؤلف هدفه من دراسته بكونه (تبيان أوجه الاتفاق أو الاختلاف بين الدستور الكويتي والشريعة الإسلامية. لكن ما يجب أن يكون واضحا منذ البداية هو أن الدستور الكويتي قائم بصورة مواد محددة وواضحة ومفسرة في المذكرة التفسيرية. أما النظرية الدستورية الإسلامية فمرجعها الرئيسي الشريعة (أي القرآن والسنة) وبالنسبة لكليهما لا يوجد اتفاق بين الفقهاء لاستنباط إسلامي موحد لأن تفسير الآيات هو محل جدال بين العلماء كما أن الأحاديث لا تحظى بالاتفاق على صحة عدد كبير منها). وعندما يتصدى الكاتب لموضوع شائك مثل هذا الموضوع فإنه لا تنقصه الصراحة حينما يقرر في نهاية مقدمته بأنه (يشعر بأنه ورط نفسه في دوامة يصعب الخروج منها بسلامة علمية, نظرا لأن الموضوعات الدينية دقيقة وحساسة, وما يزيد من الحساسية إصرار الكاتب على الخروج من هذه المهمة بشعور الذي أدى واجبه نحو الحقيقة العلمية ومصلحة الكويت). وللخروج من هذه (الورطة) إذا جاز التعبير بأقل الأضرار الممكنة فإنه يلزم توافر صفات عديدة في الباحث أبرزها الموضوعية والوسطية والصراحة العلمية وهي صفات يلاحظ القاريء توافرها في ثنايا هذه الدراسة. فمنذ البداية يصرح المؤلف بوضوح بأنه (عند مقارنة الدستور الكويتي مع الفقه سنرى أنه توجد عدة مدارس فقهية وعدة مذاهب وآراء, وبأيها نأخذ فلا ضير علينا. والمقصود بهذا الكلام هو أنه قد يأتي باحث آخر أو قاريء لهذه الدراسة فيقول بأن الكاتب جانبه الصواب إذ لا تتفق هذه المادة من الدستور مع الفقه, لهذا يجب وضع النقاط على الحروف منذ البداية والإعلان بأن الكاتب لا يتقيد بفقه معين أو مذهب محدد في هذه الدراسة بل ما يلتزم به هو ذكر الآراء المختلفة, مع الاحتفاظ بحقه الديني والعلمي في اختيار الرأي الذي يريده خاصة أنه يأخذ بطريقة العقل ودوره في الاختيار بين البدائل عند النقل). تقنين الشريعة في الفصل الأول وعنوانه (الشريعة والدستور) يورد الكاتب تعريفات ومعاني مختلفة لغوية وفقهية لتعبير (الشريعة) الذي يجب تمييزه عن تعبير (الفقه). فالشريعة تعتبر مصدرا للفقه والدساتير, ويتعين كما أشار جارودي عدم الخلط بين الشريعة والفقه لأن (هذا الخلط الذي تشكل في القرون الماضية سيحدث انقساما بين المسلمين ويترك الآلاف منهم عرضة لليأس والتشتت). ويؤيد المؤلف تقنين الشريعة بواسطة السلطات المعترف بشرعيتها لأن ذلك (يضع حدا لكثير من الأمور وينهي ادعاء هذا الفريق أو ذاك بأنه إنما يتكلم أو يطالب باسم الأكثرية, فالتقنين هو التشريع الصادر عن هيئة تشريعية تمثل الشعب الذي فوضها للتشريع باسمه إلى جانب حكومة حاصلة على ثقة ممثلى الشعب مع رأس للدولة لا غبار على شرعيته, والدستور كما سنرى هو قانون, ولكنه قانون سياسي). ولكن تقنين الشريعة يجب (أن يمر عبر الفقهاء والعلماء في مختلف فروع المعرفة والسلطات السياسية المختصة, وليس فقط عبر الفقهاء الذين هم في الغالب علماء لغة وحفظة القرآن الكريم والأحاديث الشريفة الصحيحة والموضوعة منها). فالواقع أن العصر الحاضر (يختلف جذريا عن الماضي بتشابكاته وتنظيماته واكتشافاته العلمية الواسعة والتداخلات عبر حدود الدول, لذلك لابد من معادلة توفيقية علمية تجمع كل من بإمكانه أن يسهم في الخروج بمجموعة قوانين تلبي حاجات المجتمع والفرد, فالشعب بإرادته والحكم بسلطاته وشرعيته والعلماء بتنوع اختصاصاتهم مدعوون لهذا الواجب الكبير). وتقتضي عملية تقنين الشريعة وتطبيقها بسلاسة وترحيب المرور بفترة انتقالية تتمثل في عملية تحضير للمجتمع لهذه النقلة حتى تتم على الوجه الذي يرتضيه الإسلام والمسلمون في مجتمعهم. فالإسلام تربية سليمة وروح قويم وضمير مستقيم قبل أن يكون تطبيق عقوبة, والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول (ادرءوا الحدود بالشبهات) وفي حديث آخر يقول (تعافوا في الحدود). وعندما ندرك أن القرآن حمال أوجه وأن الشك في كثير من الأحاديث قائم, نصاب بالهلع من خطورة مسئولية تقنين الشريعة لما قد يترتب عنها من نتائج تنال الحياة والحريات والممتلكات. وعلينا أن نتذكر دائما بأن الشريعة إلهيه والتقنين بشري, أي أن التقنين يعني تطبيق الشريعة ليس بالضرورة كما أرادها الله بل كما يظن الفقيه أنه أرادها, أو حتى كما يريدها الفقيه أن تكون). كذلك فإن الشريعة التي هي أقدس شرعية لكي تتحول إلى شرعية دستورية فشرعية قانونية لابد لها من المرور عبر المؤسسات التمثيلية كنتيجة لانتخاب حر شامل يعطي الحق للسلطة التشريعية بتبني القوانين معبرة بذلك عن رغبات الشعب. ولذا يخلص الكاتب إلى أن ربط الشريعة بالدستور وربط الدستور بالشريعة وربط الاثنين بالحضارة الإنسانية مسألة على جانب كبير من الأهمية. فتطور القانون هو نفسه تطور الحضارة, وكلما كانت القوانين التي يتقيد بها الأفراد والجماعات والدول متقاربة, عم الانسجام في العالم. الاجتهاد وحتمية التجديد وفي مستهل الفصل الثاني المعنون (نحو نظرية دستورية إسلامية) يؤكد الكاتب أن بعض المفكرين وعلماء ومؤرخي المسلمين يرون أن مفهوم الدستورية ليس بغريب أو جديد على الإسلام ويعتبرون أن أول دستور أو وثيقة قانونية أو تعهد صدر فور هجرة الرسول من مكة إلى المدينة. ويتصدى المؤلف في هذا لأكثر الموضوعات على الساحة الإسلامية جدلا وهو الاجتهاد وحتمية التجديد وما يرتبط بذلك من تيارات فكرية ودعوات سياسية. فالعالم الإسلامي (يزخر بمجموعة من الحركات والمدارس الفكرية والفرق: من هذه الفرق من قال بوجوب اعتماد سياسة إرشادية تربوية تغرس تعاليم الإسلام في النفوس, ومنها من قال بوجوب فتح الاجتهاد والإتيان بفقه يتماشى والواقع, ومنهم من قال بتكثيف الدعوة والعمل على حمل الناس للعودة الفعلية, وليس فقط الشكلية, للدين ومنهم من حمل لواء المعارضة للحكومات لاعتبارها غير إسلامية, ومنهم من كفر الحكم والمجتمع وحمل السلاح..). ومن خلال متابعة عرض الكاتب لهذا الموضوع الشائك نستطيع استنتاج بعض العلامات الهادية التي يتمسك بها وهي: ـ ان الاجتهاد في الشريعة الإسلامية محدد بنطاق النصوص وتفسيرها. فأمام المجتهد نوعان من الأحكام: القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيها, والظنية القابلة للاختلاف في التفسير مع عدم تجاوز نطاق الأصول والقواعد المتبعة, إذ إن المجتهد لا يملك أن يبتدع الأحكام التي يريد. ـ أن الصراع ـ الحوار بين التقليديين والتجديديين, بين التراث والحداثة, أي بين الإسلام وواقع العصر ينطلق من أرضية مشتركة تعمل لخير الإسلام والمسلمين, والخلاف لا يتعدى حدود الرأي وتباين وجهات النظر الاجتهادية. ـ أنه ليس كل ما في الغرب مرفوضا وليس كل ما استنبطه قدامى الفقهاء واجب التبني, فالزمان زماننا والمكان مكاننا, وكما قال أبو حنيفة عن الصحابة ومن اجتهد بعدهم (ان القوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا). ـ أنه لابد من ذكر أن الشريعة لم تطبق بالكامل ولا في مرحلة من مراحل التاريخ وهي مسألة تناولها عدد كبير من رجال الفكر والمؤرخين والعلماء. ولذلك فإن تطبيق الشريعة في أوائل القرن الحادي والعشرين يستدعى التفكير العميق وإعمال الجهد العقلي في محاولة قاسية للتوفيق بين التقليد والتجديد أو بين الشريعة وواقع العصر الذي نعيشه. ـ أنه بمقدار ما هو سهل استنباط دستور إسلامي من الشريعة اعتمادا على النقل والتراث, أو بمقدار ماهو سهل وضع دستور إسلامي عصري, فإنه من المستحيل الاتفاق إسلاميا أو عربيا على دستور يقبل به العلماء ورجال الاختصاص أو حتى العلماء فيما بينهم, وليس المقصود علماء السنة والشيعة فقط, بل علماء السنة فيما بينهم. الدستور.. والخلافة وفي الفصل الثالث المعنون (مرحلة الدستورية في العالم العربي) يستعرض الكاتب التجارب الدستورية الحديثة في عدد من البلاد العربية بالإضافة إلى الدولة العثمانية ويخلص إلى نتيجة لا تشي بكثير من التفاؤل. فنحن أمام (بلدان عربية متأثرة اجتماعيا بالأتراك أولا وبالفرنسيين والإنجليز ثانيا وبالطليان إلى حد ما ثالثا. لهم ميزاتهم الخاصة في كل بلد أو مجتمع تجمع بينهم العروبة والإسلام والتقارب في الثقافة السياسية ودرجة التطور, جميعهم خبروا نوعا من الاحتلال. الأنظمة السياسية إما ملكية أو إمارة أو جمهورية. أما دساتيرها فتختلف من بلد لآخر مع جامع واضح وهو استيرادها من الغرب. والقاسم المشترك الآخر بين هذه الدول العربية ولو بدرجات متفاوتة هو أن إدراكها لمفهوم الدستور لايزال دون المستوى المطلوب, لأن الأساس في العلاقات هو الشخص وليس المؤسسة, ومن الممكن إعادة هذه الشخصانية لقوة الثقافة القبلية المتأصلة في النفوس بالرغم من الحياة الحضرية التي تعيشها بعض المجتمعات العربية..). فالمعضلة الكبرى هي (عدم التقيد بما ينص عليه الدستور سواء كان لناحية الصلاحيات الحكومية وتوزيعها والعدالة في ممارستها أو الحفاظ على الحقوق والقيام بالواجبات وتأمين المساواة في الفرص.. فالدساتير كنصوص لا قيمة فعلية لها بل القيمة هي في التقيد بهذه النصوص). ويستشهد المؤلف بما ذكره أستاذنا الدكتور يحيى الجمل من أن (خطورة هذا الأمر تتضح عندما ندرك أن المواطن العربي لم يعد يأخذ نصوص الدساتير والقوانين مأخذ الجد وإنما أصبح يأخذها كما تؤخذ الشعارات البراقة واللافتات التي تعلق في كل مكان والتي لا تعني شيئا قط. واعتقد أن هذه الظاهرة الخطيرة والموجودة في الغالبية العظمى من أقطار الوطن العربي هي أحد أسباب وأحد مظاهر أزمة الديمقراطية في الوقت نفسه). ويخصص الكاتب الفصول من الرابع إلى العاشر لمراحل التطور الدستوري في الكويت وتحضير الدستور الحالي وتحليل علاقته بالشريعة الإسلامية من خلال تفصيل مقوماته الجوهرية وما يتضمنه من مباديء أساسية للحقوق والحريات العامة, فضلا عن بيان الجذور الغربية للدستورية الكويتية. وبعد استعراض مطول لمراحل التطور الدستوري في الكويت منذ نشأة هذه الدولة واستقلالها يخلص المؤلف إلى أن العلماء والدستوريين الذين بحثوا في نظام الحكم في الكويت يصفونه بأنه نظام قانوني بمعنى خضوع السلطة الحاكمة للقانون, أي أن إرادة الحاكم ليست هي القانون, بل خاضعة له. وما يقيد الحاكم يمكن تلخيصه أولا: بالشورى الملزمة, ثانيا: التقاليد والقواعد العرفية, ثالثا: التقيد بأحكام الشريعة الإسلامية وخاصة بأمور الأحوال الشخصية. وفي تعرضه لمسألة الخلافة يؤكد الدكتور إبراهيم دعيج الصباح أن (موضوع الخلافة والإمامة يدخل في نطاق الفقه لأنها مسألة اجتهادية تتعلق بالفروع وليس بالعقائد. وقد حظي هذا الموضوع باهتمام عدد من العلماء والمفكرين منذ القديم وحتى الآن, وبالطبع لا يتسع المجال للتبسيط في الموضوع, لكن الذي لابد من إثباته هو أنه توجد فئتان: فئة القائلين بأن الخلافة غير ضرورية حتى لو كانت ممكنة, وفئة تقول بأنها ضرورية لكونها واردة في القرآن وتمثل جزءا مهما من التراث وأقل ما فيها هو أنها رمز وحدتنا وقوتنا). وفي هذا يقول المستشار محمد سعيد العشماوي (الكتابة عن الخلافة في الحقيقة كانت تبريرا أكثر منها علما, وكانت تأييدا أكثر منها فقها وكانت مساندة أكثر منها مباينة وكانت معاضدة أكثر منها مكاشفة).. ففي رأيه أن الخلافة (لا علاقة لها بالدين لا من قريب ولا من بعيد), فهي في حقيقتها (نظام سياسي وليست نظاماً دينياً). ويتعرض الكاتب للنص الدستوري الذي ظهر في عدة دساتير من البلاد العربية والذي يؤكد أن (الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع) أو (المصدر الرئيسي للتشريع), ويرى أهمية هذا النص مع ضرورة عدم تفسيره على نحو يمنع المشرع من استحداث أحكام من مصادر أخرى في أمور لم يضع الفقه الإسلامي حكما لها أو يكون من المستحسن تطوير الأحكام في شأنها مع ضرورات التطور الطبيعي على مر الزمن. وفي هذا الصدد يهيب الدكتور الصباح بالجميع (تحكيم العقل في هذه النقطة الحساسة والوعي التام لحقيقة مجتمعنا الإسلامي دينا وأخلاقا ومعاملة, وألا يخرج البعض عن طورهم فينطبق عليهم المثل القائل: إنهم ملكيون أكثر من الملك من حيث رفض اقتباس أي قانون عن العالم الغربي بحجة أن في الإسلام الجواب الكافي لكل قضية وحاجة, وهذا الموقف في الواقع ليس معبرا عن تقدير للدين بل عن جهل به وبسنة الرسول الذي كان يرى في الاقتباس عن أعدائه كسبا للمسلمين إذا كانت مصلحتهم في ذلك أو إذا أشكل عليه أمر, وكثيرا ما كان يستشير أصحابه ويسأل عن كيفية معالجة الروم والفرس لبعض القضايا, ويروي مسلم أن النبي هم بالنهي عن (الغيلة) وهي النكاح في فترة الإرضاع اعتقادا منه أن ذلك يؤذي الطفل, ولكنه عدل عن ذلك قائلا (لقد هممت أن أنهي عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا). فإذا كان النبي وهو من هو يقتبس فكيف نرفض الاقتباس وخاصة في زمن لسنا فيه في الطليعة أو حتى في عداد الدول المتقدمة). الديمقراطية.. والتنوير وفي الرد على بعض المنظرين والسياسيين الذين يحلو لهم أن يقولوا بأن للديمقراطية سيئات عديدة وأنها لا تلائم جميع المجتمعات وأن بعض البلدان ومنها المتخلفة يجب أن تكون لها ديمقراطيتها الخاصة يقول الدكتور الصباح إنه (بصرف النظر عن حسن أو سوء النية الكامن وراء مثل هذا الكلام فإنه مردود عليه من خلال منطقه نفسه وهو: ما هو البديل? فقد قدمت عدة فرضيات ونظريات واجتهادات وتمنيات, ولكن عند تحليلها تتكشف عن واحدة من اثنتين, فهي إما ديمقراطية, وإما غير ديمقراطية, والرأي الغالب في مثل هذه التحليلات هو أن للديمقراطية شروطا ومعطيات معينة, وفي حال غياب هذه الشروط لا يمكن للديمقراطية أن تعمل بكفاءة أو ان تستمر. وهذا الموضوع شغل, ولايزال, حيزا كبيرا من اهتمام علماء السياسة والاجتماع وأجريت الأبحاث المستفيضة حوله, وما توصلت إليه معظمها هو أن الديمقراطية لابد لها من السير في طريق التجربة والخطأ). ويتعرض الكاتب لقضية التنوير (والتنوير نوع من أنواع بث المعرفة, وأولى مستلزمات نشر المعرفة هو وجود أرضية خصبة تقبلها, فهل البيئة الإسلامية العربية تتفاعل مع عمل العقل على حساب مفاهيم أخرى راسخة? ومن الثابت الذي لا يحتمل أي شك أن المجتمعات الإسلامية مجتمعات في صلبها مجتمعات متدينة بصرف النظر عن درجات التدين أو الإيمان, فمهما كانت حدة درجة الإيمان الديني مرتفعة أم متدنية فإن الأعراف والتقاليد والخلقيات المرافقة للتدين بحكم الممارسة والتاريخ تهييء للفرد والمجتمع عقلا باطنا آخر, إذا صح التعبير, فيقف حيال العقل الداعي للتنوير, فالإنسان هو عقل وعقل باطن وفكر خيالي أسطوري لا عقلاني وفي نفس الوقت مادي رقمي تكنولوجي). والواقع أننا عندما نتمعن في السنة المشرفة مسلكاً وحديثاً نرى بوضوح الدعوة والتشجيع لإعمال العقل واستنباط الحكمة والرأي السديد. ولعل أكبر دليل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلـم المشهـور لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن. غير أن تاريخنا الإسلامي لم يستمر على ذلك المنوال لأسباب عديدة حللها المؤلف على مدى فصول دراسته. وحتى عندما بذرت بذرة التجديد والنهضة في القرن التاسع عشر وقبل أن تصبح حركة فاعلة وتنتشر في بقية الأقطار العربية (نامت لينشغل الفكر عنها بالمعارك القومية التحررية الهادفة إلى التخلص من الاستعمار, وبقيت (الحال الإسلامية) في وضع الجمود حتى نالت الدول العربية استقلالها وبدأت الانقلابات العسكرية التي زادت الأمور سوءا فبدأت الحركات الإسلامية تشق طريقها متبعة الوسائل المتعددة والتي يحتاج بحثها إلى مساحات لا تتسع لها هذه الورقة). أشكال للصراع وبالنسبة للوضع في الكويت فإنه (بصورة عامة يشبه الأوضاع في بقية العالم العربي من حيث الصراع الواعي أو اللاواعي بين العلمانية والدين). فالملاحظ في المجتمع الكويتي (ان العلمانية القائمة والتي نحكم عليها من خلال ما ينشر ليست في الأساس معادية للإسلام, بل نلمس في صلبها غيرة على الدين وخلفيته وأهميته بالنسبة لشخص المواطن الحق. فالناحية الاعتقادية لا تمس ولكن الذي يمس هو ما له علاقة بالنظريات أو السبل المؤدية للتجديد والتحديث.. إذن الوجه الأول للصراع الفكري الديني الدستوري أو القانوني في الكويت يتمثل في المعارك الخطابية الإعلامية بين الإسلاميين التقليديين وبين التجديديين الذين يمكن تصنيفهم إلى فئتين: فئة العقلانيين الذين يعتبرون كتابات الطوفي والشاطبي وابن عابدين ومن انتمى لمدرسة (المصلحة العامة) الأساس في البحث عن كل ما يعود على المجتمع بالخير, وهنا نقطة الخلاف الرئيسية إذ إن الخير في نظرهم هو السير في طريق التحديث بصرف النظر عن بعض النواحي الفقهية لأن الواقع وسنة التطور أقوى من أي عامل آخر. والفئة الثانية هي فئة العاملين للتوفيق بين النقل والعقل, ومع إكبار هؤلاء لما أنجزه العلماء من اجتهاد وفقه منذ القرن الأول للإسلام فإنهم يعتبرون أن الاجتهاد عملية لا تتوقف ما دام التطور لا يتوقف, وخلود القرآن في ملاءمته لكل عصر وزمان. وهذه الملاءمة على المجتهد أن يكتشفها من خلال عمل العقل دون أن يمس الثوابت. ومن جهة ثانية, يوجد كذلك صراع بين الإسلاميين أنفسهم. وبصرف النظر عن التكتلات والتسميات فإنهم على خلاف فيما يتعلق بأمور عدة منها موضوع المرأة, ومنها موضوع الديمقراطية والشورى ومنها موضوع التريث أو الإسراع في تطبيق الشريعة, وفوق ذلك كله توجد مجموعة من الإسلاميين لا ترضى بأقل من العودة لحقبة الحكم الراشدي بما فيها من مصطلحات لابد من تحديدها قبل الدعوة للأخذ بها, مثل أهل الذكر وأهل الحل والعقد وأولي الأمر والحسبة وديوان المظالم وما شابه,هذا بالطبع إلى جانب مسألة الخلافة والبيعة). وفي الفصلين الحادي عشر والثاني عشر يتناول المؤلف موضوع الشريعة والدستور من حيث المقارنة بين النظرية والتطبيق ومن حيث الاتجاهات المتباينة سواء على مستوى الأمة الإسلامية ككل أو على مستوى المجتمع الكويتي, خاصة خلال النصف الأخير من عقد تسعينيات القرن العشرين. وفي خلاصة دراسته يؤكد الدكتور إبراهيم دعيج الصباح أهمية إعمال العقل الاجتهادي ومراعاة متغيرات العصر لأن ذلك ليس فقط ضرورة لاستقامة حياة المسلمين وتطويرها في عالم معقد مليء بالصراعات والمنافسة الشرسة اقتصاديا وسياسيا وتقنياً, ولكنه ضرورة أيضا للحفاظ على خلود الإسلام. والمطلوب الآن في الكويت وفي كل البلدان المسلمة هو (الإبداع والخروج بمعادلة عملية توفق بين الشريعة والدستور والقوانين الوضعية, وبين الديمقراطية والشورى, وبين التراث والتجديد, وبين سيادة الأمة وسيادة الشريعة). بعد قراءة هذا العمل ينتابنا الشعور بجسامة التحدي الملقى على عاتق أبناء الأمة ونخبتها المثقفة في السنوات والعقود القادمة, فكيف لهم أن ينجحوا في مهمة لم يتسن لأسلافهم إنجازها على مدى قرون طويلة?
|